جلالة الخَوَاءِ alkhawa

Views: 697

حمزة منصور

  الخَوَاءُ

الخَواءُ في اللغة من مصدر  خوى وخوي،خلو الجوف من الطعام.

الخلاء يعني الفراغ.

وضده  المَلاء والإمتلاء.

في الفرنسية Le vide

في الإنكليزية emptiness .

أنواعه: الخواءُ الفيزيولوجي، الخواء الفكري، والخواء الديني، والخواء  الأخلاقي  والخواء المعرفي….

إشكالية البحث: ما  أسباب خواء البشر رغم  إدعائهم  امتلاكَ الفكرِ والروح والعلم والأخلاق والمعرفة؟

 لم تدرك البشرية  أن الأصل  في الناس هو الخلاءُ لأنها  تقوم  خلال مسيرة حياتها المتعاقبة،  بمحاولات ملء وتعبئةأنواع الخواءاتِ.

وأولى الخواءاتُ هي الفيزيولوجية (طعام،شراب،زواج …) . يتجه فلاسفة الإنسان  إلى اعتبار   هذا النوع من الخواء  خواء وظيفي يخدم جوهر الإنسان وما يريده هذا الإنسان، ويجب   ألا نتوقف معه وعنده لأنه عندها يصبح غاية ،خواء يعقبه إمتلاء  يعقبه  خواء،يعقبه إمتلاء…وهكذا دواليك.

 الإشكالية إذًا تقع بمن يقف في البداية عند حدود هذا الخلاء الفيزيولوجي، الذي يصاحب الإنسان منذ يومه الأول ،ويبقى معه للأبد ،بل ويسيطر على شتى مسارات حياته،بل ويغلفها ويطبعها  بطابعه،  ليظهر  الإنسان  عاريًا روحيًا وفكريًا ومعرفيًا وأخلاقيًا ،والسبب طبعًا تشبثه وجموده  ووقوفه عند هذه المرحلة  العمرية النفسية وعدم استطاعته عبورها تمامًا كما يؤكد عالم التحليل النفسي سيجموند  فرويد  في  كتابه *الأنا والهو*.

ما يلاحظ في الكثير الكثير من البشر  أن أغلبيتهم لا يستطيعون  عبور وتجاوز المراحل الأولى لحياتهم،التي تتعاقب حتى سن البلوغ،ويبقون  متجمدين،رافعو التحية،لتلك *المواضيع* غير المشبعة،والتي مُنعت من الإشباع لتستكبت  بطريقة آلية لاواعية ،قابعة  في الخزان اللاوعي،العقل الخفي،لتحركه كما تشاء،تُجمل له ما تشاء،وتقنعه بما تشاء.

ليظهر إنسانٌ، متعلمٌ،عاقلٌ، متدينٌ،  أخلاقيًا لكنه خاويٌ لأن تلك الفضائل لم تصل إلى مرتبة الفضائل وبقيت عوارض دون الجواهر،متعلقة بجذور مرحلتها  الطفلية  قبل* البلوغية*والتي هي بدون شك محور كل المراحل.

1-خواء الروح:

  المبدأ   خواء الروح. فما  خواء الروح إذًا؟

خواء الروح كثيرًا ما يتمثل في ذلك الشعور العميق في الاحتياج الشديد إلى المال والشهرة والنفوذ وتقدير الآخرين والأنس بهم. ومن الطبيعي أن يكون الامتلاء الروحي عبارة عن شعور قوي بالاستغناء الداخلي عن الكثير من هذه الأمور.

لأن الأصل هو الخواء وليس الإمتلاء.

 الامتلاء الروحي  هو ثمرة جهد ومجاهدة وتبصّر تكون بوصلة الإنسان فيه الله رغبة فيه دون “حاجة” أو *طمع* أو *خوف*

 2-خواء الفكر-العقل-المعرفة-العلم:

 إن الأصل في الناس أن يكونوا جهّالاً إلاّ إذا تعلموا، وكما أن ثقافة معظم الناس سطحية، فإن أرواح معظم الناس خاوية؛ لأن *الخواء هو الأصل.  (intellectual emptiness) هو مصطلح يتم إطلاقه على خلو العقل والفكر مما ينفع ويفيد، وليس شرطًا أن يكون الفارغ فكريًا ممتلئًا بما لا يفيد ولكنه خال مما يفيد، مما يجعل صاحبه مؤهلاً للتأثر بأي فكر وأي منهج بغض النظر عن محتواه العلمي ودرجة صحته ولأن إمتلاء العقل والفكر بالعلم والمعرفة يكون رصيدًا قويًاضد الإنحراف وعدمه يضعه  على سكة الإنحراف.

3- الخواء الديني:

التدين مرتبة وحالة إنسانية راقية تختص حتمًا بالإنسان ،فالحيوان لا يعرف أنه سيموت،وليس له *حاجات دينية*التي هي حاجات  روحية في آن. فالدين هو  حاجة روحية ،تطلبها  الروح ولا يطلبها الجسد،لكن للأسف،فإن ما نراه عند أغلبية البشر هو استخدامهم  الدين  وسيلة لتلبية حاجات الجسد،أو لإشباع  أو إطفاء حالة  الخوف من الله أو المجهول،وصولاً للاعتماد على الله لتأمين مكان في الجنة لتلبية حاجات  دنيوية كان لا يستطيع تلبيتها  في الحياة الدنيا  (قصرًا،حور عين،أنهار من عسل….) وما قول الإمام علي عليه السلام : «إنّ قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قومًا عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»  إلا تأكيدًا على خواء الكثير من الناس  التي تعبد الله على حرف؛التي تعبد الله لقاء مقابل، تعبد الله خوفًا منه ، تمامًا في ذلك الصبي الصغير الذي يأتمر بأوامر أبيه  وحسب لأنه يخافه (فرويد ) .

4-الخواء الأخلاقي:

كما قلنا الأصل هو الخواء، ولاحقُا يكون الإمتلاء.والإنسان ابن بيئته،ابن بيته،ابن أبيه،والذي هو ابن بيئته وظروف وقواعد الأخلاق في  تلك  البيئة.الأخلاق اختراع انساني ،”اخترعه الإنسان الضعيف لكبح  جماح القوة والتسلط والعدوان عند من هو أقوى منه”. فإذا ما عاد وقوي عوده فإنه  يمزق كافة “الاتفاقيات الأخلاقية التي أبرمها  لحظة ضعفه” وكل أفعال البشر تشهد على ذلك.

فمثلاً العدوان  مرفوض أخلاقيًا عند الدولة بين مواطن ومواطن  ،لكنه مشروع عندها على شكل حروب مع جيرانها.

يقول فرويد:  ((الأخلاق) (الأنا الأعلى) (وإن كان هناك تمييزًا ما بين الضمير وما بين الأنا الأعلى ) أن الضمير يولد في الإنسان على شكل قالب فارغ دون محتوى،هذا هو الجانب الفكري،ولاحقًا  يملئ  كل إنسان ضميره (القالب الفطري) بما يجده داخل عائلته وبيئته،وهذا هو الجانب الآخر المكتسب. نستنتج  إذًا أن لا معايير عامة أو فطرية  لضمائر وأخلاق الإنسان بل هي ضمائروأخلاق نسبية ذاتية تنبع من ظروف التربية والمصالح.

الخواء هنا يكون بإمتلاء  الضمير  الأخلاق بمحتوى  تطغى عليه أخلاق المصالح والحاجات ، وخلوه من أخلاق فيها الفائدة للناس،  وفيها أيضًا الإساءة للناس،تلك الأخلاق  التي تتأثر بأي فكر أو طرح وتمشي به رغم أخلاقه المعيبة  المسيئة  لمصالح الآخرين ،هذا الخواء ليس لديه مشكلة بتدمير شعبٍ بكامله،فلا يتحسس انه مذنب لأن *وعاء* ضميره مبرمج على هذا  الحكم.

أبعدنا  الله عن كل تلك الخواءات،علنا بذلك نرى خواءاتنا  لنعرف كيفية إملائها،لنعيش حقيقة بشريتنا وليس زيف إدعائها.

من جهة الخواء الأخلاقي ،فهذه الأخيرة تحتل موقعًا متميزًا بترقي الأنسان وتحضره وبلوغه  إنسانيته  لأن  خواءها  حتمًا يؤثر على  كل ما له علاقة بإنسانية الإنسان.الخواء الأخلاقي  متعلق دون شك بالخواء.

***

الصورة الرئيسية:تمثال الخواء (خواء الروح) على ضفاف بحيرة جنيف في سويسرا، من عمل الفنان الروماني ألبرت جورج

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. جميل يا حمزة
    نحن بحاجة الى مثل هذه المقالات علّنا نعبّء قليلاً من خواءاتنا الفكرية
    مع تحفظي على قسم الخواء الأخلاقي الذي اعتبرته منطلقاً لتعبئته بشتى أنواع الأخلاق التي جزمت بأنها نسبية (مع أن هذا يضعف ما أتيت به في حديثك عن الخوف وليس الشكر في قسم الخواء الديني)
    وهنا أعيدنا إلى فلاسفة الأخلاق كمثل ما جاء عند كانط وأفلاطون قبله وسائر العقلانيبن الذين اعتبروا أن ملكة الأخلاق فطرية عند الإنسان وأدلوا ببراهينهم على هذا الموقف.
    مع أنني أميل إلى تبني فكرتك عن نسبية الأخلاق وليس فطريتها..
    جزاك الله خيراً