سجلوا عندكم

بانوراما الاكتئاب

Views: 827

د. قصي الحسين

 (أستاذ في الجامعة اللبنانية)

في “برهة ما”،  يتدفق الاكتئاب على صاحبه ويغمره. وسرعان ما يطوف به، مثل ورقة فوق جدول يسيل، يندفع بقوة، وحوله ضفافه. حوله المناظر والصور والمشاهد. كلها تشهد له، لماذا هو مصاب، بكل هذا الإكتئاب.  بكل هذا الغضب. كلها تشرح له، لماذا كل هذا الحزن. لماذا هو حزين. لماذا يشعر كانه يحمل “عفشه” على ظهره، وأمامه حماره، لا يقل حملا عنه. ولا يقل حزنا ولا يقل كآبة. فقط لأنه دفع على عجل، خارج عتبات داره.

رشا بركات، في كتابها:”لم أتذوق برتقال جدي- فواصل للنشر – بيروت- شارع الحمرا-2021: (ط.70.1ص. تقريبا)” ، تجعل القارئ يغرق في لوحات الماضي الحزين. لوحات الماضي الكئيب. تستحضر له صور ومشاهد وذكريات، من زمن النكبة التي وقعت فصولها، على أرض فلسطين، العام1948، قبل سبعين عاما من اليوم.

 سجلت رشا بركات في كتابها الذي بين يدينا، “وقوعات النكبة” على الأرض. على أرض يافا على وجه الخصوص. ووقوعات الكآبة والحزن على قلبها. وعلى قلب كل أفراد عائلتها. وعلى قلب كل فرد. على قلب كل الشعب. وكان قلمها كلما رسم مشاهد النكبة، كلما فاض بالدمع والدم.

 تحكي الكاتبة الفلسطينية الشابة “رشا بركات”، حكومة فلسطين الولادة بشعبها وبأرضها المباركة. تستشهد في مقدمتها الرشيقة التي صدرت بها كتابها، بالآيات التي ذكرت وخلدت ومجدت بلادها فلسطين، في الكتب السماوية الثلاث. فكانت أن تراءت لها فلسطين بقلمها اليافع، كلها بركة. وكلها عشق. وكلها روح حية نابضة بالحياة، منذ ما قبل الميلاد، وحتى اىعصر البيزنطي والعصر الروماني والعصر العربي.  وحتى وقتنا هذا  من العصر الحديث والمعاصر. ( ص9  ).

أكثر ما يشدد كتابها هذا، على أحقية الشعب الفلسطيني في أرضه التي إقتلع منها في فلسطين. وهي تفند بعض المناحي المزيفة، من خلال الوثائق والدلائل والإثباتات المسجلة والمؤرشفة. وكذلك من خلال الوثائق التي تملكها من أبيها وجدها. وهي تذكر بنضالات أهلها في مواجهة  الإنتداب البريطاني، ومن ثم في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي، الذي كان يختبئ خلفه. و الذي سرعان ما أعقبه.

  تبين لنا رشا بركات، أن أجدادها وأقاربها، ما زالوا يملكون من الوثائق والمستندات، ما يثبت ملكيتهم لقصر ودار و”شركة حمضيات فلسطين”.

 تتألم “رشا بركات” لما أصاب فلسطين من حقد المستعمرين. وخصوصا من حقد المستعمرين الإنكليز و والمستوطنين الإسرائيليين، الذين عملوا على تهجير الفلسطينيين من أرضهم، بطريقة وحشية سافرة. و لهذا، يغمرها الحزن وتغمرها الكآبة. لأن قسما كبيرا من أرشيف العقارية في يافا ومن أرشيف الخزانة التجارية أيضا، كان قد فقد أثناء عمليات الطرد من البيوت والمنازل والقرى والمدن. طافوا على وجوههم، مثل ورقة فوق جدول ماء يسيل بإندفاع قوي إلى النهايات الحزينة في عباب اليم. في عباب يم عظيم مجهول النهايات، من الظلم.

 تتحدث الكاتبة رشا بركات، في الجزء الأول من كتابها، عن بلدتها  “يافا”، من خلال الموقع الجغرافي، ومن خلال تاريخها العريق.( ص11 ). فهي عندها عروس البحر. وهي أهم مدن فلسطين التاريخية. وعروس المتوسط. كانت عاصمة فلسطين الثقافية قبل النكبة.  تقول إنه في العام1949، قام الإحتلال الصهيوني، بتوحيد مدينتي “يافا” و”تل أبيب”، من الناحية الإدارية، تحت إسم بلدية “تل أبيب- يافا”.

الكاتبة رشا بركات

 

  خصصت الكاتبة “رشا بركات” الجزء الثاني(ص25 ) من كتابها للحديث عن برتقال يافا. ذكرت التفنيدات الجغرافية والتاريخية والإقتصادية والثقافية. وضمنت بحثها، حديثا مفصلا للكاتب الأستاذ “محمد فؤاد سعد”، مؤسس القدس الثقافية، عن “يافا التاريخ والحضارة”. وهذة المقالة تبين بشكل دقيق، مكانة يافا، بين المدن التاريخية في فلسطين، وفي ساحل البحر المتوسط. وقد أرخ لجميع الثورات التي إنطلقت منها لمقاومة الإحتلال. تماما كما أفرد حديثا طويلا عن أسواق يافا التجارية: سوق إسكندر عوض بطرس. وسوق الصلايحي. وسوق الدير. وسوق الكرمل. وسوق النحاسين. وسوق المنشية.

 كذلك أبانت الدراسة أوجه النشاط التجاري في مدينة يافا، وذكرت أسماء البنوك في مدينة يافا. قبل الإستيلاء عليها: بنك باركليس الإنجليزي. والبنك الألماني، وهو أقدم بنك في يافا. وبنك دي روما الإيطالي. وبنك الامة التابع لمؤسسة أحمد حلمي والأوقاف الإسلامية. والبنك العربي التابع لمؤسسة عبد الحميد شومان.

تتحدث الدراسة أيضا، عن المدارس الحكومية التي كانت في يافا. وعن المدارس الخاصة أيضا. كذلك شهدت على نهوض الحياة الثقافية في المدينة وجوارها(ص49).

 تبين الدراسة التي قدمتها الأستاذة “رشا بركات”، أقسام مدينة يافا. تتذكر الساحة  المعروفة ب “ساحة ميدان الساعة”. وتذكر أيضا أسماء الأندية والمكتبات التي كانت عامرة في مدينة يافا. وهي تذكر جميع الأحياء التي إشتهرت في المدينة، مثل “حي العجمي”. و”حي الجبلية”. والأحياء الأخرى الإثني عشر.

 “بانوراما الكآبة”، حقا هو كتاب  رشا بركات: “لم أتذوق برتقال جدي”. فهي تتذكر الجنائن والبساتين وبيارات البرتقال التي كان يملكها الفلسطينيون. وهم لا زالوا يحتفظون حتى اليوم بالمفاتيح، إيمانا منهم بتحقيق حلم العودة إلى بلادهم. مما شكل لوحات أخاذة تصف يافا الحزينة بغياب أهلها عنها.

 في الجزء الثالث من الكتاب، خصصت الكاتبة:( العوائل الفلسطينية في يافا قبل1948. هل باع الفلسطينيون أراضيهم فعلا؟). وفي هذا الجزء، ثمة شرح وتحقيق وتدوين وإثبات، للعائلات الفلسطينية التي عاشت في يافا، قبل الإحتلال. ولم يبق منهم في المدينة إلا النذر القليل. ومن هؤلاء، كما يبين معجمها:  “أبو الجبين” و”أبو الخضرا” والأسمر، والإسكندراني والخزندار، والبيرقدار. وكذلك: وهبة.و وكيلة.(ص60). وقد تضمنت دراسة “رشا بركات” بحثا قيما، تحت عنوان “يافا التاريخ والحضارة” (ص61)؛ جاءت به من مؤسسة القدس الدولية. فكانت قد مثلت من خلاله، شهادة قيمة عن تاريخ يافا العظيم، في العصور القديمة.  وعطفت ذلك على دفع جميع الحجج التي أتى بها المحتلون لتبرير عملهم الشنيع في الإحتلال، مثل القول بأن الفلسطينيين، كانوا قد باعوا ممتلكاتهم. وهذا لعمري من أقسى مشاهد الحزن على قلب الفلسطيني المعاصر اليوم أينما كان لاجئا، داخل الوطن الفلسطيني المأسور، أو في بلاد المهاجر.

 وفي ختام بحثها، ذيلت الباحثة الجادة،  “رشا بركات” كتابها بجدول المصادر والمراجع (ص74). وألحقت به  “ملحقا” للصور والوثائق التاريخية. وهذا ما جعل منه، مشاهد حزينة ل “بانوراما الكآبة” والتي تكاد تكتمل لديها.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *