أنطون سعادة ناقداً أدبياً

Views: 510

محمود شريح

 

في مؤلّفه النفيس الصّراع الفكري في الأدب السوري (1942) طالبَ أنطون سعادة بضرورة حدوث “نظرة فلسفيّة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ” ينشأ عنها “تغيير في مجرى الحياة ومظاهرها”، ذلك أنّ حصول “النظرة الفلسفيّة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ يفتحُ آفاقاً جديدة للفكر ومناحيَ جديدة للشعور”. لم تؤثّر نظرة سعادة فقط في الأدب والفنّ بل تخطّتْ ذلك لتشتملَ على “الأعمال والأخلاق والمناقب”. هذه هي إذنْ “نقطةُ الابتداء لطلبِ سياسة جديدة وأشكال سياسية جديدة ولفتحِ تاريخ أدب وفنّ جديديْن”، فلا يفصلُ سعادة بين نهضة أدبيّة ونهضة فكريّة، فكلاهما رهنٌ بحدوث نظرة فلسفية سوريّة قوميّة اجتماعيّة. 

رفضَ سعادة القاعدة الفرديّة التي تتوقّف عليها شهرةُ الشاعر، فهذه قاعدةٌ تؤدّي إلى الاستعلاء والتفرقة والفوضى والعداوة والحسد، ذلك أنّ جُلّ ما طمحَ سعادة إليه هو “حشد جميع القوى النفسيّة لرفضِ عالم النزعة الفرديّة والغايات الماديّة. القاعدة الذهبيّة التي لا يصلحُ غيرها للنهوض بالحياة والأدب، هي هذه القاعدة: طَلَبُ الحقيقة الأساسيّة الكبرى لحياةٍ أجود في عالم أجمل وقِيم أعلى”. 

رأى سعادة أن بعثَ أدبٍ قومي هو نقطة الانطلاق و”أنّ في سورية حاجة إلى التجديد الأدبي، ليس لمجرّد التجديد وتغيير الأساليب وإظهار أشكال جديدة، بل للوصول إلى التعبير عن نظرة إلى الحياة والكون والفنّ جديدة، قادرة على استيعاب المطالب والمطامح النفسيّة المُنطبقة على خِطَط النفس السوريّة”. لا يقلّل سعادة من شأن الوافد الأجنبي الذي يلقِّح الموروث، لكن على الأدب القومي أن ينهضَ أوّلاً ومعيارُه الأصالة، ذلك “أن الاعتماد على المواضيع الغربية لا ينشىء أدباً شخصيّاً لمجتمع له خصائصه التي يمكنُ أن تُضافَ إلى مجموعة الآداب العالميّة ووحدات خصائصها”. من هنا رأى سعادة أن القيمة الفنيّة ليست في هويّة الموضوع بل فيما ينطوي عليه من قضايا و”في كيفيّة معالجة (تلك) القضايا وفي النتائج الروحيّة الحاصلة من هذه المعالجة”. 

في دعوةِ سعادة هذه عودةٌ إلى الجذور وردّ اعتبار إلى الأصالة. يصرُّ سعادة على ضرورة توظيف أسطورة تمّوز، فيقرّر: “ليست قصّة أدون أو أدونيس مجهولة. وكلّ متأمّل فيها يجد لها مغزىً وعلاقة وثيقة بمجرى الحياة. وهذه ليست القصّة السوريّة الأسطورية الوحيدة. ففي اكتشافات رأس شمرا، قرب اللاذقيّة، ظهرتْ حقائق رائعة عن عظمةِ التخيّلِ السوري والتفكير السوري في الحياة وقضاياها الكبرى”. 

بهذه الإشارة إلى توظيف الأسطورة في الفنّ والأدب فتحَ سعادة باباً جديداً في القول الشعري، لا سيّما تحت خانة ما اصطُلِح على تسميته الشّعر التمُّوزي وما ينطوي عليه من مضامين البعثِ والخصبِ إثرَ اليباب. الاهتمام عند سعادة يكمنُ إذن في صهر شتات التجربة وطبعِها بنظرة مميّزة، وخاصة إلى الوجود. هذه هي النظرة الجديدة إلى الحياة والكون والفنّ عند سعادة: “نظرة جديدة إلى الحياة وفهم جديد للوجود وقضاياه، نجدُ فيهما حقيقة نفسيّتِنا ومطامحِنا ومُثُلنا العليا”. من هنا أعلنَ سعادة في مبادىء حزبه أن الغرضَ أساساً “بعثُ نهضةٍ قوميّةٍ وتحريك عناصر القوّة القوميّة في الأُمّة السوريّة لتحطيم قوّة التقاليد الرثّة”. انتبهَ سعادة إلى أنّ ارتباط الأدبي والسياسي بالنهضوي وثيق، “فحيثُ لا فكرَ ولا شعورَ جديديْن لا توجدُ سياسةٌ جديدة ولا نهضةٌ سياسيّة، وكذلك في الأدب. فحيثُ لا فكرَ ولا شعورَ جديديْن في الحياة لا يمكنُ أن تقومَ نهضةٌ أدبيّة أو فنيّة”، ذلك أنّه للنهضة في عُرف سعادة وكما أعلن في مبادىء حزبه: “مدلول واضح، وهو خروجُنا من التخبّط والبلبة والتفسّخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جليّة صحيحة واضحة نشعرُ أنّها تُعبِّر عن جوهر نفسيّتِنا وشخصيّتِنا القوميّة الاجتماعية”. 

رأى سعادة أنّ الهدفَ إحداثُ نهضةٍ “قوميّة اجتماعيّة تُعيد إلى الأُمّة (السوريّة) حيويّتها وقوّتها”، أي إحداث نهضة عقلانيّة، فارتكزَ سعادة على مقولة الحزب أنّ الأُمّة أساس ماديّ يقوم عليه بناء روحي و”إنّ أساس الارتقاء الإنساني هو أساسٌ روحي – مادي (مدرحي)”، إذ أعلنَ بوضوح وجلاء في رسالته إلى السوريين القوميين الاجتماعيين في الوطن بتاريخ 15/1/1947: “ليس المكابرون بالفلسفة الماديّة بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحيّة بمستغنين عن المادة وفلسفتها”. 

وكان سعادة في جنون الخلود (سلسلة مقالات ظهرت أوّلاً في صحيفة الزوبعة في بونس أيرس بين نهاية 1941 وأواسط 1942) ألحّ على نسخ الخصوصيّة الرجعيّة في الأدب لإيمانه بأن الحربَ بين النهضة القوميّة وأعدائها “لا بُدّ أن تشملَ الأدب”، فأعلنَ أنّ “الشعر المنثور نوعٌ من الكتابة الشعرية”، داعياً إلى وحدة روحيّة “تشملُ كلّ فكرة وكلّ نظرة في حياتنا” ومقرّراً “وجوب تحويل الصراع المُمِيت (بين المادّة والروح) إلى تفاعل متجانس يحيي ويعمّرُ ويرفعُ الثقافة ويسيِّرُ الحياة نحو أرفع مستوى”. 

وكان سعادة رأى أنه “بجمود الشّرع، عن طريق الدين (الموسوي) جمدتْ الفلسفة (المناقبيّة) أيضاً وبَطُلَ مبدأ (الفيلسوف السوري الكبير زينون) القائل بأنّ الفكر أو العقل هو جوهر الحياة الإنسانيّة”، أي ما أعلنَه سعادة في المحاضرات العشر (1948) أنّ العقلَ في الإنسان “هو الشّرعُ الأعلى والشّرعُ الأساسي”، وأنه “لا شيءَ مطلقاً يمكنُ أن يُعطِّلَ هذه القوّة الأساسيّة”. 

على هذا النحو أخضع سعادة حصولَ الحداثة في الأدب السوري لمبدأ العقل شرعاً أعلى وأساسياً ولازماً لحدوثِ نظرة فلسفيّة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ بما يشتمل على الأعمال والأخلاق والمناقب، فلم يفصلْ بين نهضة أدبيّة ونهضة فكريّة، فكلاهما رهنٌ بحدوث نظرة فلسفيّة سوريّة قوميّة اجتماعيّة، ضمنَ رؤيته أن الأدب والفن لا يمكن أن يتغيّرا أو يتجدّدا إلا بنشوء نظرة فلسفيّة جديدة يتناولان قضاياها الكبرى، أي قضايا الحياة والكون والفنّ التي تشتملُ عليها هذه النظرة. 

***

 

*ألقيت هذه الكلمة: “سعادة ناقداً أدبياً”. مساء 16 نيسان في مقرّ مؤسسة سعادة للثقافة في بيروت. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *