إغتيال وطن

Views: 349

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 بحر ساكن وحزين، يحاذي مرفأ مدينة بيروت اليوم. السكون والحزن قديمان على وجه بيروت. على وجه لبنان. منذ أول القرن العشرين. منذ التأسيس، ما عرف لبنان طعم الراحة. ما عرف طعم الحياة الطبيعية التي تعرفها سائر الأوطان. لكن حظه في الرابع من آب -العام 2020، كان أقسى عليه، من كل وقت: شهد برهة الإنفجار الكبير.

قبيل السادسة من غروب ذلك اليوم المشؤوم، أو بعده بثوان. كان ما كان. دوى المرفأ. تطايرت أساطيره شظايا شظايا. أطنان من الأمونيوم، كانت كفيلة بإعدامه. بإعدام بيروت. بإعدام لبنان.  هذا هو المخطط المشؤوم الذي خطط له المجرمون. هكذا نالوا من لبنان، تحت أعين الزمان، ولم يستحوا من عيون الشهداء. محوا آثار جريمتهم في ليل أليل، وغابوا تحت كثافة الدخان. مثلما يفعل المحاربون الخبثاء.

الكاتب والصحفي الأستاذ “هاشم قاسم”، من بين المئات ممن هزهم مشهد المرفأ، وهو يتطاير إلى السماء. خرج الجحيم من جوفه دفعة واحدة. غطت السحابة الهائلة سماءه.  سجلت برهة “القتل العمد”، لثلاث: المرفأ. وبيروت. ولبنان.

كتاب قاسم هاشم: (إنفجار مرفأ بيروت: إغتيال دور ووطن- مركز توفيق طبارة- بيروت. ط. أولى- تشرين الثاني/ نوفمبر2021م- 1443ه. ) ، سجل دقيق لهذا الحدث التاريخي الرهيب،  وتوصيف أدق، للذي لم تشهده بيروت، منذ الزلزال الذي ضربها في العام 551 م. وهدم المدينة الرومانية. وأسقط المملكة. ودمر كلية الحقوق.

 جعل الباحث كتابه، في ستة أقسام. تولت الإضاءة على مشهد الرعب الذي ضربها عشية ذلك اليوم:

1- بداية ، أهدى الأستاذ قاسم كتابه إلى أرواح الضحايا. وإلى بيروت الحضارية. وكشف بعد ذلك عن أهداف كتابه. لماذا وضع هذا الكتاب. رابطا بين نتائج الإنفجار المدمر على الإنسان والمؤسسات والعطاءات. عارضا بعض محطات التحقيق القضائية وتعثرها. كذلك عرض الكتاب في تمهيده لكل الأقسام  التي أراد التوسع بها فيما بعد.

 نراه يقدم سيرة موجزة لمرفأ بيروت. ويقف بعد ذلك على التفجير/ الإنفجار الذي طال المرفأ وعلى النتائج السلبية التي أرساها على أرضه، من تحطيم منشآته كلها. وكذلك المنشآت التي طالها من بعيد. ناهيك عن حديثه عن نيترات الأمونيوم والتفجير الذي هز الغلاف الجوي لبيروت كلها. وعن الأضرار والمساعدات، وجملة الخسائر في القطاعين: السياحي والتجاري. وعن أضرار المنطقة اللوجستية. وكذلك عن ترميم المباني والبيوت الأثرية، ونتائج التقرير الرسمي الذي وضعه الجيش اللبناني للمنطقة المنكوبة. نراه يسلط الضوء أيضا، على روح التضامن لرفع الأنقاض، وعن جملة التحقيقات في المرفأ. وعن العراقيل والصعوبات التي واجهت التحقيقات تلك.  وكذلك عن الحقوق الأساسية للمنكوبين: أفرادا ومؤسسات. ويختم هذا القسم الأول، بتضمينه الرسالة الموجهة إلى مجلس حقوق الإنسان، للمطالبة ببعثة تحقيق دولية. خاتما هذا القسم بالحديث الشفاف عن مستقبل المرفأ الإقتصادي لبيروت ولبنان والمنطقة العربية والإقليم.

 2- حوى هذا القسم عددا من الشهادات، التي تلت التفجير/ الإنفجار، كما أسماه صاحب الكتاب نفسه: فهناك من شهد على إنفجار الحقيقة. وعلى جريمة ضد الإنسانية. وعن وطن صغير يأبى الزوال. كما كتب في شهادات أخرى، عن بيروت الحاضنة و عن بيروت الإنفتاح.  وعن الحزن والخوف والشقاء. وكان حديث عن المشهد الدرامي والمستقبل الغامض. وعن بيروت الأمل، تستعيد حياتها وسيادتها. وعن الفينيق الأسطوري، يولد من رماده. ناهيك عن بعض الشهادات الأخرى: فبيروت المتألمة الحزينة، وفي الكاميرا: الشهيدة والشاهدة. وفي الرجاء عودة الروح إليها. كذلك شهد البعض لها: بأنها الأم. والأب. وبأن مرفأها أسطوري. وهناك من رثاها وهناك من قال: شيء ما إمحى في بيروت. وهناك من تحدث بالفم الملآن عن: سحق بيروت.

3- قدم الباحث أيضا في هذا القسم بعض اللقطات الشاملة والمعبرة عن إنفجار/ تفجير مرفأ بيروت. وقدم صورا مذهلة ألتقطت من أرض المرفأ المدمر، بعد وقوع الإنفجار الرهيب مباشرة.

4-  تحدث الباحث أيضا، عن بعض المحطات التاريخية التي عرفتها بيروت. وعن كونها منارة للنهوض والإبداع عبر التاريخ. فهي الجامعات وهي ملتقى الثقافات. وهي المكتبات ودور النشر. وهي الصحافة ومراكز البحث والنوادي والموسيقى وبلد العيش الواحد. تحدث أيضا في هذا القسم: عن مقاهي بيروت الشعبية ومقاهيها قبل الحرب، ومقاهي الأندية فيها. وخصها أيضا وأيضا، بالحديث عن عمارتها الممميزة وعن دور السينما التي عرفتها. وعن إزدهارها وإنهيارها، قبيل الحرب المتتالية التي عرفتها منذ إندلاع شرارتها في نيسان1975 وبعدها. ناهيك عن تبني بيروت لقضية فلسطين، والدفاع عنها على المنابر العالمية، وذلك من ضمن رعاية بيروت لقضايا التحرر والتحرير العالمية. وصولا للحديث عن إعمار بيروت بعد حرب السنتين التي طالتها بالدمار والخراب.

5- أفرد  الأستاذ هاشم قاسم، عنوانا خاصا أسماه: قالوا في بيروت:  ذكر بقصيدة “ننوس اليوناني” في القرن الرابع الميلادي . بعنوان: “بيروت أرومة الحياة”. من ترجمة يوسف الحوراني. وقصيدة “أغاتياس اليوناني” في القرن السادس الميلادي. “مجد بيروت”. ترجمة فيليب حتي. وكلمة ل”جيرار دي نيرفال” (1843)، بيروت “تألق حياتي”، حيث يقول:

“يا مسرحا لأجمل أعراق البشر وللمراكب والملابس والسفن فوق أمواج من أثير”.

 وكذلك ذكر قصيدة “موريس باريس”(1923): نظرة إلى بيروت. وقصيدة “جميل صدقي الزهاوي”- العراق: “مديح بيروت”. وكان له تذكرة لأقوال كثيرة، لكتاب وأدباء وشعراء عرفهم: شوقي بزيع، وسامر مهدي، وسعدي يوسف، وحافظ إبراهيم، وخليل حاوي، وعلي محمود طه، وعمر الزعني، والأخطل الصغير، ومعروف الرصافي. وكذلك، مصطفى الغلاييني، وجورج شحادة، وأحمد تقي الدين، وعبد العزيز المقالح،  ولميعة عباس عمارة، وبلند الحيدري، وسعاد الصباح  ومحمود درويش، ومحمدالعبدالله . وختم ب”ست الدنيا” لنزار قباني. الذي أمضى ردحا من عمره فيها قبل “حرب السنتين” وبعدها.

6- أفرد قسما خاصا في آخر الكتاب لصور ومشاهد من بيروت، كما عهدها الكاتب نفسه في حياته. وذلك بعد أن ضم إلى كتابه -الفرد، لائحة بأسماء المصادر والمراجع التي إعتمدها.

  وعلى الغلاف الأخير، كتب الأستاذ هاشم قاسم : لبنان الإقتصاد الليبرالي والحريات والتنوير الإبداعي والفكري والثقافي، كان هو المستهدف بالحرب وبالتفجيرات. وكان آخرها تفجير مرفأ بيروت في 4آب2020

 وتابع يقول: بيروت التي علمتنا الرحمة والتسامح والحوار الحر.  بيروت، الحيز الذي أتاح تبني الأحلام الكبيرة لصوغ النموذج. فلا شلت يمينك أستاذ قاسم.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *