الحجّ إلى مُونيخ(15) عُمرة في سُجون ماقبل الفيريس

Views: 312

محمّد خريّف*

من سُجون الصّراط إلى سُجون المعراج

كنا ونحن نتهيّأ لعًبور الصّراط في مطار فرنكفورت وللصّراط سُجون، ومن علامات السّجون مراكز مراقبة يسهر عليها  حرس أمين يقوم بمهمة التفتيش ولا نفهم عنه أو يفهم عنا إلا بلغة الإشارة أوتلعثم العبارة، كل ما في ألأمر أن نعر الصراط بسلام ولا خوف علينا من عوارض العطش و للسوائل أن تمنع بما فيها شربة ماء ها نحن نصل إلى منطقة العبور، ولا هادي لنا ولا مُرشد إلاّ ما نتصيّده من أفواه المُسافرين من لهجة تونسيّة نعلق بأشلاء إيقاعها علوق غارق “شادد  في سبيبة” فنقتفي أثر إيقاع اللهجة فتحضر البهجة وتغيب ينقذ عمرو زيدا ولا يظفر ذلك القريد بصيد أقولها على دين سجع “المقامة” ،وقد لايضحك الهمذاني وهل يبتسم المعري وأسنانه صفراء تقضم صكّ التوبة وفيزا الغفران تفتح أمامنا باب الّسّجون تفتح  طريقنا إلى قاعة انتظار أولى سرعان ما نتحوّل عنها إلى قاعة انتظار ثانية، وأمر الخلاص من التيه والضياع شورى بيني وبين سائر العباد وهم من أولاد البلاد ” تفوح ريحتها من “جبّة الجموسي” نتخيّلها ولا نراها ولا نسمع صداها ، والقوم هنا في حطّ وترحال قد يفهمون عن الألمان مالم أفهمه طيلة أيّام حج لايشبه حجّ أيّام زمان، وقد أفهم عنهم ما فهموا وقد لاأفهم ما يفهمون.

هنا الآن في المحطة الثانية تطول الإقامة و مدة الانتظار أكثر من اللازم ولزوم مالا يلزم ولا حول ولا قوّة لنا إلاّ بما ورثناه عن  أجدادنا من صبر أيّوب والصّبر مفتاح الفرج والرج يمنّ به الله علينا في كل مكان وزمان و هل نحن سُعداء بوجودنا في سجن المعراج وليلته لا يضيئها سراج،وليس لنا إلاّ أن نحمد ربنا المشترك ونشكره أن لذنا بما أوحي لنا  من بين عموم المسافرين والمسافرات بأنّ في أفواهنا ألسنة من لهب ودعاء قد يشبه دعاء المعراج يصعد وينزل بقدرة قادر حكيم  ، والتونسي للتونسي رحمة في زمن الشدّة والزّحمة ،وها ذا شهرالصيام على الأبواب ، ولا صوم لناظر الخطوط فعن صوله وجوله ف”حدّث ولا حرج ” وأمره بضرورة التباعد  التباعد الصحي في لهجة تحتد وترتفع فيغمر أنفاسنا النفير والزفير، ونحن عن مضض نقفل من الحجّ إلى مونيخ مع من قفل، والمعذرة للهمذاني ولست أبا الفتح ولا أبا الغلق.

ولم تكن اسكندريّة داري ولا قرّ في فرنكفورت قراري فكان  حجّنا عمرة في سُجون السكر بلا خمرة قد يتهافت على اقتناء قواريرها أبناء الخضرا وأعناقها تطل كأعناق السقائر ومباسمها من صناديق تعرضها مضيفات يدفعنها بصدورهنّ ولا يقدرن على المرورفيضيق ما بين الصفوف و يختلط الحابل بالنابل وهل يسعد العطشان فيظفر بشربة ماء ولا حياة لمن تنادي فالمضيف نادل يرد على الطلب بالترحيب “وكلام بكلام” ذاك مانرث من جدّنا الجاحظ ، والمعراج من أرضنا ، ولا دخل لطائرتنا ولا علاقة لها بمعراج الرسل و الأنبياء  فلها أن تتأخّر عن موعد إقلاعها وذلك في نظر التقاة رجس من عمل الشيطان ، ولا فائدة ترجى من التذكير بسنة أو فرض و نحن هنا بشرلايمكن أن كون بلا شرّ ، فقط نغتاظ  ونتأففّ ونقهقه ،نلعن الحظّ والبخت ولاسخط  غيرما نلتذّ به في زنزانة الحشروالنشر ولا صمت في صحائف حمام الجحيم ، وزفرصوته نذيرشؤم وجهنّم للحمارخيرمرض، ولا أطفال يزعجون مرقده هنا الآن ومقام المعراج غير مقام الطائرة قد يخالها البوجادي مثلي ساكتة في كبد السماء.

وهل يطمئن الخائف مثلي فينام في زنزانة الوعد والوعيد ؟  وهل يجُوز قتل النفس وحرمانها في الأشهر الحرام من خمرة الجنة  ؟   وقد تقصر رحلة العذاب وتطول رحلة الكلام  و”طلق الريح”  نشمّ عطره عن بعد حين تبدأ جوقة الفرح من مقعد خلفي ولعله صوت مسافرة قلقة من الانتظار يحلو لها أن تثرثر وثرثرتها لاتخلو من نكتة لطيفه ترفه بها  عن بعض النفوس ولله في خلقه شؤون و فنون  تشدو المرأة نسمع صوتها ولا نراها وفي شدوها ما يشبه  الغناء وهل للغناء وقع النواح والدعوات للفوز بالفناء ؟، ولا تشعر مع صوتها بنكد العيش ودم المرأة خفيفا و لم نزنه بمثقال الخير والشرّ ؟

لكن فلتطرب الجميع والجميع قد يصمت في لجظات الذروة وينفجر وكأنه يبتهل فتلهمه  فيلوذ بالدعاء والتوسل قبل البكاء ، وللأزمة تنفرج  وقدلا تطول الرحلة فتحط الطائرة بقدرة خالق لعله يستجيب لدعاء المخلوق ، فتعلن مذيعة الطائرة أنّ موعد هبوط الطائرة قد قرب   فالشكر لله ولسيدي بلحسن الشاذلي وللكابتن الطيار- ولا غزلان الآن هنا في المرسى وحلق الواد…

و الطائرة القادمة من فرنكفورت طائرتنا تونسية لحما ،هاهي الآن تحلّق فتقترب شيئا فشيئا من أرض المطار، و الأعناق تشرئب من داخلها، ولعل البعض من أصحابهايظفر بإطلالة على الحاضرة ،والحاضرة أمّ من أمهات تونس الخضراء التي لم تغب عن القلب والبال وفيها أقول: “هي كماهي بشمسها وريحها ونسيمها وبحرها وغبارها بل بفوضاها ونسيمها مليحة فاتنة” وهكذا إلى أن تحطّ الطائرة في سلام وأمن ، ومن الطائرة نتحوّل فورا إلى مبنى المطار حيث نتعثّرعند المرورفنتوقف  قسرانقط المراقبة الديوانيةوالصحية والأمنية ، وهكذا الى أن تنتهي إجراءات الدخول حتى نجد أنفسنا في باب الخروج ولا ينتظرنا هذه المرة- لا أهل ولا بنون- كما ينتظرنا أنفار حذو  حافلات سياحية نفهم أنها مخصّصة لنقلتنا إلى الحجر الصحي وكأننا نؤخذ على غرّة فنخشى الانقياد إلى الجنة بالسلاسل ….

(يتبع)

***

(*) كاتب من تونس-فرنكفورت/قرطاج- 20أفريل 2020

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *