الشباب الجامعي اللبناني والكفاءات في الهجرة القسرية: تحدّيات بنيويّة وحلول

Views: 647

إعداد: د. مصطفى الحلوة

منذ أن انطلق “مركز تموز للدراسات والتكوين على المواطنية” بفعالياته البحثية، لم يألُ جهدًا في تطارح ملفاتٍ ساخنة وذات راهنية، على تماسٍ مع الواقع المعيش. من هنا كان له أن يُنظِّم ورشة تفكير ونقاش، بالتعاون مع مؤسسة (Hanns Seidel) الألمانية. وقد عُقدت هذه الورشة في جبيل (قاعة المحاضرات 1188)، على مدى يومَي 18 و19 شباط/فبراير 2022، وجاءت بعنوان: ” الشباب الجامعي اللبناني والكفاءات في الهجرة القسرية: تحدّيات بنيويّة وحلول”.

في الجلسة الافتتاحية توالى على الكلام: رئيس “مركز تموز” د. أدونيس العكره، والمسؤول الإقليمي لـِ”هانس زايدل” السيد كريستوف دوفارتس، ومنسق أعمال الورشة د. حنا الحاج. وقد أعقب هذه الجلسة ست جلسات عمل، تضمَّنت إحدى عشرة مداخلة، قاربت العناوين الآتية: لبنان ومُتلازمة الهجرة القسرية: أكبر موجاتها، أسبابها، خصائصها والتحديات/ هجرة اللبنانيين الأعنف (1990- 2022): تحدّيات بنيوية وحلول/ هجرة الشباب اللبناني والكفاءات: تحدّيات بنيوية مقلقة/ القطاعات الإنتاجية والحيوية في مواجهة تحديات الهجرة والإنهيارات البنيوية الكبرى/ هجرة الشباب والكفاءات نتيجة حتمية لعدم الاستقرار وفقدان الأمل: اقتراحات وحلول/ خارطة طريق تُساعد في إنقاذ لبنان الوطن والدولة.

 

وقد داخَلَ أحد عشر متكلّمًا، هم على التوالي: د. عبد الله الملاّح، د. بطرس لبكي، د. بيارو خويري/ د. نازك الخوري، د. سوزان منعم، الوزير السابق فادي عبّود، د. عبد الحليم فضل الله، د. مروان الزغبي، النائب د. إدغار طرابلسي، الوزير د. ناصر ياسين ممثَّلاً بالدكتور حبيب المعلوف، د. عادل يمين. أعقب كل واحدةٍ من الجلسات الست حوارٌ تفاعلي وبنَّاء بين المحاضرين والمشاركين، وتمّ الخلوص إلى البيان الختامي، الذي تضمّن المحاور الآتية:

اولاً – في الهجرة اللبنانية القسرية/ حقائق وإحصاءات موثّقة

1) الهجرة اللبنانية، بوجهيها الطوعي والقسري، معضلةٌ طاعنةٌ في زمن اللبنانيين، تتربّع بندًا أوّلَ على جدول معاناتهم. وهي دائمة الحضور طالما أن أسبابها الموجبة لا تزال قائمة، وإلى تصاعد، ما بقي لبنان غير معافى وأسيرَ أزماتِهِ البنيوية المستعصية، ولا يُوفِّر لمواطنيهِ أدنى مقوّمات العيش الكريم ومُناخاته الملائمة. علمًا أن لبنان يكادُ يكون البلد الوحيد في العالم، الذي فاق عدد مغتربيه أضعاف عدد المقيمين فيه.

2) شهدَ لبنان، خلال تاريخه الحديث والمعاصر، ثلاث موجات من الهجرة القسرية، أولاها منذ منتصف القرن التاسع عشر امتدادًا إلى زمن المتصرفية، وثانيتها إبّان حرب السنتين (1975- 1976) التي استمرت حتى العام 1990، وثالثُها هي التي نشهدُها راهنًا، في ظل الأزمة المصيرية الوجودية المتمثلة بالانهيار المُريع على جميع الصُعُد.

3) في الهجرة القسرية الأولى غادر لبنان 100657 من أصل 407750، أي ربع سُكّان الجبل اللبناني، في حين ترك البلاد في الهجرة القسرية الثانية 894717، أي ما يوازي ثلث سكان لبنان المقيمين فيه عام 1975. أما في الهجرة الثالثة المستمرة حتى اليوم، والتي لا أفق لها، وبحسب “الدولية للمعلومات” فإنه بين كانون الثاني، وتشرين الثاني 2019، غادر لبنان حوالي 61 ألفًا، مقارنةً بـِ 41 ألفًا، خلال المدة عينها من العام 2018، أي بزيادة 40%. وفي العام 2021، غادر حوالي 80 ألفًا، مقارنةً بـِ 17 ألفًا عام 2020، أي بزيادة قدرها 346%، علمًا أن السنوات الخمس الأخيرة سجَّلت أعلى نسبة لهجرة اليد العاملة المتخصّصة، جرّاء تدهور الوضع الاقتصادي والمالي والسياسي.

4) في الهجرة القسرية الثانية، تمّ إقتلاع مئات آلاف السكان من قراهم وبلداتهم، التي تمّ تدميرها كليًّا أو جزئيًا، أو جرى احتلالها، جرّاء جولات الحرب المتعاقبة، فبات أهاليها الأصليون من دون مأوى، وفقدوا مورد رزقهم، ولم يكن لديهم من خيارات سوى الهجرة إلى خارج البلاد، أو النزوح إلى مناطق لبنانية آمنة.

5)  بحسب تقديرات بعض التقارير الإحصائية: لولا اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1976)، كان من المفترض أن يكون عدد سكان لبنان المقيمين عام 1985 حوالي 3،250،000 (ثلاثة ملايين وربع المليون)، لكن كان العدد بحدود 2،644،000 (مليونان وستمائة وأربعة وأربعون ألفًا) أي بفارق قدره 606،000 (ستمائة وستة آلاف).

6) خسر لبنان، خلال السنتين الأوليين من الحرب الأهلية (1975-1976) أكثر من خمس اليد العاملة، وأصابت الخسائر الجسيمة القطاعات الاقتصادية، إذْ تهدّمت آلاف المصانع، وتراجَعَ قطاع البِناء، وتضرَّر قطاع السياحة والفنادق. ناهيكَ عن الشلل الذي طاول القطاع التجاري، وقطاع النقل والمواصلات، وإلى تراجع أداء المرافق العامة، لا سيما الخدماتية منها.

7) وفق “الدولية للمعلومات”، ثمة مؤشرات خطيرة، ينبغي التوقف عندها والتبصُّر في عواقبها. فبين عامي 2018 و2021 تراجعت عقود الزواج بنسبة 7،2%، وتراجعت الولادات بنسبة 32%، وارتفعت الوفيات بنسبة 35،6%. علمًا أن حصيلة الزيادة السكانية في العام 2018، بلغت 67360 شخصًا، وانخفضت في العام 2021 إلى 28405. وعن أعداد المغادرين، فقد بلغ- كما أسلفنا- نحو 80 ألفًا. وكل أولئك يُؤشِّر على شيخوخة لدى اللبنانيين المقيمين.

8) خلال الحرب الأهلية، هاجر من لبنان (بين عامي 1975 و1977) 42% من المهندسين، و15% من الأطباء، و15% من المحامين، علمًا أن عدد الجامعيين، الذين تركوا لبنان بين عامي 1975 و1996، بلغ 233256. وتفصيلا، فقد يمَّم 23،9% منهم شطر الولايات المتحدة الأميركية (هجرة نهائية)، في عِدادهم 2996 مهندسًا و1758 طبيبًا.

9) بلغ عدد الأطباء المهاجرين، في الموجة الحالية (أي الثالثة) 1500 طبيبًا، و2000 من الجسم التمريضي، وبحسب “منظمة الصحة العالمية”، فإن 40% هي نسبة الأطباء المغادرين، و30% بما يخصّ الممرضين. إشارة إلى أن المغادرين، من كلا القطاعين، هم من خيرة العاملين فيهما وذوي الخبرة العالية.

10) بحسب إحصاءات موثوقة وحديثة جدًا (2020)، أعرب 71% من الشباب اللبناني عن رغبة في الهجرة، و86% يريدون الهجرة لأسباب اقتصادية، و14% لأسباب شخصية. ومما جاء في إحصائية، أُجريت في العام الجامعي (2020-2021) لشريحة (18-29 سنة) أن 8 من كل 10 شباب قرّروا الهجرة: 51% يريدون المغادرة مع عائلاتهم، 55% وجهتهم أوروبا، و26،3% وجهتهم أميركا، و67،5% قرّروا عدم العودة (هجرة نهائية)، و84،5% يسعون، عبر الهجرة، إلى مستقبل أفضل.

11) على إيقاع تدهور الأوضاع الاقتصادية المطّرد، يتولّد عند الشباب اللبناني شعورٌ بالغُربة وضعف الانتماء الوطني، حتى أن من لَم يُهاجر هو في حالة من الهجرة النفسية، وفي قطيعة مع الدولة.

12) لعلّ هجرة القطاع الإنتاجي (المعامل والفبارك) تُشكِّل راهنًا ظاهرةً أشدَّ خطورةً من هجرة الأفراد. علمًا أن الوجهة هي مصر والخليج والأردن، حيث يتم نقل المصانع بكامل معدّاتها وتجهيزاتها وكوادرها البشرية.

13) ليس صحيحًا أن النزف المسيحي السُكاني، جرّاء الهجرات المتعاقبة، هو الأكبر بين سائر الطوائف اللبنانية. فالهجرة بدأت مسيحية، لكن راهنًا، فإن نسبة المسلمين هي الأعلى. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي “مالبورن” (أستراليا)، يبلغ عدد المهاجرين 75% من مجموع المهاجرين اللبنانيين. وعن الهجرة الدرزية، منذ العام 1975، فهي تتراوح بين 35 و40% من مجموع الطائفة.

14) تأسيسًا على ما سبق، لا مجال للبروباغندا، التي تُروِّج للخلل الديموغرافي، فاللبنانيون جميعًا، ومن مختلف الطوائف، في الهمّ سواء، بإزاء معضلة الهجرة.

ثانيًا- في الهجرة القسرية/ خلفيات وتداعيات وأسئلة- هواجس!

1)   في توصيف الهجرة بعامة، وبوجهيها الإيجابي والسلبي، يذهب المفكر الراحل شارل مالك إلى القول: “هي فخرٌ وعيبٌ ومأساة: فخرٌ بما يُحقِّقه المغتربون، وعيبٌ لأن لبنان لم يُوفِّر لهم أسباب العيش، ومأساة لأن الهجرة ذات أبعاد إنسانية وروحية”.

2)  في المنحى عينه، يخلص أحد كبار منظّري الصيغة اللبنانية المفكر الراحل ميشال شيحا إلى المعادلة الآتية: ” إذا كان لبنان لا يمكنه العيش من دون هجرة، فهو يموتُ من ضخامتها!”.

3)  ما نشهدُهُ، في هذه الحقبة، وتحديدًا منذ نيِّف وسنتين، أن موجة الهجرة ليست ذات طابع فردي، بل هي جمعيَّة، وأشبه ما تكون بالفرار من البلاد، والأشدّ خطورةً أنها نهائية أو شبه نهائية، إذْ تعمد بعض العائلات المغادرة إلى بيع مساكنها بأثاثاتها، بنيّة عدم العودة.

4)  تحوّلت الهجرة اللبنانية، بصيغتها القسرية كما الطوعية، من هجرة “حَمَلَة الكشِّة” واليد العاملة غير المؤهَّلة إلى هجرة الأدمغة والكفاءات العلمية الجامعية، واليد العاملة المتخصِّصة مهنيًا، والتي يدعوها البعض، بالتعبير الشعبي، “المعلمِيِّة”. ومما يُفاقم من هذا الواقع حلول العمالة الأجنبية، من عربية (سورية كثيفة بخاصة) وغير عربية محل العمالة الوطنية.

5)  فقدان الثقة بمستقبل لبنان، بدأ يتشكّل، منذ منتصف العام 1983، بسبب تفاقم الوضع السياسي والأمني تدهورًا.. ناهيك عن أن الأزمة الاقتصادية، التي ضربت البلد بدءًا من العام 1984، التي ارتفع جرّاءها التضخّم إلى مستويات غير مسبوقة، كانت لها اليد الطُولى في تسعير موجة الهجرة الثانية.

6)  لبنان الذي شهد، على مدى تاريخه الحديث والمعاصر، أزماتٍ صعبة يُكابدُ اليوم “حرب الحروب”- إذا جاز التعبير- وهي المتمثلة بالأزمة المصيرية الوجودية، التي أعلنتها منظومة الفساد والإفساد على الشعب اللبناني. فهذه المنظومة أفلست الدولة، بنهبها المال العام، والسطو على أموال المودعين، من مقيمين ومغتربين. إضافة إلى شلّ الإدارة العامة، وأداء البنى التحتية والمرافق الخدماتية.

7)  جرّاء هذه “الحرب” المعلنة ضد اللبنانيين، باتت الأكثرية الساحقة تتردّى في أتون مجاعة حقيقية (84% من اللبنانيين باتوا تحت خط الفقر بمختلف درجاته). وقد آل ذلك الواقع، شديد التردّي، إلى تطفيش “الآلاف من الشرائح الشبابية الجامعية، ومن ذوي الكفاءات المهنية العالية، وتشريدهم في أربع جهات الأرض.

8)  بحسب “البنك الدولي”، فإن نسبة الإنكماش الاقتصادي الحاد، بلغت في لبنان 25% في العام 2020. ومن تداعيات ذلك، إنعدام فرص العمل وازدياد معدّلات البطالة، لا سيما بين خريجي الجامعات.

9)  كان هان الأمر لو حاولت هذه المنظومة إصلاحًا، وارعوت عن شرّ أعمالها، ولكنها لا زالت ممعنةً في التنكيل باللبنانيين والتمادي في نهب ما تبقى من المال العام، مما يقطع الطريق على عودة محتملة للمغادرين، لا سيما الذين تبتلعهم الموجة الثالثة الحالية للهجرة.

10) يذهب الباحثون في قضايا الهجرة، على اختلافهم، إلى أن موجات الهجرة اللبنانية هي ذات دوافع اقتصادية/معيشية، بالدرجة الأولى، أي التماسًا للرزق. وهم لا يُغفلون عوامل أخرى، من سياسية وأمنية واجتماعية ونفسية. إضافةً إلى السعي من أجل مزيدٍ من التحصيل العلمي واكتساب خبرات ومهارات لا تتوفّر في لبنان.

11) ومن العوامل الجاذبة للهجرة عاملُ الغيرة ومحاكاة المقيمين للنجاحات التي أحرزها بعض المهاجرين في مغترباتهم، وتحويل الأموال لذويهم.

12) إذْ نتوقف عند إيجابيات الهجرة اللبنانية، بوجهيها الطوعي والقسري، نجدُنا أمام المشهدين الآتيين:

  • لجهة الإيجابيات: تُسهم الهجرة في رفع مستوى متوسط مداخيل عموم السُكان/ ورفع مستوى التعليم/ وزياد التدفقات المالية وتحقيق منافع اقتصادية في بلد المصدر (أي لبنان) / علمًا أن التحويلات المالية، التي يُرسلها المهاجرون، لها دور في تحسين ميزان المدفوعات الخارجية ورفد الاقتصاد اللبناني بالعملة الصعبة.
  • لجهة السلبيات: تُفضي الهجرة إلى شبه جمود في عدد السُكّان، وزيادة معدّل الإناث بالنسبة إلى إجمالي السكان/ زيادة معدّلات العنوسة/ خسارة اليد العاملة المؤهَّلة والمتخصِّصة/ زيادة ارتهان الاقتصاد اللبناني للخارج/ خفض إنتاجية الاقتصاد وتعرُّض بلد المصدر لما يُسمّى “لعنة الموارد” (resource curse)/ خفض مخزون رأس المال البشري/ تشوّهات مهنية لخسارة الخبرات الماهرة/ والأشد خطورة خسارة الأدمغة البشرية التي يُعوّل عليها مستقبلاً في عملية تعافي البلد / ومن المخاطر الوجودية، حال تمادي الهجرة راهنًا، تغيير هوية لبنان، عبر تحوّلات ديموغرافية واجتماعية وسياسية، حيث يملأ النازحون الفراغ الذي يخلِّفه المغادرون. ففي تقرير إحصائي، وضعه الباحث علي فاعور، يتحصّل أن 3،700،000 (ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف) يتواجدون في لبنان هم من غير اللبنانيين!”.

إذا كان للهجرة اللبنانية بعض الأوجه الإيجابية، على الصعيد الفردي وعلى المدى القصير، فهي، بشكل خاص، سلبية على الصعيد المجتمعي وعلى المدى الطويل.

تأسيسًا على كل ما سبق، لا بد من التوقف مليًّا عند الأسئلة / الهواجس الآتية:

  • هل صحيحٌ، حسبما يذهب ميشال شيحا، أننا ” أمة المفطورين على السفر، موجودون في كل مكان، نحن أشبه بتلك الطيور المهاجرة، التي ترحل في كل فصل من قارة إلى أخرى، لا بُدّ لنا من خوض العُباب”، أم أن حقائق الحياة المرّة، لها الدور الفاعل في تأجيج معضلة الهجرة، على إيقاع عاملي الاقتصاد والسياسة؟
  • هل تندرج هجرات اللبنانيين، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم، تحت “مسارات عولمة مبكّرة”، كما يدعوها الباحث السوسيولوجي بطرس لبكي، أم أن حقيقة الأمر خارج هذا التوصيف؟
  • بين مطرقة حقائق الحياة وسندان أمنيات عودة المهاجرين، لمن تكون الغلبة؟
  • عن مهاجري الموجة الحالية، هل ستبتلعهم عوالمهم الجديدة، كما ابتلعت الأجيال اللبنانية السابقة، جيلاً إثرَ جيل؟
  • وعن الأجيال من المهاجرين القدامى (أي المتحدرين)، هل لا زالت مشاعرهم وتطلّعاتهم وهويتهم لبنانية؟ وكيف السبيل إلى ربطهم بموطنهم الأم، لتتمّ الإفادة منهم، على صُعُد مُتعدِّدة؟
  • ماذا تستطيع الطاقات اللبنانية المهاجرة، أن تُقدِّم للوطن، فيما لو فكّرت بالعودة، وَقْتَ لا زالت منظومة الفساد والإفساد محكمةً قبضتها على مفاصل الدولة، تشدّ بها إلى الوراء، بما يُشكِّل عامل نبذٍ وطردٍ لهذه الطاقات؟
  • هل لبنان (الطائف)، الذي نعيش في ظله، منذ نيِّف وثلاثة عقود، قد انتهى، مما يستدعي العبور إلى لبنان جديد؟ وأيّ لبنان نُريد؟ وهل الأزمة الوجودية التي تعصف بلبنان راهنًا هي من تجليات هذا اللبنان (لبنان الطائف)، أم أن ثمة عوامل أخرى ينبغي تبيُّنها؟

ثالثًا- في التوصيات/ المقترحات

1- مقاربة معضلة الهجرة القسرية، عبر سردية واقعية موضوعية، من منظور سوسيولوجي، تغوصُ على أعماق الإشكالية المطروحة، لجهة خلفياتها وأسبابها الموجبة، وتداعياتها، كما التحديات التي تطرحها. وعلى رُغم الجهود المبذولة، في مقاربة المعضلة، فهي بحاجة إلى دراسة تاريخها الديموغرافي، بشكل دقيق وأكثر توثيقًا.

2- في إطار دعوة المهاجرين للعودة إلى مسقطهم، ينبغي تبني ما ذهب إليه الأمين العام الأسبق لوزارة الخارجية فؤاد الترك، لجهة اعتماد “منطق قائم على الواقعية والفهم العميق لظروف المنتشرين، كي لا تكون الأوتوبيا والأوهام المجنّحة والأحلام المجانية مجرّد دعوات هوائية، تنفِّر أكثر مما تشدّ”.

3- على الدولة اللبنانية إيجاد قاعدة بيانات (Data) تضمّ جميع المغتربين اللبنانيين، وتوفير الاتصال فيما بينهم، وتعزيز ونشر التراث اللبناني بينهم وبين أحفادهم، وربطهم بقضايا الوطن المصيرية، بما يجعلهم قوة ضغط “Lobby” على غرار سائر جاليات العالم في مغترباتها.

4- حوكمة الهجرة، ودعم وزارة الخارجية والمغتربين، عَبْرَ تأمين حزمة من الخدمات للشباب اللبناني المنتشر في الخارج، ومتابعتهم، وتأمين احتياجاتهم، وتبيُّن العوائق التي تواجههم ومعالجتها، من خلال توفير الدعم المادي والنفسي والاجتماعي والقانوني. وتعليل ذلك أن الشخص في بلاد الغربة يكون أكثر هشاشةً على الصعيد النفسي، فيقع فريسة أعراض مَرَضِيَّة مُتعدِّدة، كالأرق، والفوبيا، والاكتئاب، وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالدونية.

5- تشكيل لجان، عبر وزارة الخارجية والمغتربين، للتواصل مع المغتربين الشباب، من مهاجري الموجة القسرية الحالية، كونهم لا زالوا على علاقة يومية مع لبنان ومع عوائلهم.

6- العمل على وقف الهجرة الداخلية – أي من الريف إلى المدينة- التي لا تقلّ خطورةً عن الهجرة الخارجية، بما يحقِّق الإنماء المتكامل، وليس المتوازن. كما العودة إلى سياسة اقتصادية قائمة على ” التوفير وحُسن التدبير”، وهي المقولة التي لطالما اعتمدها أجدادنا. ناهيك عن الاستثمار، عبر حماية الطبيعة، وليس من خلال انتهاكها، متوسلين شعار ” نحمي لنستمر”، وتشجيع النظام الغذائي المتوسطي.

7- بهدف كبح الهجرة، لا بد من إصلاح يُطاول البنية التربوية، فتُعطى الأولوية للتعليم المهني التطبيقي، وذلك عبر تغيير الذهنية والثقافة المجتمعية، الرائجة حول دونية هذا النوع من التعليم. وفي هذا المجال، ينبغي وضع “قانون دمج التعليم المهني في التعليم العام”، الذي تمَّ إقراره في المجلس النيابي، بتاريخ 7/12/2021 موضع التنفيذ العملي، وتفعيله، بهمّة “المركز التربوي للبحوث والإنماء” ووزارة التربية. ومن فوائد هذا القانون تخريج طلاب يلتحقون بالمدارس المهنية والكليات التطبيقية، ومنها إلى سوق العمل، بدل سوق البطالة.

8- وفي إطار مواجهة الهجرة، ينبغي تشجيع المهن القائمة على الصناعات اليدوية، والتركيز على الصناعات غير الملوّثة للطبيعة (الإلكترونيات والبرمجيات)، مع السعي لإنشاء مدن تكنولوجية، تضمّ كفاءات لبنانية مُتوفّرة راهنًا لدينا. إضافةً إلى عملية التسويق، عبر الإنترنت، التي باتت لها سوق عالمية رائجة.

9- بهدف كبح هجرة الجسم الطبي، لا بد من إعادة النظر في نظامنا الصحي، عبر استراتيجية جديدة، تؤول إلى الموازنة بين حق الطبيب وحق المريض، ومراعاة ” قانون الآداب الطبية”، في ظل انعدام الرؤيا حول أي نظام صحي، يجب اعتماده، وكيفية إدارة القطاع الصحي.

10- من منطلق العلاقة الجدلية بين النظام السياسي اللبناني والأزمات التي يُخلِّفها، وفي عدادها معضلة الهجرة القسرية المتمادية، ينبغي الانكباب على عملية إصلاح لهذا النظام، قبل الوصول إلى الارتطام الكبير الذي يتهدّدنا، وذلك باعتماد أحد خيارين: إما بناء دولة علمانية، على قاعدة المواطنية، وإما تنظيم الطائفية بشجاعة وعدالة ووضوح، بحيث يتمّ الحفاظ على ما احتواه “اتفاق الطائف” من إيجابيات، وتوسيع الآفاق المدنية فيه، فيغدو نظام عملٍ لا تعطيل، ونظام تشارك لا تشابك.

11- لجعل “الطائف” نظام تشارك لا تشابك، ينبغي التوقف عند قضية تنازع الصلاحيات، التي تُضيِّع المسؤوليات، وأبرزها: الافتقار إلى مرجعية دستورية قادرة على الحسم، المهل، آليات المحاسبة والمساءلة.. وإلى آخر الشوائب والثغرات التعطيلية.

12- استكمالاً لعملية الإصلاح البنيوية، ينبغي قيام نظام اقتصادي إنتاجي، بخلاف النظام الريعي المتوحش، الذي تقف وراءه دولة عميقة متفلتة من أية قيود. ناهيك عن قضاء مستقل، جريء ومرن.

13- التنويه بالدراسات الجادة، التي تم تقديمها في الورشة، القائمة على رؤى ثاقبة، والمستندة إلى إحصاءات موثقة حديثة، تعود للأعوام الثلاثة الأخيرة. وعلى أن تُوضع هذه الدراسات في عُهدة الوزارات المعنية، للإفادة منها. كما التشبيك مع “مراكز الأبحاث” في الجامعة اللبنانية وسائر الجامعات العاملة في لبنان، للبناء عليها، لدى وضع استراتيجيات فاعلة لمواجهة معضلة الهجرة اللبنانية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *