قراءة حسية – إحتفائية .. في رواية “الفرِنكة” للروائية العربية السورية إيمان الدرع

Views: 268


رائد أبو زهرة …

 

.1. دمشقة أولى …

يبوح السرد .. كلما فينا يظل يصعد ..فيصدح ..في الصفحة 300….

” مدن التاريخ لا تشيخ …حتى وإن تجرحت شوارعها ستعود أجمل ” .

فأسأل المعنى في البكاء ….من يمنح الأشياء ..من يمنح المعاني …من يحوزها حين تأخذه .. (https://www.speedclean.com) ويمنحها حين بها يصدح البوح وفيه كأوكسجين الشهيق …فيحيل زفيره ..ترانيم ناي في الفجر والأغنيات …

على أي أرض ..في أي وقت ..تتراقص الدماء حرى .. وحرة ..وحارة كسخين مياه الاجواف الصهيرة …والوجع يصير ذاكرة للإنشاد ..وذاكرة للحنين إلى الفرح ..فمن يمنح من ..وجها باشاً حالما .. مسحة من الجمال الطري .. والهدوء العميق…أهي الكتابة ..حين تريد للحياة أن تفيق فينا.. أو هي الأرض حين تذكرنا كل صبح ..بخيرالشمس .. وإتساعالطريق إلى الحب ..وضيق الطريق في النحيب ..أهي الكتابة تعلمت من الأرض .. من الشمس ..من الشجر ..من النبات المنزلي البسيط ..من نافورة (أرض الديار ) ..كيف تمنح ذاتها ..لكل من شاء الورود لنبعها …حين اضناه أنين العطش ..لتمنح وارديها ..وردها ..نداها ..ألق حرفها …طراوة المعنى حتى حين يجرح … وسلس فيضها … كأنما دونما تعب ..تكاتبت ذاتها ..فانكتبت كما المطر … تساميا للماء ثم هطول جميل …فليشرب كل من شاء الجمال عذوبة سلسبيلا …وليهنىء بالإرتواء كل من أضناه العطش .

     كأنها الأرض دوما تظل تغني ..في الكتابة …يؤخذ الحق إنبلاجا ..يؤخذ الخير إختلاجا .. يؤخذ الجمال إشتفافا ..في قوة الوضوح ..في إتضاح المعاني ..في تحسسات التراب ..لدم الشهيد ..ولقطرة المطر الأولى ..واهبا شقائق النعمان ..لإنتعاشات الصبح ..بشموس الوجوه الباسمة رغم أنف كل الحراب ..الغاشمة المتوهمة ..والغادرة الساذجة ..وابدا لا يرتبك الندى ..في ورق اصيص النبات ..قبل أن تستفيق الشجيرات الصغيرات وأولاد المدارس … كالإشتياق العتيق …ويصدح الهواء قدر استطاعته بالياسمين …عميقا ثخينا فائحا فوحا فريح …يحمل السؤال هادئا ..بإتساع حنجرة الروح في قصب الناي … ويسأل …ويسأل ..ويظل يسأل ….ما هو الحق ..ما هو الخير ..ما هو الجمال …من يقرر الحق ..غير الحب …من ينشأ الخير ..غير المحبين …من يدرك الجمال ..غير الذي يسقيه ..أنين التوق إلى الإفتراح ………..ومن يجيب الأسئلة كلها ….فيقول الناي …هي الروح … روح البوح في الكتابة …من تجيب …ليس لأنها تحوز الجواب …بل لأنها الأقدر ..حين تنجرح الطرقات …أن تكون بوصلة أولى ..لأول الأجوبة .

 

.2. دمشقة ثانية ….

يبوح السرد .. كلما فينا يظل يصعد …

فتصدح الست أُلفت .. في الصفحة .. 61 ..

” يا غاليتي .. هذا الفندق يشبه حياتنا كلها ، محطات نقابل فيها وجوها تسكننا ، حتى العابر منها قد يلاقي في روحك زاوية يختبىء فيها ” ..

 

وتواصل الصدح ..

“قلبي عليل في تعلق أشقاه ، لا أبرأ منه مهما حاولت ، وقسوت ، وتجلدت ، بخاصة في محنة عشنا ظروفها لا يحتملها بشر ، لقد مرت أمامي قصص لا تصدق ومأسي شطرت الروح وأرقتها ” ….ص 61…

      أجل مستني حيرة في بدء قرائتي في هذه الرواية – القصيدة …ثم ذبت فيها من غير ما أدري .. أو بي ذابت ..حتى إستبانتي وإستبنتها …أجل حرت في إبتداءي ..حين عمدت الروائية إلى كتابة المنطوق الشامي بلغة فصيحة …بل بأقرب ما يكون ..بين المحكية والفصيحة …كأنما عمدت إلى ترجمة المحكية بأسلس ما يكون من الفصيحة .. فحرت في أيهما كان سيكون أجمل وأقرب وأسلس إيقاعا في أذن القارىء الصاغي …هل أن تكتب المحكية الشامية كما هي – رسما بحروف الفصيحة – .. توثيقا وتطريبا وللذاكرة ..بلذة يستذوقها كل من أصغاها وأهلها …أم كما فعلت الروائية إيمان الدرع ..وهي تترجم المحكية الى فصيحة ناعمة ..وربما –بظني –  كي توصلها إلى أوسع مدى من قرائها في كل الجغرافية العربية …أجل حرت وأجلت إنحيازي ..مانحا لسياق السرد ولي ..أن يفعلا بي أثرهما ..لأرى ..هل إنخدم البناء الروائي أم إنخدش بأحد الخيارين ..ولست أعني بالخدش هنا حدوثه بالترجمة ..بل أعني به السؤال …هل كان تذوقي سيكون أبهى وأعلى وأحلى فيما لو موضعت الروائية المحكية الشامية كما هي في مواضعا القليلة التي وردت بها …أو هل أنا الذي أخدش السرد بسؤالي هذا فيه …وهو السرد بما هو منه وفيه ..لم يزل يتجلى ..كإضافة جمالية لم تخدش ..بقدر ما أدهشت أكثر ..حين دأبت الروائية …منحازة لتأليق شفاف البوح ..وتأليق معنى البوح …بمقاربة مخاتلة ..عبر تأصيل المحكية كفصيحة بهذه الترجمة الناعمة ..وكأنما في هذا المزج جرأة تروم … الأسلوبية المضمونية ..لتكون أطروحة سؤالية جمالية جديدة …أو حساسية جمالية جديدة ..وما هي بالمضادة أو المفارقة ..ل تيار الوعي ..والمونولوج الداخلي …بقدر ما هي رفدا له ..وتأسيسا لتعليته إلى أجمله .. عبر تجريئ الشخوص ..نحو بوحهم السبري ..أو سبرية بوحهم المنطوقة في الملاء..كخبز الصباح وشاي المساء الشفيف …ليصير المونولوج الداخلي ..مونولوجا صدحيا …معلنا ..لا يخاف أي شيء ..بالذت ..وبالأخر ..وبالحياة …معليا لصوتنا الداخلي ..ليصير صوتنا المعلن …نكشف ونكتشف ونتكاشف ونتقشر من كل اغلفتنا ..لنكون نحن الحياة في الحياة …كأننا ..نقول لنا وللجميع ..ها نحن بكل ما فينا ..ونريد الحياة كما نحن نحب الحياة ..ولن نخجل من أحد أبد ..لأنه الحب …الذي فينا ..أسمى معانينا ..ولأنه رحيق الحياة ..به وله نحيا ..ومنه نصنع كل الحياة .

 

.3. دمشقة ثالثة ….

يبوح السرد .. كلما فينا يظل يصعد …

فيصدح النص بالست ألفت ..أم المتعبين ..في الصفحة ..60 ..

“أمطار نيسان الغزيرة الدافئة تلبست الأعين لحظة الوداع ، كم حاولت الست ألفت أن تروض ذاتها على جعل تيك المحطات عابرة ، لا تؤثر في العمق ..ولا يسحب منها تيك العبرات التي تدل على تعلق بمن يقيم عندها لفترة ما ، زمن ما ، لا تحسبه بالأيام ، بل بجغرافية قلب إنساني رحيم ، أحب البشر ، وأوجد رابطاوثيقا لا تفك عراه “.

      كنت كلما قرأت لرواية متفردة بجمالياتها ..أهمس لنفسي ..كيف سأقول لمن أحب .. عنها ..هل أقول لهم ..إن هذه أجمل رواية ملئتني بالمعنى والإنسان والحياة ..وأن الروايات إما أن تكون بذات الألق ..أو لنبقي الحبر والورق ..دونها ..ليتعلم الاطفال الحياة .

      ثم بعد هدأة ..أفيق من نشوتي إلى هدوءي …هامسا لي ..بأنه .. كما لكل عاشقة عاشق ..ومثلما لكل وردة أريج عطرها ..ولكل نبتة مذاقها البهي الفريد ..كذلك الدهشة الجمالية في الرواية وفي القصيدة .. في المنحوتة والأغنية ….الخ …تفردا تأتى من علو كل التفردات الابداعية التي سبقته …وتعلي بذات الوقت …من منسوب ذائقتنا الجمالية ..أمام كل تفرد إبداعي جديد ..آت بعدها …

      وأن ما يتهامس بي ..هو حس إستجمالي ..أو للدقة ..تحسس جمالي في كل مرة..ينحاز بعفويته الناعمة العطشى المستزيدة الورود ..للدهشة الحاضرة الأن في صدري ..وأراها الأجمل – أنيا – بما هي الأن ..وبما هي أضافت في ذهني ونبضي وتذوقي ..وبخصوصية غبطة حضور مذاقها ..وكأنما الشاعرالعربي العراقي ..قد صدح بالجواب السؤال ..حين أنشد … :   …

” ألا يلتقي المتوازي ..بصاحبه ..

إن سقيناه خمرا ..

ويترك كل مذاق ..بصاحبه ..

كم قليل من الناس …

يترك في كل شيء مذاق “

فحين نكتب الوجع ..كما ينبغي للروح أن تتحسسه ..كأياقين عشق ..حينها بظني ..يكون للكتابة ..قدتها الفذة على الخلق ..على إحياء الروح ….

فأي مدينة هي الشام …مدينة تخلق في الروائية ..إيمان الدرع ..كل هذا العلو الشفيف ..بأخلاقية الحياة ..محيلة أياه – هذا النبض الشامي – ..في الكتابة ..إلى فعل معرفي جمالي ..يظل شير إلى نبض الحياة الأتي ..بأجمل الأجملات ..في كل غد …

 

 

.4. دمشقة رابعة …

يبوح السرد ..كلما فينا يظل يصعد …

فيصدح النص ب .. أم عماد ..في الصفحة …242 …

” دموع أم عماد تشبه رذاذ البحرة الدافق من نافورتها ، تنكمش على ذاتها وقد بانت عظام جسدها النحيل مرتجفة تحت ثوبها الفضفاض ، التفتت تقول :  كنت قد نسيتها ، لم أتت الأن؟ لم تستفز قلبي الضعيف الذي إبتلع غصاته ونام بسكون ، كنت قد أقفلت باب روحي دونهم ، لماذا يطرقونه، لماذا ؟ ” .

ذات زمن أنشأ المسرحي الأول سوفوكليس .. شخصية ” أوديب ” في سردية مسرحية ..وتفرد فيما أنشأ ..وأدهش ولم يزل  يزل ..حتى أضحت شخصية أوديب .. كما لو كانت كائنا حيا حيويا … جراء فرط حضوره الذهني فينا ..كما شخصية هاملت في مسرحية شكسبير ..كما شخصية راسكيلنكوف في سردية الروائي ديستوفسكي …كما شخصية سعيد .س في سردية الروائي.. غسان كنفاني ” عائد الى حيفا “.. كما الكثيير من الشخوص في الأدب …واللاتي أسهمت مضامينهن في التعمق والكشف عن وفي دواخل النفس الإنسانية ..ولم يزل العلم .. عبر العلوم التطبيقية يستند الى الأدب فيما يستند ..في فهم وسبر أغوار النفس الإنسانية العميقة …والأمثلة كثيرة بما لا تسمح المساحة هنا لتعدادها …

     كذلك الأن .. فإن الروائية إيمان الدرع تفعل ذات الجمال الإنسي العميق …منشئة شخوص “الفرِنكة ” .. أبناء سوريا من كل جهاتها ..وقد تكثفوا في فندق (بيت الست ألفت الدمشقي ) ..الذي احتواهم جميعا كما يحتضن الوطن أبناءه جميعا …أنشئتهم بذات حضورهم العفوي والجمالي والحيوي الذي لهم في الحياة ..- حتى وهم شخوص روائية وليسوا بذاتهم في الواقع .. وهذا ألق روائي – بكل دمعهم ..بكل ضحكاتهم ..بكل صخبهم وحدتهم ونزقهم ورحمانية التواصل فيما بينهم ..بكل عوالمهم الجوانية التي بتنا نراها أكثر مما نراهم جراء شفافية بوح السرد بهم ..بكل تواضحاتهم ..بكل شغفهم بالحياة وانوجاعهم من كل ما حدث ولم تزل تبعاته تجرحهم …ويصرون يواصلون الحياة …فاصبحوا…شخوص الفرنكة ..من غير ما أدري وأدري …أحبتي في الورق ..وأقاربي في الحياة ..وأهلي في الحلم ..حتى لكأنني كما الست ألفت ..لم أعد أدري أيهم أحب الى قلبي ..أو أيهم يحضر بي أكثر دون الأخرين …كأنهم وعلى تباين أعمارهم ..صاروا جميعهم …بناتي وأبناءي .

 

.5. دمشقة خامسة …

يبوح السرد ..كلما فينا يظل يصعد

فتصدح زينب .. بعشقها .. وهي التي يجرح المرض  روحها والتعب ..في الصفحة ..314..

” حبيبي  أريد أن أنتحر فيك ، أن يقتلني حبك ، خير من أن يقضي علي هذا المرض اللعين ” .

وتصدح زينب العاشقة ب ..

” أنا لك ..فخذني أنى شئت ، وكيف شئت ، أنا لك يا حبيبي ، أسلمت لك ذاتي راضية ، كل جزء من كياني يناديك ، وإن …إن رحلت بعدها لن أبالي ، فسأمضي مشبعة بك ، أنا لك يا حبيبي فخذني ،خذني ” .

تلفحني ريح الحب .. بضوع بتلاتها ..من صبية هدها المرض ..حتى أوشك يمحيها ..وتتشبث بالحب والحياة من فرط ما يتشبث فيها كل من يحيط بها ..والحبيب بسام أشد المتشبثين وهو البعيد في غربة باردة وينوجع دون أن يبوح ..إذ فيه الحلم أعلى ..يتشبث فيها كما لم يتشبث أحد بأحد …فنصغيه حين يصدح بعشقه متوسلا كل من يستطيع الإقتدار أن تحيا ..حين مستها غيبوبة وجع أوشكت تدميها وتدميه …فصدح فينا جميعا …في الصفحة ..324..

” أرجوكم قولوا لها ..بأن تبقى ، ولا تتركني وحيدا ..وبأن العمر لا معنى له من بعدها ، استحلفوها بحبنا العظيم ألا تفعل ، أرجوكم !! ” …

أجل نحن دوما نستطيع البكاء ..لأننا أحياء ونعشق الحياة ..ويجرحنا كل تهديد بفقدها ..يجرحنا كل تهديد بفقد من نحب ..بسبب الحرب أو المرض أو الفقر أو القهر …ولأننا دوما نحتاج أن نتكشف ذاتنا ..في لحظة إعتصارات الحزن والمعنى المهدد بكل وجع ..ونحتاج الإستبانات الجوانية العميقة كلها …أجل نحن دوما نستطيع البكاء لأننا نحتاجه جدا …إنما السؤال هنا ..كيف نستطيع كتابة البكاء ..كتابة هذا الفعل الذي يجعلنا نرى كل شيء… رغم إغبشاش العيون بدمعها ..كما لم نراه قبل البكاء ..كيف نكتب البكاء الذي أرضه فرح وأفقه فرح …

هي ذي بظني إنميازات الكتابة التي ترنو لعلوها …وهي ذي إنميازية الروائية ..إيمان الدرع ..في عشق المدن والإنسان والحياة ..وهي تصوغ هذا البكاء – الفرح ..صوغا  يحيل كل هذا الوجع الهائل الذي يجرح حتى الهواء …بشفاف بوحي يسبر الواقعية سبرا سحريا منمنا ..بأسلس وأيسر الكلمات …وهي تصوغ أصعب الوجع الجرح والأنين الذي يعصى على الترجمة …ويضنينا كيف نجوسه …فتجوسه بإعلاء بوحية الروح …لكأنها الروائية ..تصر تصدح بالبسيط ..ثم بالبسيط ..ثم بالبسيط …حد إدهاشنا بعلو البسيط ..بعمقه ..بقدرته على كشف كل شيء ..لتحكي لنا وبالبسيط المداهش …ها هو الإنسان …لا يحتاج إلا أن يقول ذاته ..ومن يحب ويحس وبما يشاء من اللغة ودون إذن من أي أحد … وحدها الروح سيدة السماح والإستئذان .. وما اللغة ..السرد .. الأسلوب ..الدمعة ..الدهشة ..إلا السند في حضرة الروح …وكل التفاصيل تصير …الجنود المجندة …يأتلفون في كل ما يؤتلف …لأنها الحياة فينا ..ستظل تكتب لنا الحياة .

 

.6. دمشقة سادسة …

يبوح السرد ..كلما فينا يظل يصعد ..

ويظل النص ينشد ..وصية الحاج تحسين …الذي لم يزل يرنم نشيده .. كوصية ..لكل الأحبة ..في الصفحة.. 358..

” دافعوا عن حبكم ..ولا تتنازلو بسهولة عن أحبابكم ..وتشبثوا بهم مهما كانت الظروف ، آمنو بأحلامكم تتحقق “

فصرت أظن جدا ..أن من يمنحك القدرة على إحتمال الوجع وبكاء المدن ..مجسدا في شخوص صاروا أحبابك ..وأن تعانق فيهم كل بوحاتهم المجروحة والمكلومة والمحلومة ..في الحرب وفي الحياة …هو القادر بداهة قبل ذلك أن يمنحك أس الفرح ..وكأنها الأسبقية المنطقية على حد تعبير الفيلسوف هيجل ..وليس الأسبقية الزمنية …ولأنها الكتابة .. الإبداع ..الإضافة الجمالية ..- رواية ” الفرنكة ” هنا – … تحيل ذاتها … -عبر فعل الروائية فيها – ..لأصلها الأول ..لمنبتها الأول .. للمدن ..المدن التي أنشأت الكتابة أول مرة .. كأول إرتقاء معرفي جمالي للإنسان في إبتداءات التاريخ ..ليظل يرتقي ..منشدا أولات الحكمة في صدح .. ” زنوبيا ” ..ملكة تدمر ..في في عتيق الزمان الذي ما زلنا نتنشق أريجه حتى اللحظة  .. …  ” قوة المعرفة ..  تعلو .. معرفة القوة ” .

    المدن التي وهبت الإنسان ..أضعاف ما وهبها من كد يديه وعرق روحه ونبض أحلامه …فإذا كانت المدن فاعلة كل هذا الجمال فينا …فكيفها دمشق ………….. دمشق الحكاية والرواية .. دمشق التي تكثف لنا روائيتنا أريج عنفوانها ..مذكرة إيانا جميعا أنها ..دمشق ..أم المدن …وسيدة الأسئلة …وأس الأجوبة …وياسمين الحياة …فأه يا شام ..ما أجمل الكتابة ..منك ..فيك ..إليك …كلما تدمشقت الكتابة أكثر ..

 

.7. دمشقة سابعة …

يبوح السرد .. كلما فينا يظل يصعد ..

وتفيض نجوى بألق السؤال كما ألق الحب فيها ..في الصفحة … 172 …

” أي سر فيك يا شام ، أي سر إلهي نعجز عن فهمه وإدراكه ، كم غالبت البسمة التي تراها الأن على الوجوه من دمع حتى صمدت وارتسمت !”.

فما عدت أستغرب ابتهاجي بالبكاء ..لفرط ما صرت أغتبط فيه وبي وبالرواية التي تنشد الفرح ..حد التوق للإستزادة منه فيما يجيء به السرد في كل صفحة …السرد الذي يبوح ..يجوح ..ويصيح صدحا مرنما ..وهو يسبر عميقا ..شفيفا ..أرجوانيا موشى ببياض الياسمين …في أزقة ..وإالتواءات حارات الروح السورية العميقة ..التي تشابه حارات أحياءها القديمة …عبر شخوصها ..ونمنمات حجارة أماكنها وأفضيتها التي تعبق بها ..في كل زاوية وفي كل زقاق ..حد السؤال المتجلي كالجواب ..أواه ما أجمل الحياة ….

       كل هذا الإحساس الشفوف في هذي الرواية المدينة …في هذه المدينة الرواية ..في هذه الكتابة المدمشقة ..حد النعنع والزعتر والياسمين …. فكيف إذن سأحب الحياة بعد هذه الرواية …فيستوقفني السؤال المباغت طواعية ..وهل ثمة ” قبل ” .. و”بعد ” هنا …أم كل ما يصير الأن وبعده هو ” أثناء ” ….فهذه الفرنكة .. المدينة ..البلاد ..الرواية ..القصيدة ..مذ شرعت أقرأها ..وأثناء كل ما تداخلت فيها بقدر ما تداخلت بي ..ما عدت أحس إلا حالة ” الأثناء ” ..لكأنما تماهيت ب ” الأن ” فيها ..ولكأنما سأظل في ” أثناء قرائتي ” ..في عيشي ..حتى بعد أن أتم قرائتها ..كأنما غرقت فيها ..بل غرقت ..ولا أريد النجاة من كل هذا الألق ..لأنه الحياة .

      جمال ..كـألق الجنون ..إذ الماضي مندغم حد الحضور اليومي ..في اليومي المعاش .. وكأن المستقبل ليس متعجلا به أو اليه ..فهو كذلك مقيم حد الحضور اليومي في اللحظة الجمالية الدائبة التجلي ..فأي قدرة فيك يا دمشق ..تصهرين الأزمان كلها ..في ضحكة الفعل المضارع في كل صبح …تذيبين الأوجاع كلها بإبتسامة التسامي والرضا والرقة والمحبة ..كما تذيبين السكر في شراب الورد …بتجدد مذهل ندي طري طازج عسلي .. كل لحظة .

وأي جمالية أبثقتها  … يا إيمان الدرع …حين دمشقت الكتابة .. فجعلت السرد في روايتك..روايتنا ..” الفرنكة ” ..كالنشيد ..كالقصيدة ..بل هي القصيدة … حد أني لا أكاد أعرف أي حرف فيها ..هو الذي يزيد في جمالها أكثر من غيره…. كما بيوت خلايا العسل ..كلها معا أجملها …بيت يؤازر بيتا ..ليكون منهما وبهما وعلى كتفيهما ..بيتا جديدا …ولا فضل لكتف بيت على كتف بيت ..كما في حاراتك العتيقة ..كلها أكتاف تساند اكتافا …لتعلو الفرنكة ..بيتا لعروسين جديدين ..يحلمان بفرح جديد وأعلى ..وفرنكة جديدة ..كما مسمى الرواية …”الفرنكة ” التي تبنى منذ أولات دمشق ..على كتفين لبيتين متقابلين في دمشق ..من أجل فرنكات اعلى وأرحب لكل القادمين منك إليك ليظل يصعد النشيد ..تحيا دمشق ..تحيا الشام …حاضنة كل الجهات ..

 

.8. دمشقة ثامنة …

يبوح السرد ..كلما فينا يظل يصدح …

فيفيض صدحا بألق حبه عمر .. العاشق لل نجوى ولل وطن …في الصفحة .. 172…

” ألم تلحظي ذاك التفاؤل المحبب المشوب بحزن دفين ، كيف تطالعنا الوجوه بترحيب ، تبش في وجوهنا ، وتهنئنا بقدوم العيد ، رغم عدم معرفتنا المسبقة بها ، لا غربة هنا لأن الأهل أهلك ، والدار دارك .. هذا ما تقوله أروقة الشام ” .

كذا سحرية السبر في ولوج الجوانيات ..وإكتناه أشف الشفاف في الإنسان – الذات والأخرين – ومذ مشهديتها الأولى ..وهي تتحضر وتحضرنا للدخول في دهاليز جوانيات أرواحهم ..وعبر الفيض الطري ..وهو يقاشع كل الجدر ..حتى أضحت الأرواح تُرى ..قبل ملامح الشخوص …وأرى الأرواح تحمل أجساد الشخوص …ترسم ملامحهم ..أوجاهم ..أحلامهم ..تمتماتهم ..تضادات اضطرامهم ..تمنياتهم ..غصاتهم ..إقتدارات الرضا فيهم ..وإرتسامات اليسمات في لحاظ إنهيالات الدمع مطرا عذوبا كلما شحت المياه … أرواح ترسم ملامح الشخوص .. حد أن ملامحهم ..صارت ملامح كل الناس …فأحاضن –كقارىء – أرواحهم جميعا ..وهي تتمظهر متجلية في كل من أصادفه ..أثناء وبعد الأثناء ..في الشارع والزقاق …في المقهى وفي الحياة …أفلا أقول مغتبطا حبورا .. تعالو ننتبه لهذه السبرية ..ونوغل السؤال في الإندهاش بها …أفلا أرى بها ..فتحا جديدا ..في تقنية بنينة الشخوص ..إذ تنحفر كل روح من الرواية في ذاكرتي – كقارىء – وفي حسي وذهني ..قبلما تنحفر ملامحه الشكلية …فلا يظل الشخص بجمالية حضوره منحسرا مؤطرا في ملامح شكلية محددة …بقدر ما تتموضع روح جمالية له ..في ملامح كل الناس خارج الرواية ..في الشارع والطريق ..فأصير أحب كل من أرى ..كل من أصادف ..كل من أحاكي …كما أحببت كل عاش في الرواية .. وربما أكثر …فهل ثمة أجمل من تحقيقة وتجلية لمفهوم ” التطهر بالأدب ” .. وفق منظورالفيلسوف ” أرسطو”… كمهمة منشودة في الأدب ..تطهر إرتقائي بالأخلاق والخير والجمال ..

        تقنية سلسة جريئة مجدية ..كفعل حبي جمالي تحريضي ..أبدعته الروائية إيمان الدرع ..بتفرد ناعم ..ودون أي نتوءات …معلية من شأن بوحنا .. محفزة لنا أن نخفض رويدا رويدا من خجل إعلان ذواتنا ..لنحيل معا ..بوحنا العالي ..فنجعله …خبزنا الصبحي …وماء شربنا …وشاي مسامرة من نحب في المساء …فماذ الحياة ..غير هذا الدفء الناعم الودود بين الأحبة كل الوقت .

     وبكل هذه السبرية في سحر البوح ..بذات كل هذا الدمع المهطال … هذا البوح بكل الذاتات ..بكل ألق الأنسنة ..فإن ال 11 سنة من الحرب الكونية الغاشمة ضد سوريا …المغلفة بأقبح الكذب … الحرب التي أوجعت الناس بما لا يوصف ..من الوجع والفقد والتشرد والتحسر وسؤالات القنوط من رحمة السماء حتى …الحرب التي أوجعت حتى الشوارع ..

        كل هذا التوجع في دمشقة الكتابة ..ولم تسمح الروائية ..لهذه الحرب من أن تعدو أكثر من تفصيلة عبرت في تاريخ مجيد لطالما احتمل الغزاة وردهم مدحورين يجرون أذيال خيباتهم …والتريخ شاهد ومشهود …والناس بصمودهم الفذ أيضا ..أحالو هذه الحرب ..من ضربة كادت تكون قاصمة لظهر الوطن … إلى وجع يشد أكتاف الوطن كله ..كتفا الى كتف ..ليشتد عنفوان ظهر الوطن ويصير اقوى واجمل واعلى وارحب …فالناس تعلمو عبر تاريخ سوريا العتيق ..ان هذه البلاد وهذه المدن والناس فيها ..غير قابلين للكسر ..غير قابلين للإنحناء …لأنهم ..عشاق إنتصار ..عشاق المعنى ..وعشاق الحياة .

     لأنها الشام ..المحمية أولا بناسها جميعا …من أصابع الجندي على الزناد في كل جبهاتها ..إلى الطفلة التي تلعب بدميتها في كل الحارات الشعبية …ومحمية بماضي معرفي جمالي أخلاقي ..عتيق عريق ..ومحمية بأفق مستقبل لا ريب فيه .

    ويدرك الجميع ذلك ..من ظل باسقا في الوطن كالشجر ..محتملا كل وجع …منشدا للحياة …ومن غادر هلعا وارتعابا من وحشية الإرهاب والتطرف المستجلبين من كل بقاع الدولار والنفط ..مغلفين زورا وكذبا بالتدين الدموي الزائف ..

     كل هذا وأكثر مما فعلته الحرب في وطن الجمال ..قزمته الرواية ..رغم كل هائلية الوجع فيه …قزمته كي لا يعدو أكثر من تفصيلة ستمحى تباعا …بفعل علو الحب واشراقاته المتتالية في الأغنيات القادمة ..رغم أنف كل الجراح …فعمدت الروائية باقتدار ..أن تحكي تفصيلا الحرب الموجعة ..من خلال أثرها وأثارها في الناس ..الذين أسطروا صمودهم بالحب ..وتوجوه بالبوح العالي بالحب …وها هي الفرنكة ..مشهدية عالية من جموحات الحب ..كما في الواقع اليومي ..كأنما لتقول …سوريا والكتابة في آن معا …هي سردية للحب من أول الروح في الإنسان ..إلى أخر الروح …التي لا أخر لها .

 

.9. دمشقة تاسعة …

يبوح السرد .. كلما فينا يظل يصعد

فنصغي إلى أم أملي ..وهي تبوح بوجع يحن إلى الجمال الأصيل .. ونواصل انشاده لنظل نحياه في الحياة ..في الصفحة ..  88  …

” زرت من بقي ، فالكثير منهم هاجر ، وترك المكان على أثر مآس حلت بنا ،وقلقلات فتكت بشرائحنا الإجتماعية ،ومزقت أواصر الصلة ، وزرعت الفتنة بين مكونات المجتمع ، وتعتبر الحسكة فيها المثال الأكبر للتعايش بين عرب ، وكرد ، وسريان ، وأزيديين ، وأشوريين ، قبل أن تدخل الفتنة والطائفية عقر بيوتنا ، وتلطخ بسواد عماماتها أرجاء شوارعنا المزدانة بالجمال والخير ” .

الأن وقد أتممت قراءة الرواية أقول …إني ما زلت في أثناءها ..تغامرني دهشتين جماليتين …كأنهما تحضناني احتضانا ..دهشة الدمعة الحرى ..التي تظل تتوثب الإنهيال ..ودهشة البهجة بالكتابة – القصيدة ..التي تواصل دغدغة مخيال الفرح ..كأنهما ..تسقياني ماء الحياة …فكم قليل من الروايات .. أيتها الروائية ..هي التي تؤسس لمذاق جديد في البلاد وفي الحياة .

      لذا ..سأظل أنشد محتفيا ب “الفرنكة ” ..كما في كل إحتفاء بمبدعة عربية تأتلق في الكتابة الفاعلة ..وفي الإضافة الجمالية … وأنشد … ” نحو مؤتمر للكتابة …عنوانه الأول …المرأة العربية الجديدة …وكتاباتها الفاعلة ” …وأقول الأن محتفيا بهذه الرواية ..ها هي المرأة العربية السورية ..وفي خضم أصعب وأعتى الوجع الجمعي ..متجلية عبر الروائية الفذة ..إيمان الدرع ..تزف إلينا عرسا جماليا ..بكتابتها رواية ..فريدة متفردة …كإشراع جديد …إسميه إبتداء ..الواقعية السبرية السحر …..والذي بظني ..تأتى للروائية ..نتاج العيش في كل تفصيلة ونمنمة في المكان والناس والتاريخ والروح وتاصيلية البوح وإعلاء للحب كراية أعلى … فأعلت كل ما أحسته وتحسسته في ذاتها وفي ناس الوطن ..وأوغلت حد الدمعة المتولهة للفيض …فقالت ما استطاعت ..وأجادت الإستطاعة ..بأيسر وأسلس وأوجز الكلمات وأشفها …في بنينة بديعة وارفة …دون تكلف أو تصنع أو محاولات تجويد …فكان أجمل ما يمكن أن يكون فعلها …

    وها نحن ننشد الى الرواية ..وتشتد أعوادنا الخضراء ألقا وعزيمة وحبا ..لنفيق على ذاتنا وقد أشرقت بنا …مزدانة بالجمال المحب والمحابب للمعرفة والخير والحب و الأخلاق والحق والجمال …وكأني بها الروائية ..إستحضرت من ذاكرة العتق ..كيف كانت تحكي وتتحاكى جداتنا الأوائل أيام أول التاريخ واول الكتابة واول الحكاية ..فكأنما هو تجريد صوفي …يحكي بأبسط الحرف ..أعمق الحس الندي .

    وأحار كيف أختم كتابتي هذه ..وأنا أحس أني رغم إطالتي ..لم أقل كل ما وددت من شكرا واشارة لكل جمال في هذه الرواية .. وللروائية ..حائكة كل هذه الدهشات ..لاظمة عُرى كل هذه الجراح … بكل قدرة السبر في البوح ..وعبر البكاءالفروح ..مانحة إيانا ..روايتنا ..” الفرنكة ” عبر دمشقة الكتابة في الرواية ودمشقة الرواية في الكتابة …وأدري ..لا يشفع لي اطالتي أحد غير الحلاج ..إذ يبكي شغف جوحه العطوش بكل الرضا والحبور ..إذ ينشد …

” يا نسيم الريح قولي للرشا … لم يزدني الورد إلا عطشا ” …

فشكرا جميلا جميلا ..للروائية العربية السورية ..” إيمان الدرع ” لكل هذا الألق ..لكل هذا الفرح ….

وشكرا جميلا جميلا يا دمشق ….يا أم المدن …شكرا دمشق ..يا أول الإبتداء في المعنى …و أول الحياة .

25-  3- 2022

***

*نحات وكاتب مسرحي   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *