ابن خلدون… جدلية المعرفة ونقد العقل النظري

Views: 502

وفيق غريزي

ابن خلدون هو من اوائل المفكرين الذين شعروا بضرورة التفكير الجدي بظاهرة المعرفة في المجتمع. هذا العلّامة الذي يعتبر اليوم مؤسسا لعلم الاجتماع، اظهر جهدًا مرموقًا في التنظير حول المعرفة، في كتابه “المقدمة”، كما هو الاول في ارجاعه الى حظيرة الاشكال الاجتماعية السائدة (بدوية كانت ام مدينية) العلم والمعرفة، وهو الأول الذي تكلم عن الأسس الاجتماعية للمعرفة والعلم، وهو لم يعمل على تعريف مختلف اشكال المعرفة، بيد أن المسألة ليست غريبة عنه لأنه، عندما يتكلم عن المعرفة، يحرص على التلميح الى التبدل في اشكالها الناجم عن الديمومة او القطع في الاشكال الاجتماعية.

سيرته الحياتية 

هو ولي الدين ابو زيد عبد الرحمن بن محمد ابن خالد بن الخطّاب. ولد في تونس عام 1332م، تلقى على ابيه وعلى بعض العلماء في تونس والوافدين اليها، والقرآن الكريم حفظّا وتفسيرّا، ثم درس الحديث واللغة والفقه والنحو وكثيرا من الشعر. وفي السادسة عشرة من عمره كان قد استوفى اكثر علومه الدينية واللغوية، ثم توسع بعد ذلك وازداد من علوم المنطق والفلسفة شيئا كثيرا. 

سنة 1347، التحق بحاشية ابي الحسن المريني سلطان مراكش، على أن اول عهده بمراتب الدولة فعلا كان سنة 1351، فقد تولى ديوان الرسايل لابي محمد بن تافراكين المستبد على الدولة يومئذ بتونس. وتقلب ابن خلدون في البلاد فكان عند بني مرسين في فاس سنة 1359، وعند بني اراد في تلمسان، ثم عند بني الاحمر في غرناطة، فارسله بنو الاحمر في سفارة الى بطرة ملك قشتالة لاتمام عقد الصلح بينه وبين ملوك المغرب، ثم انتقل الى المغرب، ولكنه تعب من التطواف والمناصب فاثر الاعتزال في قلعة سلامة شرق تلمسان، فمكث عند بني العريق اربع سنوات، وبدأ بتأليف كتابه في التاريخ، وقد تولى القضاء في مصر ردحة من الزمن، وافته المنية في 15 اذار سنة 1406م.

كان ابن خلدون اشعري السلوك يعتقد أن العقل قاصر عن ادراك الحقائق الماورائية الغيبية، ولذلك نراه في حياته الشخصية والعملية يعوّل على الشرع وحده، واما في حياته العقلية وفي مؤلفاته خاصة، فانه معتزلي التفكير يعتمد على العقل والاقيسة المنطقية وطبائع الكائنات تحكيما للنظر والبصيرة في الاخبار. ثم يعتقد ان الامور الجارية في عالمنا المادي والاجتماعي والنفساني تخضع لنواميس معينة وتجري في نظام مخصوص، ثم انها تتكرر كلما تهيأت لها مثل الأسباب التي عملت على ظهورها من قبل. وليس ابن خلدون فيلسوفا اجتماعيا فحسب، بل هو عالم اجتماعي وواضع علم الاجتماع على اسس حديثة، ثم ان علماء الاجتماع الذين جاءوا بعده من الغربيين كانوا دوما مقصّرين عنه في بعض النظريات الاجتماعية.

 

المعرفة والحضارة 

في الحقبة من الافتقار ومن الاختلال العام، انطلقت شرارة الفكر العربي، ان مثال الامس فقد كل اثر على الواقع، وابن خلدون كان هناك لينظم مسيرة الفكر الجديد، وليد الفوضى الاجتماعية العامة، فكان فكره البحاثة موجها نحو المستقبل. ولقد اعطى ابن خلدون للفكر اتجاهاعموديا منطلقا من مضمار العلم المحض الى مضمار المعرفة وكانت نقطة انطلاقه من ان الصلة القائمة بين العلم، اي كل معرفة علمية، والمدنية هي صلة موضوعية. ويقول ابن خلدون في هذا المجال:”إن العلوم اكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك، أن الصنائع انما تكثر في الامصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف. تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لانه امر زائد على المعاش”. 

يلجأ ابن خلدون الى التجريد ولكن ليس لأي نوع من التجريد، فعندما يعتبر أن المعرفة هي ما بعد المعرفة نفسها تصور لادراك العالم، فهو ضمنا لا يرفض، رغم ماديته في التفكير، التجريد، غير ان التجريد يبقى تجريدا ماديا. فالمعرفة هي بنية معرفية وهذا ما يلتقطه ابن خلدون مباشرة، ان التجريد عنده له طابع بنيوي وليس مثاليا، كأني به يقول: “وبقدر ما اعرف اكثر، بقدر ما اصبح اكثر قدرة على المعرفة”.

إن في رؤية ابن خلدون مستويين من المعرفة، الأول مرئي والاخر غير مرئي، الأول ملموس والآخر مشخص، طبعا لا يذهب الى حد اعطاء الأولوية للوظيفة النوعية على الوظيفة الكمية، فالشكل التجريدي الذي يعطيه للمعرفة لا يهدف الى المثالية، بل يبقى اراديا في حدود البنية الوليدة من تجمع عناصر عدة مادية من الاساس.

 

نقد العقل النظري

اذ ندرس فكر ابن خلدون الواقعي، لا نرغب مقابلته او تحديد وضعيته بالنسبة الى الفلسفة العقلانية والمثالية الحديثة، فعقلانية رينيه ديكارت ونقدية عمانوئيل كانط ومثالية هيغل انماط من الفكر الفلسفي لا تشترك في شيء مع فكر ابن خلدون من جهة اشكاليتها العامة: “إن اشكالية فكر ابن خلدون الفلسفي محددة جوهريا بمعطيات الفلسفة اليونانية – العربية، وبخاصة في وجهها الارسطي والافلاطوني، والمعلومات التي يوفرها لنا تقدم الفلسفة الحديثة تساعدنا على تبيين السمات الحديثة لفكر ابن خلدون، ولكن الفائدة الاولى لتلك المعلومات ينبغي ان تكون في مساعدتنا على ادراك قيمة هذا الفكر بالنسبة الى التراث الفلسفي الكبير”. 

إن الفلسفة التي يقول ابن خلدون بابطالها وفساد منتحلها، فلا ريب انه يقصد بها ما اسماه ارسطو الفلسفة الاولى او الميتافيزيقا، وهي ما طرقه الفلاسفة العرب المشاؤون في باب ما بعد الطبيعة والالهيات وما يتحدر عنه من نظريات مستغرقة في التجريد والمثالية حول جوهر العقول وتراتبها، او حول السعادة الفلسفية. وما ينتقد ابن خلدون في فلسفة ما بعد الطبيعة هو اساسها المعرفي نفسه، القاضي بامكانية ادراك الوجود الكلي وتطابق الاحكام الذهنية مع الموجودات الخارجية المحسوسة. وفي نقد الميتافيزيقا ذاتها، فان ابن خلدون يقدم افكارا قد تذكر مؤرخ الفلسفة اليوم ببعض وجوه النواة الصلبة في نقدوية كانط القائلة بعجز العقل الانساني بمقولاته القبلية عن معرفة الحقيقة في قضايا الميتافيزيقا والثيولوجيا كالعالم في ذاته، والروح ، والله، وكلها قضايا تنتهي فيها الوثوقيات الى افكار مجردة متعالية، هي في آخر المطاف افكار ذاتية منتسبة، لا تقول شيئا سوى عن استعمالها التجاوزي لمقولات الفهم وضربها صفحا عن معطيات الحساسية والتجربة. 

إبن خلدون ككل الماديين القدامى والمحدثين، يرجع للانسان وضعه ككائن طبيعي خاضع لمنحنى بيولوجي ضروري وشمولي. وهذا المنحنى هو، من جهة اوسع، النموذج الذي يصلح له بالتماثل لتفسير الحياة، حياة وموت الدول والحضارات كما هو الشان عند شبنغلر على وجه نظري دوغمائي. 

اما بالسببية او “العلية” عند ابن خلدون فهي القدرة على الربط بين ظواهر ومعطيات كأسباب ومسببات، وهذه القدرة ، كلما مارسها فكر الانسان تميز عن الحيوان وتقدّم في انسانيته، ولعل احسن صياغة لمبدأ السببية لدى ابن خلدون هي انه قَصد ايجاد شيء من الاشياء فلأجل الترتيب بين الحوادث. ولا بد من التقصّد بسببه او علته او شرطه، وهي على الجملة مبادئه. اذ لا يوجد الا ثانيا عنها. ولا يمكن ايقاع المتقدم متأخرا ولا المتأخر متقدما، ومبادىء الاشياء لا يمكن ادارتها الا بالعقل عبر مستوياته الثلاثة: التمييزي، التجريبي والنظري، وكلها تتضافر لسبر الحقيقة الانسانية ولتصور الوجود. ان فكرتي الطبيعة والسببية تتصدران تصميم ابن خلدون الدراسي.

 

الفكر والوجود 

إن ابن خلدون يرى أن العملية التي يرتقي بها الفكر من مستوى الكائنات الى مستوى الكليات الشاملة باسلوب كثيف، تتمثل بالنظر الذي يفيد تميز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية، فيجر منها اولا صور منطبقة على جميع الاشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي نرسمها في الطين او الشمع. وهذه المجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الاوائل، ثم تجرد من تلك المعاني الكلية اذا كانت مشتركة مع معان اخرى، وقد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معاني اخرى، وهي التي اشتركت بها، ثم تجرد ثانيا ان شاركها غيرها. وثالثا الى أن ينتهي التجريد الى المعاني البسيطة الكلية المطبقة على جميع المعاني والاشخاص، ولا يكون منها تجريد بعد هذا، وهي الاجناس العالية، وهذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تاليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني. فاذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة وطلب تصور الوجود كما هو، فلا بد للذهن من اضافت بعضها الى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل على تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا اذا كان ذلك بقانون صحيح حسب قول ابن خلدون.

إن المحققين من المتصوفة المتأخرين الحقوا ما يسمى “مقام الجميع” الذي تظهر فيه الوحدة بين الموجودات “مقام الفرق” وهو مقام التمييز بين الموجودات. وهذا يعني ان سبب الكثرة في الاشياء ليس الاعتبار الانساني او الادراك الحسي، فالاشياء لا يتعلق تشكلها والعلاقات في ما بينها بحواسنا، على العكس، انها هي التي تلقي بخصائصها الذاتية على حواسنا. الانسان يتلقى بواسطة الحواس معلومات ترسلها الكائنات في العالم. ولكي يؤكد ابن خلدون وجود الواقع الموضوعي للكائنات الحادثة، وباستقلال هذا الواقع عن المعرفة التي تكونها عنه، وبطابع الكثرة الذي يطبعه في مباشرتنا له، فما هو، في نهاية الأمر وضع الفكر بالنسبة الى الوجود؟ إن الوجود اوسع من أن يحاط به أو يستوفى ادراكه بجملته روحانيا وجسمانيا. 

من جهة ثانية، يختصر ابن خلدون دعوى الفلاسفة بقوله: “إن قومًا عقلاء النوع الانساني زعموا ان الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي، تدرك ذواته واحواله باسبابها وعللها بالانظار الفكرية والاقيسة العقلية، فاذا كانت هذه الدعوى صحيحة، فمعناها أن الاداة التي يستعملها الفلاسفة مطابقة تماما، أي أنها تجعل الفكر قادرا على تكوين تصور صحيح عن الوجود في ذاته، ومن دونها لا يمكنه ذلك، هذه الاداة موضوعة اصلا لحفظ العقل من الخطأ، وهي ما يسمى بالمنطق، ولكن هذه الاداة لا تخلو من الالتباس، فهي من جهة متعلقة بمقتضيات في الوجود تخضعها لغير معيار العقل، وهي من جهة اخرى، تنزع الى حصر الصحيح المقبول في ما هو متماسك صوريا. فالاستعمال المزدوج لها قد يكون سببا للوقوع في الخطأ ولتحويل الاداة التي يستعملها العقل في البحث عن الحقيقة الى اداة سيئة، الفلاسفة يقولون إن الحق حق في الوجود، وفي العقل على سبيل المماثلة. وعليه ينبغي أن يكون الأساس الذي ينطلق منه المنطق حقا ومعروفا، والا فان قوانين المنطق تكون عقيمة. 

 

الاخلاق وعلم العمران 

عندما ننظر الى الاخلاق في علاقتها مع علم العمران لا تعتبر الاخلاق علما معياريا خالصا، وانما نعتبرها معرفة ببعض القوى الاجتماعية التي تتحول تجريديا وتنقلب قواعد ضاغطة او ملزمة، بهذا، المعنى، نستطيع ان نجمع تحت عنوان الاخلاق الفلسفة السياسية والحقوق والعادات والتقاليد، ومن البديهي اننا لا نستطيع هنا اثارة مشكلة العلاقات الجدلية بين الفكر الاخلاقي والحادثات الاجتماعية التاريخية. فما نحتاج اليه هو مجموعة ملاحظات تساعد تساعد على توضيح العلاقات بين الاخلاق. إن دائرة الاخلاق تسيطر على الحياة الاجتماعية. وفي الواقع ان وجودها بهذا الشكل هو ما لعب دورا كبيرا في تكوين السوسيولوجيا الخلدونية. فالثقافة العربية -الاسلامية تحدد اولا بالاخلاق التي انتجتها، وهي اخلاق تعبر عن مجتمع. يجعل في بنيته الفكرية بذور الوعي الجماعي الذاتي واطره. واذا أخذنا بعين الاعتبار الدروس الفقهية التي واصل ابن خلدون يتعمق فيها منذ شبابه، فانه يسهل علينا ترميم العلاقة الاصلية بين الواقع وما اثاره من تفكير عند ابن خلدون، الذي التزم بان الاخلاق تشتمل على ما لا يتعارض مع المعرفة الموضوعية للحوادث الاجتماعية. وعلى هذا الاساس تمكن من الانتقال من دائرة الاخلاق الى دائرة العمران.

شخصية ابن خلدون بين الشخصيات الفكرية الكبرى في تاريخ الثقافة العربية، هي شخصية استثنائية الى حد تثير في النفوس الحماسة والحذر في ان واحد، ويستحيل ردها الى أي مدرسة أو أي اتجاه محدد من المدارس والمذاهب الفلسفية والتاريخية والسياسية والاصولية، وابن خلدون لا ينتمي الى تيار محدد من تيارات الثقافة العربية – الاسلامية، لا لأنه لا يرتبط بأي تيار منها، بل لأنه يرتبط بها جميعا، ففي فكره نجد اثرًا أو صدى لكل المشكلات التي انطرحت على الوعي الاسلامي، وفي فكره نجد استيعابا لتلك المشكلات واعادة صياغة لها من وجهة تأليفية لم يعرف الفكر العربي نظيرًا لها…

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *