قراءة في -سردية المعنى- “أرض الزئبق” للشاعر نعيم تلحوق

Views: 990

غادة رسلان الشعراني

النعيم الشاعر العاشق الذي لا تستهويه الألقاب والصفات قبل الأسماء فهي لا تصنع الاسم أو الشخصية ، فالاسم لديه هو ما يجلب الصفة ، يجد أن الناس يفعلون هذا لأنهم آلهة قبل الله ولأن الألقاب هي التي خلقت الله فالله لقب الألقاب و هو المعنى بلا تكلف …

اختار صفة الزئبق للأرض ، ذاك المعدن الذي يتواجد بشكله السائل والأكثر خطورة بتبخره في درجات حرارة قليلة لتختلط ذراته مع الهواء فلا يدركها الإنسان لأنها عديمة الرائحة واللون لتدخل الرئة ومن ثم إلى الدم والمخ فتحدث اضطرابات في النوم و تهيج الجلد …

أرضه أرضنا التي تميد تحتنا و بنا ، بحركة الزئبق الانسيابية والسريعة فتخفق بنا و نُخفِق معها فيتراوح في مقاطف ذاكرته أو ذاكرة ترابه فيها بين فترة طفولته و الخيال النابض مروراً بمشاهد قاسية للعسكر والجواسيس حتى فترات الصبا والشباب الفياض بعذوبة الحب …

يرسم المشاهد بيد الإبداع اللغوي ليوصل المعنى الفريد لوجع التسلط والبلطجة كما لذته و كما الحب و الحياة فكان مشهدياً أكثر منه وجدانياً ، طريقته كانت ناعمة خائفة مرتجفة ومهذبة حد الارتباك ككينونته حينها ، تشبه براءة الطفل فيه آنذاك وحتى تمنيت أن نخطف معه نبضة الوجع التي تمزق ثياب الحياة وتعري مشاكلنا وانمزاعاتنا الخاصة والعامة فنصل لنشوة الألم التي توقظنا ربما من غفوتنا واستسلامنا ، لنجد أظافره المخربشة تجرح أقنعة الحياة و تنحت صخور الروح لتطلق جواهره للعلن و الشمس …

ينشينا بحب المرأة التي تعرف فيه كل شيء و لا يعرف شيئاً منها فقتال المجهول لدى النعيم صعب لكنه أفظع الأوقات فهو لا يملك بداية كي ينتهي … أوَ لَيس الله أنثى ؟!!!

الرواية المسؤولة لديه يراد بحركتها إيقاعاً إضافياً على الحركة الأصل ليتلاصق معنى حركتنا مع معانٍ أكثر و أكبر من معنانا فالكلمة موقف وهدف و مآل ، الرواية الحقيقية هي نبض من واقع إلى خيال إلى استثمار ذكي للشعر والفلسفة والعلوم قاطبة والاستعانة بمخلوقات فضائية مؤنسنة لتستجيب حركتها العلمية والأدبية والخرافية والسحرية والمخلوقات الحية التي ترعش في الفضاء الذي تنتمي إليه … هي وجودنا …

الأدب لدى التلحوق واحة أخلاقية فأعذبه أصدقه لأنه يتكلم عن الإنسان فينا بجرأة و حرية دون خوف من الأساطير و الكتب المدرسية … الرواية علم حقيقي يمزق الحجب ويستشعر الذات للوصول إلى المعنى الحقيقي …

الرواية – رؤيا و فعل تأثير بحركة فرد خارج حركة العيش إلى حياة المنتهى –  السدرة …

يدرك بمشاهد طفولته أنه ابن البيئة الممتلئة بالخيبات والخائبين و هو المخيب الأكبر لنفسه … فتدور الأسئلة الكثيرة و الكبيرة في رأسه لتحقق إيقاعها و تغدو صندوقاً أسود فيه أهداف الكون و نزوعاته و نتوءاته و أسبابه الموجبة ، فالجواب على السؤال حبسٌ لإرادة العقل ، و من الغباء أن نصف أنفسنا بالأذكياء …

النعيم مع التعبير كقرار ذهني لا يغيب عنه العقل لا كقرار وظيفي ، هو مع الديمقراطية التعبيرية لإنقاذ الذات من العيوب لا الديمقراطية التمثيلية التي تدخل فيها عناصر العواطف و الأهواء …

حدثوه عن (الأنوناكي) حراس الكوكب لخلق مساحة جديدة للمسافات و تعديل الجينات اللولبية كي تطأ فكرة العقل البشري لنصبح أكثر ملاءمة و مواءمة مع القدرة على التخيل البسيط و نتدرج في حقل المعرفة و نصبح طاقة كاملة و نصير ضوءاً يقترب من ضوء الشمس و نبدأ بمحادثة الله…

حدثوه عن الإسراء و المعراج في لغة محمد و عن اختفاء المسيح في سن مبكرة و قيامته بعد صلبه و كيف صار نوراً عظيماً ، و كيف اكتشف السومريون الصحون الطائرة ، و كيف تصدر النجوم صوتاً و تطرق على بدن الفضاء كقلب آدم الذي أقنع حواء بتفاحة الخطيئة …

يتساءل النعيم : هل شارك الله في جريمة لا ذنب لآدم فيها ؟ هل الله الأنثى أغوى حاله فسمى ذلك نفساً خطاءة ليحبل الفضاء مدىً لخياله و حقلاً لتجاربه ؟

هل انفجر ، انفلق و انفلج من ضباب و غبار و أنزيمات عدمية احتكت كثافتها ببعضها فجاء الطيف الذي هو فكان هو ما هو ؟ هل الله حادث خطأ؟ ليجيبه الأنوناكي : عش حرمتك و لا تتجاوز الحدود ، الله هو الزمن و أنت مرهون بالخطيئة ثم يأتيه صوت أمه : سيقتلوك ياولدي ، لا تبحث عن نفسك في الوجود ، عد إلى العدم فلن تتمكن منهم …

النعيم يغرق في خطاياه ليصل إلى الصواب ، يدفق بقاياه في العتمة ليلحظ النور فيرسم الحقيقة …

العتمة عنده أكبر قناص للضوء ، تحميه فالظلمة تجعل منه إلهاً يسكر بتعدد الآلهة فكيف إن كنَّ آلهات ؟!!! فتضحك حبيبته ( لؤى ) ضحكتها الكثيرة …

 

العالم يتغير كما الله في تغير دائم ، يبحث ليعرف نفسه و يجدها و ليستقر ، يمزق الحجاب بينه و بين صورته ، بينه و بين ظله ، كما يمزق البشري الغشاء ليحصل على زرع النطفة و يمزق المولود الغشاء ليخرج إلى النور ، فنحن مخلوقات حيضية لأننا في جسم أم هي الأرض ، فكيف سنقنع  

أصدقاءنا من المخلوقات الفضائية في مجرة لا تحيض أننا أنبل المخلوقات و أروعها في المسكونة ؟!!!

أولئك الأصدقاء من نور و هلام لا يسعون إلى جاذبيتهم بل إلى حبهم ، فالوجود هو الحب و بغيره لا نور في العالم …

يدرك النعيم مكان حبيبته ( لؤى ) التي تهمس بكل قلبها له ، تريد أن تكون رقصة في الريح ، الأنثى البعيدة التي تنتظر اقتراباً من الشهوة ، هي صفصافة الضوء حين يبكي الصباح ويصرخ ، حريق الحب والشوق يضعفها ، ليكون هو إثمها الوحيد ، وجع يدهشها و فرح يدهسها فوجهها عزاؤه يعانقها و يؤوب الورد فيه و تذهب إليه ، يريد أن يولد على يديها فيرقصا رقص غريبين معاً ليقهرا الموت …

يؤكد النعيم أن الحياة صفعات متتالية قبل أن تلدنا الحياة فخسارات أبيه الكثيرة جعلته ينظر للأشياء نظرة كائن فضائي لا رغبة لديه في السقوط فأثمرها به فاشترى الصفعات من أبيه مقابل عمره و تعبه و شقاوته و فهم كيف يزهر اللوز على راحة الوقت …

أما أمه فقد صدّرت كل غيّها المدفون بقضيب الرمان داخل كهف المعنى على جسده العاري لأنه أخذ ثمناً لمساعدة قريبهم في قطف الرمانة فمساعدة الغريب لديها لا تُرسم بمقابل ، ليكون تحولاً في شخصيته لم يزل حتى الآن ، فاللحظة التي تلدنا أوسع نطاقاً من الحياة التي تأكل لحمنا و تسافر في دمنا و صرة أمانينا …

النعيم يقلقه حظه كلما آوى إلى متعته ، يخشى السقوط من ضميره التائب كي لا يركله العمر بندم ، أمسى الحب شهوته و لو غلبه الجنس على ما عداه فجينته ترسل إشارات للكون أنه مستعار من فُلكٍ يبكي لعنته و حتى اللحظة فهو لا يستقيم و قد يكون مستعاداً من برية الزئبق …

( لؤى ) تتكون في جسده ، تحاول إقامة معناها ، تستدل على خطيئته ، تراودها اللغة عن نفسها ، و تخبرها بتكور شيء داخل جسمها قد يكون حبلاً بلا دنس ، تضحك مع أغاني الريح و تنشدها أهازيج المطر و هو يبحث عن علة تقيه السقوط ، فنحن الشرقيون عالقون في عقدنا المقدسة لا نقيم وزناً للأفكار الآتية من جسد المرأة فالكون مأسور بجلبته …

ينصحنا النعيم ألا ندع الإنسان الذي يحررنا من اسمنا يذهب ، لنتمسك به إلى الأبد … حبيبته هي نوره الأنقى استعد معها لرحلة العشق العظيم، شعّ جرح العدم بركاناً مذهلاً و راح إلى مداه …

الحياة كانت لدى النعيم سراً آخر لا يعرفه إلا الأتقياء فرغب أن يكون تقياً بالمفهوم النمطي لأخلاقيات الوجود لا بالمفهوم الديني للتصور ، جعلته الأورام البشرية ممتازاً في إنسانيته فالمبادئ و الأنظمة يتوجب عليها أن تكسر نفسها لحاجة إنسانيتها و ليس العكس …

وجد نفسه خارج منظومة الاعتقاد فالعالم مقفل على نوازع شبقية في كوكب يحمل سبعة مليارات علة هو أحدها ، فهل العالم مسكوت عنه أم الذي اخترعه صامت من لا شيء ، اخترع الجنون و الصمت ؟ هل اسمه القدر ، السر ، اللحظة ، المكان ، المهندس الأعظم ، الزمن ؟ لا يعرف ما هي الحكمة من وجود الله طالما معناه منا ؟ فليدعنا و شأننا …

استشعر خطر الكلام في جلباب أبيه رغم أنه أعاره جبته لينير طريقه باتجاه المعرفة ، علمه البلاغة في سن العاشرة ليقضي على بقايا طفولة أراد أن يعيشها على مهل …

شكر القدر أنه لم يتعرف على جديه لأبيه و أمه اللذان لم يصدقا أن العالم سيخلد الرتابة و التصنع و الانهيار لمعتقداتهم التي أسست لمفهوم الإقطاعي الذي يرث الاسم و الشهرة و المجد بلقب من إمبراطورية مستعمرة ، لم يعرفا أن العلم بصر يبحث عن بصيرة بينما الحلم بصيرة تبحث عن حافز و شغف لممارسة طقوس الحياة …

كان صغيراً على الأدب كبيراً على الحكمة فلم يتعلم صغره ليكبر ، تأكد أنه في الحياة الأدبية كلمات نستعملها و لا نعرف معناها و اشتقاقات أودت بنا إلى لسان العرب المقطوع المشغول بحروف شكلية للزينة ،  فِطرته طغت على بلاغة أبيه و رافقت بلوغه مع بداية الحرب اللبنانية ليعلن سيلانه على كل شيء دافىء ولم تكن ( لؤى ) قد ولدت بعد وهي تستغيث في بطن المعنى …

لا يتم لدى النعيم فهم الحياة دون وعي مفهوم الهزيمة فالهزيمة أفضل من الانتصار غير المرتكز على هوية فلم يُرِد من أحد أن يصمم له حياته فقد ألغى كل أفكاره السابقة التي بناها على نظريات و أعراف لا تخدم …

الكائنات الفضائية سردت له بعض هشاشة الكوكب الذي نحن فيه ، فالعالم أوسع من أن يدله على مداه و أضيق مما يشتاق من حرية أو يحلم بفرادة…

كل مخلوق حي اخترع إلهه ليضيفه إلى حضوره كي يمارس متعته في البحث عن شيء يحميه كشخص أو قبيلة أو حزب أو طائفة لينقذه من الخوف و الضياع و الموت …

فأحلام من ينامون على الريش أجمل من أحلام من ينامون على الأرض …

باختباره العالم عرف أن الجسد لغة و الكائنات لغة و الأرواح لغة و الإنسان ليس اسم جنس بل صفة نوع دلالة على كل شيء حي يرتقي و أدرك أن الفهم اتساع و هو عقل و أن الغريزة عقل و العاطفة عقل والصورة عقل و لها خصال و خصائص ، فكل كائن حي يتعلم ليعرف و يموت ليرتقي فالموت هو الصورة الأجمل للخلاص من العطب والكون واسع الاحتمالات لكنه ضيق الخيارات ، أليس حريّاً بالعظيم وشركائه في لعبة التكوين أن يزيل عنا تعب البحث عن لغات عديدة لاكتشافه و الوصول إليه؟ ماذا يرتجي في لعبة النرد هذه ؟

الكائن المتطور أنوناكي يرتب نفسه مع جماعة ( أبولو ) ليسرق لحظة المعرفة من سر اللا وعي فيجمّل صورة الحدث و يعطيه شكلاً يستحق وعينا فيه فيصفه و سيده سقراط بأنهم جبناء ، واحد حرث فكره خوفاً من العقاب و واحد يحرس الأرض خوفاً من الفناء ، أما الله فحادثٌ خطأ …

في الخامسة عشر من عمره كان أقصر حظاً و أطول صبراً ، يتساءل عن العالم الذي ينتظره ، يوجعه التفلسف ، ليس لديه القدرة على إثبات هويته و لا تخيل أمكنتها ، يرى ذاته كائناً مغشوشاً ضرب موعداً مع حرارة الكون و برودته دون أن يعتاد على أن أبيه حكيم الزمان و أن أمه مخلوق فضائي …

هدوء زوجته علمه الصبر و الانحياز إلى الاعتدال في أكثر الأوقات لكن ليس في كل الأمور ، فالهدوء انحياز ضمني لسقوط الأقنعة و الصمت لغة لتسمع نفسك قبل أن يسمعك الآخرون ، فالبساطة أبلغ الكلام حين يكون في مطرحه و ننتبه إليه ، و من المستهجن أن يبقى على فرضية واحدة في حياته ، حاول الوصول لجنس بشري ثالث يختصر حكاية الوجود فمرض المعنى لديه لأنه شابه كل شيء إلا نفسه …

 

يرى القصور الذهني في معظم مجتمعات العالم العربي فالنخبة ضالة كما القبيلة ، يدّعون الألوهة قبل استحقاق الإنسانية ، اكتشف أن الثقافة لا تكمن في القراءات و لا في عدد الكتب التي نؤلفها أو ننشرها بل هي في استدلال المعنى التابع لها فالثقافة في المجهول لا في المعلوم من الكلام ، الغموض في الرحلة هو في ثقافة الفهم قبل ثقافة الوعي التي هي إملاء سري لم نحظَ قط بسمعة مكانه إلا في الكتب المقدسة …

يجد النعيم أن الوردة تعبيرها عبيرها و المرأة تعبيرها شذاها فالوردة كما المرأة ليس لها رأي واحد و لأن لها في كل يوم رأي كما الله فالوردة الحقيقية لا تبقى على رائحة واحدة بل تتعدد بتعدد الأيام والفصول …

أراد النعيم شيئاً أبهى من الحياة ليستحق شرف الانتساب إلى الحرية و الفضاء فالفلسفة مادة أفيونية تجعلنا باحثين عن الله مستلقين على ظهورنا لنجد أجسادنا واقفة على رؤوسها دون أن ندري في نهاية المطاف ، والاستيقاظ يحتاج لجناحين الإرادة و الرغبة وهذا لا يؤكد طيرانك لأن أكثر ما تحتاجه في هذا العالم أن تلد إنسانيتك كي تستيقظ من غفوة موتك ..

يتطلع النعيم إلى اليقين إلى الحقيقة إلى وجوب الوجود لا إلى ممكنه فيستغرب الأشياء حوله يمارس مهنة الدفاع عن الكوكب ويحاول تجليس الحياة ، يؤكد لنفسه أنه سيكون أفضل ما استطاعه لذاته أو أسوأ ما أخبرته به البصارة في أحد شوارع البدايات ..

كان بالكاد يمشي نحو غبائه المستمد من اللا جدوى واللا يقين ، فيحاول أن يذهب إلى حبيبته قبل أن يخطفها الله منه ، اختفيا علّ الله يغفو عنهما وينام صمته إلى الأبد ، فمن سيعيد الله إلى معناه ؟ كل فرد يعتقد أن الله ملكه و أنه خلق لأجله و أنه لا يمكن أن يكون لغيره

النسيان أجمل النظريات الكبرى و التي يعتبرها الفرد البشري آفة و هي أغنى ما تكون في نزاعه مع الوجود …

يؤكد النعيم أنه ليس من السهل أن نحب أحداً لكنه من الصعب جداً و العسير أن نحترم أحداً لنحقق ما دعاه داروين بنظرية / النشوء و الارتقاء /

عندما يهاجمك السرطان تصالح معه لتهزمه شر هزيمة فالمرض مثل الجهل و التخلف و التسرع و الإحباط إنه مثل إسرائيل ، إنه شيء مثل الأشياء و أنت تعادي اللا فهم دائماً فتصفه بالمرض أو الشر ، إن أردت قتل شخص أطلق عليه إشاعة لا رصاصة ، لا تفكر بالسرطان فتشفى …

الثابت الوحيد هو التطور ، لم يزل الله في تطور و لا ثوابت في المادة الحية فالنجوم ظل النهار أو اكتشاف الشمس لنفسها والزمن مجموعة نمش برتقالي على جسد امرأة تهوى الخلاص من فكرة المسيح هي مريم …

قرأ النعيم ( أنطون سعادة ) و لم يدرِ مشيئة الأرض فهي علَقة فكان متمرداً أكثر منه ثورياً ، فالثوري كلب سلطة بينما المتمرد يحزر الخطأ داخله و ينتقد نفسه فينال حظوة و شرف الخطأ الذي قام به …

خلق الله الإنسان ليمزق الحجب أما معنانا فهو حياتنا التي تعطي الوجود معناه ، فإحدى الطرق التي تمكننا من التحكم بذهننا هي أن نتعلم كيف نسكنه …

يرى النعيم أننا لم نصنع حداثتنا بعد فمنذ انتصار الأشعرية على المعتزلة توقف العقل ، اكتفينا بالمقدس وما أنجزناه من رحلة الوحي معنا، توقف فعل التمرد على الذات و على ما ورثناه من قضايا شائكة لا حل لها إلا بالإلغاء لا بالحوار ، صرنا كسولين خاملين فهناك من يحب و يعمل و يفكر عنا …

في العالم العربي نقرأ بنسبة نصف ساعة في السنة و في الغرب ٢٠٠ ساعة في السنة ، حال مزية إلى أقصى الحدود ، انقلبت القيم فما كان عاراً بات شرفاً ، كثر الفساد ، القتل ، المذهبية ، الطائفية ، الأنانية والأحقاد ، لم يعد العقل الجمعي وظيفة للتعاون بين الشعوب والأطياف و لا الحضارات هي ملتقى الندية بين الناس فالغرائز تحكم الفعل لنصير إلى لا شيء و إلى لا معنى …

الآلة تفوقت و اللقاءات الثقافية صارت نوعاً من البرستيج الاجتماعي و بات هناك أهل الظاهر و هم كثر و من يعرفون أن الكلمة هي الحقيقة وليست حروفاً باتوا نادرين …

حبيبته ( لؤى ) قد أرشدت غفوته إلى شاماتها الثماني ، تلك النجمات الصارخة لا تظن وجودها عبثاً فهي تأليف متوازن بين خطوط الطول والعرض كأنها مرسومة مسبقاً بتوازن دقيق فالسر متوازن الإشارات و النقاط و الأضلاع ، إنه المهندس الأعظم ، أرشدته إلى حبة الفستق الصغيرة التي ولد منها العالم العقيم ليخيطا عالماً جديداً معاً بلا سؤال و لا طلب ، سيحررها ليكتشف معناه ، رقبته لم تطاوع شفتيها فعقد قراناً مع المعنى ، حظه الأرضي مجنون بابتسامتها التي لا تشبه غيرها ، فوضع شامة تاسعة على عنقها ، نجمة لا تنطفئ أبداً …

شك النعيم بذاته و هو في الطريق يتجه نحوها ، لم يشعر أن الوطن يولد في داخله إلا حين قرأ ( أنطون سعادة ) الذي جاء من أقصى الجهات و اشترى عذاباته بالدم و نثر أفكاره و مراميه في عقول من لم تصل لمكنون العالم الثالث بعد ، لتحظى بإنسانيتها ، كان إنسان الما بعد في استحضار رعشة الخلق كي يعيد صياغة عالمه و أحلامه ، أدرك أن الحلم ليس مناماً لا واعياً بل ضرورة ليكون لك قضية تساوي وجودك و فهمك لنفسك فالحب هو الصراع عينه كما الحرية ، التضحية بالدم والروح في سبيل ما تعشق وما تبحث عنه إرادياً ، فالحب ليس ما يبرز الجمال و حسب و إنما قسوة الحياة و ما فيها ، كان عالماً و حالماً في آنٍ معاً ، لم يكن ( سعادة ) رجل سياسة بل رجل عقيدة بامتياز ، رجل إصلاحي لأمته و بلاده ، دبّ نفسه في هذا العالم العاقل – العالم العربي فجاء إلى موته و قرر الانتحار و لم يصغِ لأحد ، رفض التحول إلى زعيم سياسي أو طائفي ، كان صاحب مدرسة فكرية عز نظيرها في الشرق ، قام بالثورة الاجتماعية الأولى و سلم نفسه و لم يهرب ، أراد أن يكون قائداً لأمة لا ترضى الهوان و الذل و التبعية و الانكسار ، أمة الإنسان الجديد ، موته كان شرطاً لانتصار القضية فصار الحي الحقيقي الذي لا يموت و لا يغيب …

 

سأله صديقه عن شؤون قضية فلسطين كون لبنان الأوفر حظاً من تداعياتها ، عبّر عن صمته بضحكة مواربة فقمة الإدهاش لدى النعيم تكون صورة لا عبارة ، سخرية تبدّت على تفاصيل وجهه أعتى درجات العته ، حين يكون عاجزاً لا حيل له و لا حول سوى أنه عربي ابن عربي …

الشعر لدى النعيم هو الكيف الجمالي الذي يحدد له صورة جديدة لم يدركها من جمل الإنشاء المرصوصة بنظام ، فالشعر تخريب القواعد والجهات ، قاعدة القواعد و الأنظمة و البحور ، الكيف الذي لم يحصل بعد ، نتخيله و لا نتصوره ، هو شيء الأشياء و لا شيء الأشياء كلها ، هو لا قاعدة الأشياء …

الغرب لا يزالون على كلمة واحدة يصاحبها فعل و نحن أهل الشعر نثرثر بعواطفنا الجمة التي لا تخلو من هزل لكل عابر سبيل …

حبيبته صارت شريدة المنافي ، تَعتَعَها السُّكر ، والمنفى رؤيته حين اكتشف أنه على طابة نصفها آلهة والنصف الآخر أنبياء وقديسون و هو البشري الوحيد الذي يسعى لإنسانيته ، فالكرة الأرضية لا تحتاج لمن يوقد لها المعرفة و يضيء فيها الوعي ، تحتاج لإنسان بسيط يسعى إلى كمال شغفه ليس إلا ، يتذكر جملة أبيه الآن حين قال : ” اللصوص لا تراها ليلاً على أسوار المنازل و إنما تجلس في وضح النهار على مكاتب فخمة ” ليعود و يغني مع حبيبته طريق المنفى …

نصحه صديقه أن يقود هواه و يذهب حيث يشير له عقله و ينتبه ألا يدفن قلبه معه، عليه أن يوقظه ليكون منارة الحلم الذي يبغيه ، قد تكون حبيبته حيث تركها أو حيث يتجه أو حيث يريد أن يكون ، عليه أن يكون فارساً بخيلاً على المبنى كثيراً على المعنى ، يحرّر عقله ليعرف إنه أقل من حشرة في عالم الفراشات ، هناك أنواع حشرات لا يصير فراشة فأية فراشة لا تطير و لا تكنس الزهر من المآقي لا يعتد بها …

حاول الصديق لجم النعيم بنظريات ( ماوتسي تونغ ) ، التي جعلت الله اشتراكياً و رأسمالياً في آن واحد ، فما جدوى أن نكون نورانيين طالما لم نصل إلى مرحلة العقل بعد ؟!!!

الحياة تحتاج إلى خطأة ليستقيم صوابها و ليست بحاجة إلى الصواب لتكمل اعوجاجها فالتعبير سلاح جواني خطير لا ندرك كنهه لأن الحياة نفسها عاجزة عن إيجاد معناه ..

يعتقد النعيم أن الكون اختاره لمهمة لا يعرفها ، لم يكن بحاجة لأفكار و ميثولوجيات ليستقبل سر الحرارة المركونة حين اقتربت منه صديقته ليبدأ نشيد المطر و سياب القهر منذ آلاف السنين ، فالسفينة في الكون تقاد بأشرعة تتحكم بها أنثى تخالف قوانين العقل الذكري ، تمتطي فارسها كحصان طروادة لتعلمه فن تحديث الكون و خلقه من جديد أو أنه الحصان المجنح الذي استخدمه البابليون للوصول إلى الله ، فالتطرف هو كل الحقيقة ، أما الاعتدال فهو نصف الباطل ، يقول أباه : كن بسيطاً فالبساطة تدلك على اليقين ..

لكنه مولود في عالم مليء بالثرثرة ، البناء الضخم لأنظمة الخوف و العقل مجتمعين لنربي أجيالاً عقوقين خدمةً لذكورية صارخة و ضاربة في عمق الوراء ، فهو يعشق خياناته للجامد من الموروث ، يريد فهم المساحات المهجورة من جسده قبل داخله ، أدرك أن قول الحقيقة أخطر بكثير من عدم قولها فأعلن العصيان …

( بيرتا ) مدينة المدن ، مدينة العبث ، كل شيء بدا راكضاً ، تبدلٌ و تحولٌ سريع ، ارتفاع سعر القيمة و انخفاض قيمتك تباعاً ، يتآمر الكل على الكل ، العالم يتآمر على نفسه …

جنسٌ واحد لم يتفق على تحقيق بشريته فكيف به يدرك معناه ، الإيجاز لا يليق إلا بالشعر ، فالثقافة لا تقوم على النبرة ، لا تكبر إلا بالمكابدة و لا تعظم إلا بالصبر و التجلد ، نجاة المجتمعات العربية لا يقوم إلا بالشغف باللغة أو التمييز اللغوي ، لقّح نفسك ، اقدح عقلك ، فتّح لسانك تصل ، لا تكن غريباً إلا بما يشتهيه نظرك فَتغرّب و لا تكن غريباً على نفسك ، لا تكن كفيف الروح كن كالمعري في أخلاقك ، النبل في الطريق إلى الصبر ، لتكون موحداً حقيقياً ثبت العقل أولاً بالتقادح ثم النفس بالتلاقح فالكلمة بالتفاتح …

لدى النعيم من الضروري احترام فكرة الخطأ فالله فكرة المحو لا الإملاء ، الله هو الصمت لا الكلام ، والشعور بالآخر حاسةٌ سادسة لا يمتلكها إلا الأنقياء فلا تحيا بلا أمل حتى لا تكف عن الحياة و لا تعقد قرانك على فتاة تحبها أكثر مما تحبك …

الفن وحده لدى النعيم ما يحول الخراب إلى حياة خالدة و الشعراء رتب والكتّاب مراتب و العلم علوم و القيم أوزان و الأخلاق مذاق و الرواية سرد مشكوك بأمره و الفكر لا أمر له و الخيال خليفة الخليقة و الماء زئبق لا حياة فيه ، أما الرياضيات و الموسيقى كالعطر لهما رائحة تشتم عبر العصور ، ينقيان الروح ، لكن مادام الفلاح يزرع عرقه ليحصد جوعه ، كيف للغة أن تستقيم ؟!

الصداقة لدى النعيم مشروع طاعن في السن ، لا مصلحة فيها إلا لنفسها و غايتها التضحية بأن تكون نبيلاً و شجاعاً ممهورة بعقد ذاتي واعٍ لتقبل الآخر كما هو ، تحترم أفكاره و معتقداته شرط أن يتنفس من رئتيه لا من كبده …

فالبطل ليس من يعرف كيف يربح ، القائد الكبير من يعرف كيف و متى يخسر ، للخطيئة وجهان : وجه للون الشمس و وجه للغفران ، ليكون قوس الزمان إذا دخل باب الغياب بان و تجلى و ظهر ، ليكون فتى الوجوب و الوجود و الفعل في أفق الكلام ، ليبقى صانع الفرح للجميع رغم أنه لم يذق طعمه أبداً ، ليبقى الذاكرة و المنفى ، فالدفقة الشعورية للجسد أقوى طقوس العبادة ، و اللغة أعجز عن التعبير عما هو حقيقي فيه …

القلق ليس نقياً ، نحن كائنات خائفة ، لذلك هو بحاجة للموبقات حتى يعي سر النقاء و الكينونة فهو يبحث في حبيبته عن رحم الأم و يحتمي بظلالها ، فالنصوص تقول كل شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه والقارىء الحقيقي  يفهم أن سر النص يكمن في عدمه لا في فهمه ، النقاء في العدم ، في الشغف ، حين شُغف العدم كان الله ، أما حبيبة النعيم فتكون في بياض وجهها و نار قلبها …

سقط فكر ( سعادة ) عليه ليذهب لامتشاق إنسانيته من داخل كيانه المعرفي فلا بد له أن يخرج من علم السلالة الواحدة و العائلة الإقطاعية ، هزه ( سعادة ) فاشتعل بنار الجنون ، لكنه اكتشف هروبه من جده الإقطاعي ليكون في حزب أقصى طموح رئيسه و حلمه أن يكون مثل جده الشيخ الأكبر فعرف لماذا انتحر ( سعادة ) ، فالمعنى هو عصيان اللحظة دائماً و أبداً ، و حبيبته وافقت معناه فالرماد يسامح النار لأنها أنثاه فلم يكن ينتظر الله و لا تصفيق السماء بل ينتظر صوتها ليمسح عنه غبار الطريق ، هو الجائع لها فالجوع والبرد لا يحتمل مضاعفتهما به ويخاف عليها من نفسه ، راكض إليها ، وحّد المعنى وهي كانت صريعة المبنى ، فالله وجد نفسه في أزمة خلق و لكي يعيد ترتيب المبنى ابتكر معناه ، انعتق من أزله و عدمه لكنه سئم وحدته فقرر أن يتسلى و يتمتع ، خرجت حبيبته من جسد المبنى إلى جسد المعنى و رقصت بثياب المعنى بلا ظلال فاستل نورها الفضائي ، تمايلت كما لم تعرف الخطيئة كهذا الجسد العنكبوتي الذي فاقت أهواؤه أسرار الوجود حتى طلب الله مبادلته الأدوار و صارا واحداً ، تشبثت هي به فارتشفها بكليتها ، أحاطه نور كثيف ولم يفلت جسده منه حتى استذاب ، فهم أن الأنثى جرح لا جسد، رحم من غبار ، تريده الدخول بها ليكملا رقصتهما الأولى فيصعقا المبنى و يخرجا من الظلمة إلى النور ، ينعكس بها و يتفجر عليها و يطلق سهمه فالمعنى ينام في المرأة التي تحمل كل الأسرار ، إنها معنى المعنى الذي حمل معه كل المحيطات و البحور و الأنهار ، هي قميصه و جسده لأنها النور فكان ظلامها لتحل به ، عباب جرحها خرج من عدمه لأنه أناها ، يستكشف نقاءه في رحلة خروجه إليها و يعيد تظهير يقينه بها فكل ما رسمه لم يكن لها بل له أيضاً كي يفهم سرها أكثر ، هي المسبوقة بأثير من سديم زئبقي و هو لم يفهم غبار نور يصعد إليه بجسد إله ، فإذا كان العدل يرث العالم و المهندس الأعظم اكتشف هواه فهذا يعني أنهما امتلكا من المتعة ما لم يدركه مخلوق ، فكل ما اجتمع به هو وجهها ، نورها السارق لكل الخطايا و أرذل العمر ، اصطدم بجدار الصمت فوقع منه اثنان – الله ووجهها – و لم يدرك بعدها أيهما هي …

النعيم يسأل الله أن يكون بسيطاً مع جرعة حب ، يدرجا بساطتهما على مدرج الغيم ليمطرا حباً ، أيتها المرأة السر : لتتركي قهوته ترشف من رحابك رشفة أقاح و تنامي بخصرك على كبده الموشوم بالتفاح ، هو عاشق الخطيئة ، يريد أن يبقى معك في الماء …

الحرية التي حدثه عنها أباه ضاجعتها ملايين الأنفس فأنجبت مسوخاً من هراء و الوطن الذي خاطر لأجله قامر بسمعته و بأحلام الشهداء ، أصابع أبيه التي علمت على وجهه أسبوعاً كاملاً مضت به ليعرف سرها الآن – كن بسيطاً كالله ، احترم نبضك كي لا يستقيل وجهك منك – …

*****     *****      *****     *****    *****

شكراً واسعاً كاتساع معناك و بوحك شاعرنا الجميل النعيم

شكراً معتقاً كروحك الطاعنة في العمق و الإيغال و الصدق

سردية للمعنى بمبنى شاهق واثق عتيد كبناء فكرك النير …

دمت منارة حق في عالم خبا فيه ضوء النجوم و بيع القمر

محبتي و احترامي دوماً …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *