ريتشارد فاغنر… شاعر الموسيقى ومُلهم الكُتّاب الرمزيين في أوروبا

Views: 497

وفيق غريزي

لم يشهد العالم موسيقيا خلف ظهوره دويا كالذي خلف ظهور الموسيقي العبقري الالماني ريتشارد فاغنر Richard Wagner. انه ممن اثروا الموسيقى الكلاسيكية العالمية.

بدايته واطلالته على الوجود

ولد ريتشارد فاغنر عام 1813. ولم يكد يبلغ شهره السادس حتى كان والده فريدريك قد توفي اثر اصابته بالتيفوس تاركا زوجة وسبعة اولاد اصغرهم ريتشارد، وتلفت الصديق لودفيغ غاير الى ابناء صديقه الفقير بعد رحيله، والى امهم الحزينة وقرر أن يربط مصيره بمصيرهم، ولم تمض سوى اشهر ثمانية حتى اصبح زوجها وابا لاولادها.

 

ولم يكد يشب ريتشارد عن الطوق حتى التصق بغاير، يرافقه اينما ذهب ويناديه “ابتاه”. لم يكن ريتشارد قد اظهر موهبة تميزه عن زملائه، ولم تجذبه خشبة المسرح. غير انه ابدى ولعًا بالحيوانات. منذ الصغر، كان يحب العبث بالبيانو، الأمر الذي حدا بغاير على أن يتنبأ له بمستقبل باهر في الفن الموسيقي. وما لبث أن فقد والده الثاني وهو في الثامنة من عمره. عايش فاغنر في كواليس المسرح عالما خياليا ساحرا، اجتذبته مناظر الديكور، وفخامة ملابس الممثلين، فادرك تأثير الحركة على المسرح، وقيمة الكلمة الشاعرية، فانزوى في بيته ليخلق مسرحا كاملا من الكرتون يُحرك الدمى (العرائس) ويجري على السنتها الحوار. وفي الثالثة عشرة من عمره، عاش تجربة حب عابرة مع ايميليا هوفمان دفعته الى أن يحاول الكتابة للمسرح، وفي الخامسة عشرة من عمره، عرف موسيقى بيتهوفن، وازداد تردده على صالة الموسيقي “غيفاند هاوس” منصتا الى اوركسترا المدينة. وكشفت له موسيقى بيتهوفن عن قوة تعبير الموسيقى، فدخل مدرسة نيقولاي الموسيقية في ليبزغ، ولكنه ما لبث أن شعر أن بقاءه في هذه المدرسة مضيعة للوقت، غير أن الحظ ساق اليه احد اساتذة الموسيقى هو تيودور فينليج ليدرك موهبته فاغراه بالترددعلى مدرسة التومانا، وعني به عناية خاصة ولقنه المعلومات النظرية الضرورية التي يستطيع بها أن يشق طريقه الفني. انطلق فاغنر بعد ذلك وراء دراساته الموسيقية بعيدا عن فصول المدرسة فدرس العزف على الات موسيقية عدة.

عشقه للنساء

اظهر ريتشار فاغنر منذ طفولته ميلا الى النساء، فبعد أن هام باميلي كان هوفمان، اعجب بالممثلة فلهلمينا شرويدر-ديفريانت Wilhelmine Schröder-Devrient فاسرع يكتب لها رسالة يعلن لها فيها أنها ملأت حياته بهجة وترك لها الرسالة في صندوقها. ثم اصبحت ليا دافيدي أمل حياته. وأخد اسم حبيبة فاغنر يتغير حتى عرف في السابعة عشرة من عمره “جيني” ابنة الكونت باتيشتا.

 

 إن ابتسامة امرأة تحرك مواهبه كما تحرك احاسيسه، ولهذا كان في حاجة الى أن يعشق حتى يبدع. ومن هذا المنطلق، عشق فاغنر عشرات النساء وتزوج “مينا”، التي طلقها ليواصل حياته العشقية الى أن خان صديقا، من اعز اصدقائه واحبهم اليه هو هانزفون بيلو مع زوجته “كوزيما” ابنة صديق آخر هو الموسيقار فرانز ليست، وما لبث أن تزوج منها.

اشتهر فاغنر في الفترة الاولى من شبابه بأنه قائد اوركسترا بارع، لكن احد لم يعر مؤلفاته الموسيقية اهتماما، على حين انه كان يؤمن بعبقريته الموسيقية، فانتقل الى باريس مارا بلندن، رحب مدير مسرح باريس به، ولكن هذه المدينة لم تفتح له ذراعيها، ولم يستقبله فيها الا البؤس والوحدة. مآسي باريس صقلت هذا العبقري وزادته صلابة. غادر العاصمة الفرنسية عام 1842 قاصدا درسون بعد خمسة اعوام قضاها في فرنسا حيث مضى يتاهب لاخراج اوبرا “رينزي” على المسرح الملكي، وقد لاقى عمله النجاح الكبير، كما استقبلت درسون اوبرا “الهولندي الطائر” بحماسة كبيرة، ثم قدم فاغنر اوبرا ثالثة “تانهوزر” في 19 تشرين الأول عام 1843 وحدث أن توفي قائد اوركسترا البلاط الملكي والمدير الموسيقي للمسرح الملكي، فأصبح فاغنر المرشح الوحيد لهذين المنصبين. لكنه اعترض مفضلا حريته رغم اضطراب وضعه الاقتصادي، وفي الأخير قبل قيادة الاوركسترا الملكية وامضى سبعة اعوام قائدا للاوركسترا الملكية. ومنذ ذلك الوقت بدأ نجم فاغنر يسطع في سماء اوروبا.

 

 

كان فاغنر طاقة لا تعرف التعب، ولا حدود لثقته بنفسه. طاف العالم واثقل نفسه بالديون ناشرا موسيقاه، لافتا الانظار الى رسالته التي لم يتخل يوما عن حملها. وقد ادخل هذا العبقري تغييرات جوهرية في أسس الدراما، وتغييرات جذرية في تشكيل الموسيقى المسرحية، واستحدث طريقتين ارتبطتا باسمه حتى اليوم وهما: طريقة اللحن الدال واللحن المستمر، ونقل الموسيقى السيمفونية الى الاوبرا التي طوّرها واخرج منها نموذجا جديدا هو دراماه الموسيقية.

ولم تلبث موسيقى فاغنر أن استقطبت العشاق واصبحت مدرسة فنية مهمة، وتسلطت عبقرية صاحبها على الحياة الفكرية والفنية في كل انحاء اوروبا، ونظر الكثيرون الى فنه على انه فن المستقبل، والى نظريته عن وحدة الفن على أنها القانون المطلق للفن، واصبح فن فاغنر نموذجا يحتذى به.

 

حفلت اعمال فاغنر الموسيقية بسحر لا يقاوم، فمن موسيقى رفيعة تقوم على اشتقاق الالحان احدها من الآخر الى بناء التفاعلات الموسيقية، ثم اشتراك الاوركسترا مع الغناء، وقيامه وحده بدور رئيس في التصوير الموسيقي الرائع، بالاضافة الى ارتكاز هذه الاعمال على الاساطير التي تمثل اروع تراث الفكر الانساني، والتي حمّلها فاغنر معاني معاصرة، فلم يعد المشاهد يرى فيها ماضيه وحده بل حاضره، واصبحت متعة الخيال والعقل معا. ورغم ذلك فقد جابه فن فاغنر معارضة عنيفة وعنيدة من اعداء قساة لم ينتقدوا موسيقاه ونظرياته في الفن فحسب، بل تناولوا حياته الشخصية بالتجريح، وما اكثر ما امتلاءت حياته به من مآخذ.

كان فاغنر شخصية مغامرة عنيدة تمور نفسه بالزهو والغرور والثقة المفرطة، يؤمن بأن عبقريته تفرض على الآخرين أن يحيطوه بالرعاية البالغة حتى يفرغ بكل جهده الى ابداعه الأدبي والفني الذي اعتقد انه ضروري لا غنى عنه للبشر تذكي فيهم عشق الحرية وتدفعهم الى الارتقاء.

 

ما اشبه ما ابتدعه فاغنر في عالم الدراما والموسيقى من ثورة ما اثاره هيغل في عالم الفلسفة. ومن اجل ذلك بات فاغنر من المعالم البارزة في تاريخ الفن. وظلت موسيقاه ينبوع متعة ترتوي منه القلوب العطشى، وترتفع في ظلاله الارواح لتلحق في عالم اسطوري تخطى حدود الزمان والمكان، واثرت موسيقاه في اعلام عصره.

جدلية علاقة فاغنر بـ نيتشه ايجابا وسلبا

اكتشف نيتشه في مسرحيات فاغنر الموسيقية سحرًا معاصرًا للمآسي اليونانية كتلك التي وضعها “اسخيلوس” و “سوفوكليس”. وحين صدر كتابه “ولادة المأساة” عام 1871 كان موقف فاغنر وزوجته كوزيما كما هو منتظر ماخوذين بالكتاب “لم اقرأ كتابًا اجمل من كتابك”، هذا ما كتبه فاغنر الى نيتشه “كل ما فيه عظيم” واضاف “لقد قلت لكوزيما: احبه اكثر من أي انسان آخر، بعدك”. وقد اعتبر نيتشه في ذلك الوقت اعمال فًاغنر الموسيقية مثيلا جرمانيا للمأساة اليونانية القديمة، قبل يوربيدس. ورأى في فاغنر لا رجلا اكبر من الحياة فقط بل عبقريا قادرا “على التعبير عن الاساطير المأساوية الالمانية عبر انواع مختلفة من الموسيقى الديونيسية”، أما فاغنر نفسه فقد سر سرورًا شديدًا بهذا الرأي، خاصة أنه في تلك الفترة عينها، كان قد ترك “تريبشن”. ولكن بايرويت في بافاريا، حيث كان مكبًا على انشاء مسرح خاص به، قصد أن يكون اقرب الى معبد يخصص. لتقديم نتاجه فقط. وهي خطة نجح في تحقيقها بسرعة، فًي 22 ايار عام 1872 وضع فاغنر حجر الاساس الاول لهذا المسرح. ولكن في بايرويت لم يعد فاغنر في نظر نيتشه الموسيقي الشهير الذي عرفه في تريبشن، بل اصبح متنبها لعظمته وتحول الى متعال ضيق الصدر تملأه الغيرة.

 

في تموز عام 1875 كانت التمارين والاستعدادات تجري على رباعية فاغنر “ذهب الراين”، منتفي الذبائح، سيغفريد ونهاية الالهة، في بايرويت، وقد تلقى نيتشه دعوته لكنه لم يجب بالقبول، لان أمله خاب بفاغنر. والعلاقة بين الاثنين صارت الان تختلف اختلافا كليا عن السابق، وبعد أن كانت ايجابية صارت سلبية، واختلفت كليا عن السابق، اذ قرر نيتشه أن يقطع علاقته بفاغنر، واصدر كتابا تقريظيا، ينتقد فيه تحوّل فاغنر تحت عنوان “ضد فاغنر”، وذلك عام 1880، اذ تحرر نيتشه من اسر شوبنهاور وفاغنر. والبعض يرى أن سبب خلافهما يعود الى كوزيما التي لم تبادل نيتشه حبه لها، فانقلب منتقما من زوجها. انما الأمر الذي لا شك فيه هو أن نيتشه رأى في رباعية الخاتم صورة هزيلة بالنسبة لما كان يتوقع أن يشاهده، ورأى ايضا أن فاغنر لم ينفذ في عمله ما دعا اليه في كتاباته النظرية، وخلف فاغنر وراءه محزونا ومضى.

فاغنر والشعر

إن موسيقى فاغنر ولدت في نفوس الرمزيين من الشعراء نزعتهم الى النفور من الظواهر المادية باعتبارها خيالا يفنى ويتبدل بحسب ما تراه النفس، وولد نزعتهم في سبر الاغوار، حيث أن كل الانفعالات ذابت في موسيقى فاغنر وتوحدت بمفهومه للفن عامة. ذلك أن فن فاغنر فن مريض، فنزعته الهستيرية العصبية وتشنجه الطبيعي، وحسه المضطرب، وذوقه الحاد، وعدم استقراره، وابطال رواياته تكوّن جميعا صورًا واضحة لنفسه المضطربة، واعتبرت نفس فاغنر مثال النفس الحديثة المعاصرة لتلك الفترة الادبية بكل معانيها، لما في جهازه العصبي من احتدام وانقباض، ولما في فنّه من قسوة وعمق، وبراءة وطهر، وتبين بعض النقاد العلاقات التي تصل بين فاغنر والشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867) شارحا أن رسالة بودلير الادبية كانت ايضا تبشر بما بشّرت به الموسيقى الفاغنرية. واكد بوازا، احد طلبة الشاعر ستيفان ملارميه (1842-1898). أن الاوبرا الفاغنرية بفرط اختلافنا اليها ولدت فكرة التنظيم الموسيقي الادبي في الشعر. فانهم، اي الشعراء الرمزيين، كانوا يتساءلون عن وسيلة تمكنهم من ارفاق النص الشعري بازدواج موسيقي بحت، وذلك بواسطة موكب من الالفاظ المتوازية المختارة بما فيها من ايقاع وغنى يبعث الاحلام. ومن هنا نعي كيف استقى بودلير من فاغنر معنى الانطلاق والمثالية واللانهائية والانسجام الموسيقي دون أن يقف عند الحالة المرضية التي اشار اليه البعض، ثم أن هولاء الرمزيين فهموا موسيقى فاغنر من خلال النقد الذي حاوله بودلير.

 

لقد شاعت موسيقى فاغنر وهي تعبر عن اعمق الاسرار الانسانية، وكان فًي جلال انغامه يفوق الانسان، بالارادة، والشوق، وضبط الذات. وقد قال عنه بودلير، وكأنما عرف في فاغنر سيد العناصر الادائية كما كان يبتغيها، وقد كتب فاغنر رسالة الى بودلير العام 1851، يذكر فيها الغبطة القصوى التي شعر بها لدى اطلاعه على كلام الشاعر الفرنسي عنه. وكما كان يخرج فاغنر من الافتراضي العرضي الى العام الابدي، ويغمر المستمع ببحر من الضياء، فاتحا امامه ذاته الباطنية التي لا تبلغ، كذا اعتزم بودلير وغيره من الرمزيين الذين اتوا بعده، أن يجعلوا من الشعر آلة تستحق الشعور الانساني وفي وسعها أن تبلغ المطلق بواسطة الايحاء والعلاقات التي لا تعرف نهاية.

فاغنر في خريف العمر

زحفت الشيخوخة على فاغنر، وحلم بالاسترخاء في ايطاليا، فاستأجر له طبيب صديق في نابولي منزلا صغيرا بديعا ليقضي فيه شتاء العام 1880، وكان فاغنر يعشق شعب جنوبي ايطاليا، وفي هذه المدينه احتفل بعيد ميلاده الستين احتفالا رائعا. وعند بداية الصيف عاد الى بايرويت، وفي العام 1882 انتهى من موسيقى “بارتسيفال” رغم أزمات الربو التي باتت تثقله، ولكن الشيخوخة لا تثنيه عن أن يبذل طاقات جبارة في اخراج اوبراه الاخيرة “بارتسيفال” بينما يرن في اذنيه نتاج “رباعية الخاتم” في لندن، ولقد احدث عرض هذه الاوبرا دويا شبيها بدوي السنة الاولى للمهرجان، وتقاطر عليها امراء روسيا وانكلترا والنمسا، وقاد فاغنر الاوركسترا بنفسه، بعدها انتقل الى البندقية، وفي 13 شباط 1883 شعر باختناق انفاسه فاسرعت اليه زوجته كوزيما فالقى برأسه على احضانها، وفارق الحياة.

تجمع شعراء ايطاليا وحملوا نعش الموسيقي الخالد اصرارا منهم على نيل شرف وداعه حتى الغندول الجنائزي الذي ابتعد عن برج قصر فندرامين حيث كان يسكن الموسيقي الراحل، وعاد جثمان فاغنريشق شوارع بايرويت على انغام اللحن الجنائزي في “غروب الالهة”. ومنذ ذلك اليوم الذي غاب فيه فاغنر في اعماق الثرى وهو يعرف نوعا آخر من الحياة هي الحياة التي يخلدها العمل.

 

من نتاجه الشعري:

الملاك

في ايام صباي/سمعت حكايا/عن ملك يهجر متعة/يهبط من عليائه في السماء/ليشارك في مأساة الناس/يحتضن القلب المثقل بالالام/يصعد به/ساعة يستمع اليه/يتألم في صمت الوحدة/يتمزق قلقا/يسفح دما كالسيل/ينشد في الموت خلاصه/وأنا ايضا عانيت/حتى جاء ملاك بجناحين براقين/يحمل نفسي/ينزعني من ارض الالام/ منطلق نحو سماء عليا.

عن البراعة

انها منبت الشرور التي/تصيب الالمان، فقد كانت هي/الزاوية التي نظر من خلالها/الالمان الى الموسيقى في عصر/باخ، الذي كانت القوالب/الموسيقية فيه محدودة/ومؤلفو الموسيقى بارعين حقا/اما الآن فقد اصبحت القوالب/الموسيقية اشد تنوعا كما/اضحى المؤلفون اقل براعة/ رغم ادعاءاتهم البراعة، كذلك/الجمهور نفسه بات يتظاهر/بانه اوسع ادراكا متظاهرا/بازدراء ما هو بسيط، يعتريه/الخجل من الاعتراف بأنه/انما يطرب للاوبرا الفرنسية/ويستمتع بها….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *