قراءة في كِتاب “العرب وتحدّيات التحوُّل نحو المعرفة والابتكار”

Views: 475

د. حسن زين الدّين*

ليس بالضرورة أن تكون ماركسيّاً كي تؤمن بأنّ التكنولوجيا هي قوّة دافعة مُحتمَلة للتاريخ. فالتأمُّل والتفكير بالقفزات التقنيّة الكبرى التي تُطبِق على عالَمنا، وتسقط على وعينا، وتتحكَّم بأبسط مَفاصل حياتنا، لا يقطعان الشكّ باليقين فحسب، بل يدفعاننا للوقوف مشدوهين أمام هذا المنعطف الحضاريّ والتاريخيّ الحادّ الذي تَجِدُ البشريّةُ نفسَها أمامه، والذي تصنعه، بلا ريب، مُخرجات التكنولوجيا الفوق عصريّة.

فالجميع مذهولٌ أمام هذا الأُفق الواسع الذي تموْضَعت فيه القُدرات التكنولوجيّة، وأصبحت، بعدما تجاوزت كلّ الحدود، قوّةً دافعة أكيدة للتاريخ وللإنسان المُعاصِر، وبلغَت حدَّ التحكُّم بحاضره وحضارته ومستقبله.

لقد طُويت المسافات، وطُوِّعت الأزمنة، وبتنا أمام تقنيّاتٍ جديدة تُسابق الخيال من حيث الدقّة وسرعة النموّ. وها هي تخرج عن القواعد المعروفة، لتَدخُلَ مجال اللّامتناهي، كما يقول راي كورزويل.

بِتْنا لا نعرف مَن المُتحكّم بالآخر، الإنسان أم الآلة بمُسمّياتها المُختلفة. وأيّ ذكاء هو الأجدى، الطبيعي أم الاصطناعي. وهل ستطوي الإنسانيّات والرقميّات والافتراضيّات المُتسارعة صفحةَ الإنسانيّات المُكرَّسة والراسِخة عبر التاريخ؟ وهل سنجدُ أنفسنا قريباً أمام قواعد أخلاقيّة واجتماعيّة جديدة؟ أسئلة مُقلقه وشيّقة وتحدّيات لم يشهد مثلها التاريخ، سنُواجهها مُطالَبين بإجاباتٍ مسؤولة وواضحة في وقتها المُناسب.

التاريخ المُعاصِر، كما نراه اليوم ونعيشه، يَسيرُ بسرعةٍ خاطفة، لا محطّات انتظار فيه، وليس عنده أرصفة تسكُّع.ما يجري في العاَلم يُنبئ بوجود طريقٍ سريعٍ واحدٍ للّحاق به والمُشارَكة في صناعته، سلوكُه يقتضي مُواجَهة تحدّيات عدّة، أبرزها تلك التي تَفرضها ثورةُ العِلم والتكنولوجيا والابتكار.

تحدّيات التحوُّل نحو المعرفة والابتكار

من هنا يُبادرنا السؤال المشروع أين نحن العرب، الجزء الفاعل، كما يُفترض، في هذا العالَم، من هذه التحدّيات؟ وهل يُشابه حاضرنا ماضينا بأمجاده الفكريّة والمعرفيّة؟ وهل تُخوِّلنا مُشاركاتُنا العِلميّة الحاليّة لأن نكون جزءاً فاعلاً من الثورة الصناعيّة الرّابعة مثلاً لنستطيع حجْزَ مقعدٍ لنا ضمن عصر التقدُّم والحداثة، أم إنّ عوائق ما زالت تحول بيننا وبين هذا الهدف الكبير؟ وبجرأة وخوف نجيب بسؤالٍ مُكمِّل، هل نحن خارج التاريخ؟ أوَ نعيش مخاطر الدفع بأنفسنا خارجه؟ مع ما يستتبع ذلك من خساراتٍ ماديّة ومعنويّة تصيبنا فتُفقدنا الحريّة والثروة والتنمية والرفاهيّة، وقد تدفعنا ويا للأسف نحو الاندثار.

هذه الإشكاليّة التاريخيّة أراها حاضرة في كِتابٍ مرجعي، هامٍّ وشيّق، صَدَرَ مؤخّراً عن مؤسّسة الفكر العربي هو “العرب وتحدّيات التحوُّل نحو المعرفة والابتكار” لمؤلّفَيه د. معين حمزة ود. عمر بزري.

لا بدّ لنا أوّلاً من الإشادةِ والتنويه بالجهود التي تبذلها تلك المؤسّسة الرائدة، العاملة على تعميم الثقافة العلميّة مع إبرازها قواعد عالَم المعرفة، والإضاءة على دور العِلم، وأهميّة الشراكات في تحقيق التنمية المُستدامة. وكذلك تحفيزها الباحثين والمفكّرين للعمل على تشخيص الواقع العلمي وأحوال منظومات البحث والتطوير والابتكار في الدول العربيّة.

أمّا المؤلِّفان، فقد وضعَا بعملهما الدؤوب صنّاعَ القرار والأكاديميّين العرب، على حدٍّ سواء، أمام مسؤوليّاتهم تجاه مَخاطر التخلُّف عن السَّير بركب العِلم. فأَطلقا مؤخّراً مع نخبةٍ من الخُبراء نداءً تحذيريّاً مؤثّراً جدّاً، وهو: ” الابتكار أو الاندثار“، كي لا يضيع حُلٌم طالما تغنّينا به، وهو أن نكون خَير أمّة خَرَجَت للناس.

يَعرض المؤلّفان، بدبلوماسيّة العُلماء ودقّتهم مؤشّرات التراجُع العربي في مَيادين العلوم العصريّة، والتدقيق بموضوعيّة في أسبابه. وهذا فضلاً عن توصيف حال التنمية في البلاد العربيّة، وارتباط ذلك جدليّاً بمنظومة التعليم العالي والبحث العِلمي.

يذكر المؤلِّفان أسبابَ الخَلل في المفاصل السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لمُجتمعاتنا وانعكاس ذلك على مستوى حضورنا العلمي بشكلٍ خاصّ، على خارطة العاَلم الذي نعيشه؛ ليعودا ويؤكِّدا على وجوب اعتماد التخطيط والعِلم ملاذاً أوحداً لخلاص الأمّة واستعادة حيويّتها الحضاريّة، لتعود، كما كانت، سبّاقة في إضاءة شعلة الحضارة الإنسانيّة. فبغير الاعتماد على العِلم لن نصل إلى عصر التنوير الأكاديمي والابتكار والتكنولوجيا، ولن نستطيع أن نشقّ طريقنا نحو البناء الثابت لمُستقبلنا وتنمية مُجتمعاتنا. وهُما إذ يُحلِّلان أسباب الوهن الذي يعيشه العرب في تلك المَيادين، لم يُغفلا عناصرَ القوّة التي تَختزنها الأُمّة، بل حَرصا على إبرزاها لاستشراف الآمال الحقيقيّة المعقودة على ما هو متوفِّر من إمكانيّات قادرة على بناء مُجتمعات المَعرفة ودول مستقرّة ومتقدّمة.

من هنا جاء تركيز الكتاب على كيفيّة بناء القدرات العلميّة والفكريّة للوصول إلى هدفٍ استراتيجي هو التنمية المُستدامة القائمة على التكنولوجيا الحديثة وحُسن استثمارها للتنعُّم بمَخارج تطبيقاتها على الصُّعد كافّة.

إنّه من نافل القول إنّ خُططاً وسياساتٍ كثيرة قد وُضعت للوصول إلى ذلك الهدف، لكنّها لم تُعطِ ما هو مَرجوّ منها. والسبب كما نستنتج من تحليل ما كُتب هو غياب البيئة المُلائمة. فالبناء المعرفي يحتاج إلى بيئة علميّة ووطنيّة مستقرّة اجتماعيّاً وسياسيّاً، بعيدة عن الفساد والأفكار الظلاميّة، والموروثات البالية. تكون نُظم التعليم فيها مُعاصِرة يتشارك في صناعتها أبناءُ تلك المُجتمعات من دون عوائق جندريّة أو عوائق أخرى من أيّ نَوعٍ كانت. بيئة صحيّة مُتكاملة تُوَفَّر لها حَوْكَمَةٌ رشيدة تُحسن إدارة واستثمار عناصر القوّة التي تتمتّع بها الأمّة، من الثروة البشريّة إلى الثروة الماليّة وصولاً إلى المؤسّسات العلميّة الجامعيّة والبحثيّة، وهذا يتطلَّب التالي:

أوّلاً، إيجاد أنماط جديدة من العلاقة ما بين صنّاع القرار السياسي في بلادنا من جهة، والأكاديمّيين العرب داخل أوطانهم وخارجها من جهةٍ أخرى. وذلك بعيداً عمّا هو قائم اليوم من استتباعٍ مَنبوذ أو ريبة مُتبادَلة أو ثقة ناقصة. لأنّ ذلك يُولّد حالةَ تراخٍ وتراجُعٍ في أعداد الباحثين الأكفّاء، واختناقاً في التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، أخطر مَظاهره استسهال التلقّي واستحالة الإبداع. كما هُم بحاجة إلى وضْعِ استراتيجيّاتٍ وطنيّة تُحدِّد الأهدافَ بوضوح، وبحاجة إلى سنّ تشريعات تَمنحهم هامشَ الحريّة المطلوب، وتُعطي مؤسّساتهم الجامعيّة والبحثيّة استقلاليّتها.

ثانياً، إسقاط مُختلف الحواجز أمام التبادُل الأكاديمي والمَعرفي بين البلدان العربيّة، وإيجاد كتلٍ علميّة حَرِجة، تطلّ على مروحةٍ واسعة من الاختصاصات، عبر شراكاتٍ علميّة جديّة بين المؤسّسات البحثيّة العربيّة ببعضها البعض، وبين مثيلاتها في العاَلم أجمع. شيء من ذلك قائم اليوم، لكنّه غير كافٍ أبداً.

ثالثاً، إعطاء الثروة البشريّة المُتصاعدة، وبلداننا العربيّة من أكثر البلدان شباباً، الاهتمام الثابت والمدروس، عبر التشديد على تنمية المهارات وتمكينها والتعلُّم والتربية والثقافة والفنون، والاهتمام بتعليم اللّغات الحيّة والتركيز على اللّغة العربيّة بما يَحفظ شخصيّة الهويّة العربيّة وتُراثها. كما علينا أن نُدرِك أنّ الثروة البشريّة، كما الثروة الماديّة إذا لم يُحسَن توجيهها واستثمارها بشكلها الصحيح، يُمكن أن تتحوَّل إلى نقمةٍ بدلاً من أن ننعمَ بنِعمتها. ولنعترف أنّنا نُعاني اليوم من بعض آفات النقمة. فالبطالة والفقر وسوء توزيع الثروة تولِّد تفتُّتاً خطيراً يصيب مُجتمعاتنا العربيّة ويدفع بها أكثر إلى مَهالك الجهل والتعصُّب والفساد والظلاميّة. ويحول بينها وبين مواكبة التحوّلات العميقة التي يعيشها العاَلم. ما قد يتسبَّب بتبخُّر ثرواتنا وبالتالي نخسر الحاضر والمستقبل في آن.

يستعين المؤلِّفان بدراساتٍ موثّقة وبياناتٍ وجداول صادرة عن مؤسّساتٍ دوليّة مرموقة، تُظهر بوضوح موقعنا بين الأُمم. صحيح أنّ هذه الدراسات والرؤى قد وُضعت بمُجملها خارج بلداننا العربيّة وبالتالي لم تأخذ خصوصيّاتنا بعَيْن الاعتبار فأضحت محدودة الفائدة، لكنّها تظلّ إطاراً ذا مصداقيّة استعان به المؤلِّفان في مراحل عملهما التحليلي والاستشرافي ليُظهرا بوضوح كيف اتّبع الآخرون سُبلَ العِلم للتغلُّب على أزماتهم وفقرهم وجَهلهم ووصلوا إلى تحقيق تنميٍة مُستدامة، تحتاجها أيضاً مُجتمعاتنا وبقوّة.

هواجسهما تحوم دوماً حول كيفيّة تحسين درجات حضورنا العلمي وبالتالي تمكين دولنا العربيّة من النهوض وأن تُصبح طليعيّة في حيازة القدرات واستحواذ المَعارف واستثمارها في توطين وإنتاج تقنيّات تُحقِّق التنمية والرفاه لأبناء هذه المُجتمعات.

لا شكّ في أنّ النُّخب العربيّة تَطرح سؤالاً قاسياً، وهو لماذا تتوسَّع مظاهر الفقر والتخلُّف والجهل داخل جسد الأُمّة الغنيّة بمَواردها وبمساحاتها الجغرافيّة المُترامية وبتاريخٍ عميقٍ مدعاة للفخر، وهل هذا قدر لا مفرّ منه؟

يأتي الجواب، بالقطع لا، ولكنّ السبيل للتخلُّص من تلك الآفات يقتضي تشخيص أسبابها بموضوعيّةٍ وصدق.وهذا ما تناوله المؤلِّفان بإسهابٍ لإبراز أحد أهمّ عوامل التراجُع، والذي يلخَّصدوماً بعجز منظومات التعليم العالي ومراكز الأبحاث والابتكار عن الاستيعاب الكافي للتكنولوجيا المُعاصرة، على الرّغم من المحاولات الحثيثة والنجاحات المحدودة في هذا الإطار، فضلاً عن ضرورة توظيفها لتأميننِسَبٍ معيّنة من الأمن الغذائي والمائي والصحّي والبيئي، وكذلك مُعالجة مشكلات العرب الطارئة، كجائحة كوڤيد ١٩، أو المُزمنة كتلك التي تطال البيئةوالصحّة والاقتصاد وتحلية المياه والتلوُّث البيئي وصولاً إلى الطّاقة النظيفة. إضافةً إلى مُشكلاتٍ اجتماعيّة لها علاقة بتحدّيات التنمية المُستدامة والانتقال من اقتصاد الريع التفاضُلي والاتّكال على الموارد الطبيعيّة بشكلٍ شبه كامل إلى اقتصاد المعرفة وتنوّعه.

بارقة أمل…

لا يخفي الكِتاب بارقةَ الأمل بمُستقبلٍ أفضل، من خلال عرْضه المُحاولات الحثيثة التي تقوم بها الحكومات و المؤسّسات الرسميّة المُختصّة في كثيرٍ من البلدان العربيّة. لكنّنا نستنتج أنّ الطريقَ ما تزال طويلة بين الواقع والمُرتجى.ولا يغيب ما يُمكن أن يكون المؤلِّفان قد أضمراه من خوفٍ عميق على هذا المستقبل، بغياب حَوْكَمةٍ رشيدة، قد نَجِدُ التبريرَ لها بغياب الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي والفكري، مع ما ينتج عنه من نزفٍ بشريّ ومادّيّ كبير يَضَعُ مُجتمعاتنا العربيّة أمام خسارةٍ جسيمة قد لا تُعوَّض.

أسعدني تصفُّح الكِتاب الذي فيه نِتاج قراءات معمَّقة لتجارب الآخرين، وتجارب غنيّة صَنَعَها وواكَبها المؤلِّفان في المواقع الأكاديميّة والبحثيّة الحسّاسة التي تبوّؤآها خلال العقود الماضية. كما وجدتُ في كِتاب مؤسّسة الفكر العربي، التي حَرصتْ على إصداره بمناسبة مرور عشرين عاماً على إنشائها، التوصيفَ والتحليلَ الأكاديميَّيْن استشرافاً لمُستقبلٍ أفضل. فقد وجدتُ فيه المُعطيات الرقميّة الكاملة لكلّ الدول العربيّة، ووجدتُ فيه مروحةً واسعةً من التجارب في مَيادين المعرفة المُختلفة.

في خضمّ الأزمات التي تعصف ببلداننا استطاع المؤلِّفان وضْع أياديهما على نقاط قوّة تمنح الأمل لعالَمِنا العربي، وتسمح بتجاوُز الواقع والسباحة من جديد في بحر المَعرفة.

***

*عميد سابق لكليّة العلوم في الجامعة اللّبنانيّة

*مؤسسة الفكر الهربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *