صفصافة الدمع

Views: 616

د. قصي الحسين

( أستاذ في الجامعة اللبنانية)

الصفصافة، وأمامها المرجة، تحرس النبع. تستحي أن تبكي، فوقه . العرائس التي تحمل الجرار في أحضانها، على خصورها، تحت آباطها، تتحلق حولها. تنحني تحتها. تتقدم من النبع. تحس بالدموع تبللها، لأنها لامست أطراف الغصون الطرية، وهي تبعدها عن كتفيها. يشبهها شعر أمي، حين تنحني فوق الخابية. كانت تملأ كيلة الماء لنا.

ما رأيت في أمي إلا صفصافة فوق النبع. تنشر شعرها المتموج مثل كركرة النبع. تجففه بمشطها، حين تبتعد إلى كرسيها في الدار، تحت العريشة، آخر الصيف. تلتقط قمح عينيها، فوق طبق الفطور. وحولها الحمامات ترفرف لما يفرط من يدها: فتات مائدة أطفالها، تنفضه أمامها. وتنفض يديها. تنفض شعرها المبلل بالدمع، مثل صفصافة الخابية.

 صفصافة النبع، أمامها المرجة الخضراء والحمراء والصفراء والبيضاء، وبعض الحساسين التي إستيقظت باكرا، تطلب الماء، مثلها صفصافة الخابية، في الدار. حولها الصبية الصغار. تفت لهم راحتيها، أناملها، خبزا وسكرا وماء زهر، من سقي شعرها الطويل حتى النبع.

حين تعلو شمس الدار قليلا، فوق العريشة، تسرع صفصافة الدار، إلى الضروع، تستأذن النعجات والبقرات، والعنزة الشامية. تمشق منها الأطباق: لبنا وعسلا وأزبادا، وخبز ذرة. وقدرا على الوجاق، ينتظر إعتدال الظهيرة، حتى تلتئم العائلة، على أطراف الخوان، في أرض الدار. تغمس بأيديها في الجفنات، تنال يوما زائدا من حياتها.

 شعر أمي صفصافة باكية. سنابل من خيوط الشمس عند الغروب، مبللة بالدمع، تحت سقف العريشة. آه لو أخذت بمنديلي كل هاتيك الدموع التي سبقتني، وخبأتها عطرا لصفصافة تنشر فوقي ظلها، غيمة ترافقني، كلما كنت وحدي في الطريق.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *