رمضان في ربوع الشيخ نهيان

Views: 584

د. جورج طراد

 

 سامح الله أمير الشعراء، أحمد شوقي، لأنه لم يكن منصفًا عندما وضع على لسان كليوبترا كلامًا جاء فيه:

                   “إنّ المُنى لم تقصِّرْ    بلْ قصَّرَ المتمنِّي”

  فأمير الشعراء تحامل على المتمنِّي ولم يرأفْ بحاله ليجد له أسبابا تخفيفيّة تبرِّر حدوث هذا التقصير! فربما يكون ثمّة أسبابٌ موجبة حالت دون أن يتمكّن هذا المسكين من تحقيق أمنياته رغم رغبته الجامحة ونواياه الثابتة والطيِّبة.

  فقبل ثلاث سنوات وقف ” الكوفيد19″حاجزا منيعًا حال دون تمكّن المتمنّي -الذي هو أنا- من المحافظة على تقليد عريق عمره ثلث قرن، كان يحمله، في كلّ سنة، إلى أبوظبي ليعيش أياما رائعة في شهر رمضان المبارك، ملؤها الروحانيات السامية والتطهّر النفسي المريح، في قصر الشيخ نهيان بن مبارك وفي خيمته الرمضانيّة التي تُقام ليليّا في مقهى “ليالي الحلميّة” الملحق بفندق ” رويال ميريديان” العريق.أيام يبقى بُعدها الروحي المُشع عالقًا في البال مهما طال الزمن وبعُدَتْ المسافات.

 من مائدة الإفطار العامرة بالضيوف المميَّزين من كل العالم والجنسيات والثقافات بحيث تشعر للحظات وكأنك في جلسة من جلسات الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة، يتحلّقون حول سيّد القصر ويشاركونه صلاة التراويح التي تترجّع أصداؤها الوَرِعَة في جنبات القصر والحدائق المحيطة به.

 

  إلى الخيمة الرمضانيّة التي يقصدها بعد العاشرة مساء، محبّو الشيخ نهيان وأصدقاؤه، وهم كثر وأوفياء بدليل أن وجوههم تتكرر طوال سنوات وسنوات لأنهم يحافظون على محبّتهم له وتقديرهم لمكانته المميّزة.  وتستمر الجلسة في الخيمة حتى منتصف الليل تقريبا، حيث ينصرف الضيوف على أمل اللقاء على إفطار اليوم التالي.

وصولا إلى الحلقة المميّزة في قصر الشيخ نهيان لتمضية الساعات التي تفصل عن السحور، وهي جلسة خاصّة جدّا يدعو الشيخ إليها عددا  منكبار ضيوف الدولة ومن الأصفياء الخُلَّص، فيتولى سيّد القصر تكريمهم بضيافة عربيّة أصيلة، حيث غالبا ما يقوم شخصيّا بتقديم أطباق السحور لهم على المائدة العامرة.

  طقوسيّة أصيلة ترقى إلى زمن الآباء والأجداد ورثها الشيخ نهيان عن أسلافه، وهو يحافظ عليها وينقلها إلى أبنائه من بعده بحيث تراهم يرافقونه دائما ويحيطون به في خلال احتفاليات أيام الشهر الفضيل…

  …أمّا وأنّ كابوس” الكوفيد 19″ قد انزاح عن الصدور، مخلِّفا الكثير من الأضرار الصحيّة والنفسيّة والإجتماعيّة، فقد استعاد المتمني، الذي ظلمه أمير الشعراء كما قلنا، الأمل في أن يعاود المشاركة في روحانيات رمضان الكريم  في ربوع الشيخ نهيان بن مبارك.

 وبالفعل أعدَدْتُ العدّة هذا العام، وجهّزتُ نفسي وأنجزتُ الأوراق الرسميّة للسفر. غير أنه تبيّن لي، فعليّا وليس نظريّا،أنّ المُنى في وادٍ والمتمنّي في وادٍ آخر، من غير أن يكون للمتمني  أيّ ذنب في ذلك!

  فمع اقتراب الشهر الفضيل، بدأت الغيوم تتجمَّع في الأفق وتتلبّد، داكنة سوداء. ومن دون سابق إنذار انهمرتْ “المصائب” و”الحوادث” و”الكوارث”، وكأنها ضَربتْ لبعضها موعدا  عند المتمني! وبينما كانت النِصال تتكسّر على النصال، جاءت ثالثة الأثافي عشيّة يوم السفر، محْدِثَة إصابة مباشرة، حتى بات لسان حال المتمنّي يردّد مع المتنبي:

          “أَبنْتَ الدهر عنديَ كلُّ بنْتٍ           فكيفَ وصلْتِ أنتِ منَ الزحام؟”

  لكن بنات الدهر، أو المصائب، لا تأتي أبدا فرادى، كما كان يقول شكسبير.

  وبناء على كلّ ما تقدّم، فإن المتمنّي لم يرتكبْ خطأ التقصير، ولكن ” بنات الدهر” دفعْنه دفعًا إلى ذلك.

   ومع هذا، تبقى روحانيّة رمضان، في حمى الشيخ نهيان بن مبارك، أمنية ساكنة في العقل والقلب. والمتمنّي الذي أُرْغِمَ على التقصير القسري هذه السنة، لن يُلقي السلاح ولن يستسلمْ. على العكس، هو سيزداد تصميمًا على استلحاق نفسه في العام المقبل، لأنّ منْ أدْمَنَ الروحانيات الرمضانيّة في ربوع الشيخ نهيان بن مبارك لا يمكن، في أيّ حال من الأحوال، أن يرتضي عنها بديلا!

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *