انهيار التعاوُن الفضائيّ الروسيّ الغربيّ

Views: 430

د.أحمد شعلان*

الجنس البشريّ، الأكثر ذكاءً بين كلّ المخلوقات التي شهدها كوكبنا الأرضيّ منذ تكوّنه قبل حوالى 4600 مليون سنة، ظهر مؤخّراً وبدأت تجلّياته الحضاريّة تترك بصماتها في تاريخه الحديث منذ أقلّ من عشرين ألف سنة فقط. وقد شكّل ذكاء البشر رافعة نحو تطوُّرِ مُجتمعاتهم ورفاهيّة حياتهم، ولكنّه شكَّل أيضاً التهديدَ الأكبر لبيئة الكوكب وتوازنه الإحيائيّ!

فالثورة التكنولوجيّة التي عرفها العالَم في العقود الأخيرة فتحت آفاقَ التعاون والتنافُس والاستخبار المُتبادَل بشكلٍ غير مسبوق، حتّى قيل إنّ كوكب الأرض، في عصر العَولمة الأخير، بات قريةً واحدة! وفي هذه القرية المُترابطة بالتكنولوجيا والطرق المفتوحة والساحات المتشابكة، بات أيُّ خللٍ في المصالح وعلاقات التعاون يهدِّد المنظومة التكنولوجيّة والإيكولوجيّة والعلميّة كلّها!

كَشَفَ تعاوُنُ الدول الأكثر تقدّماً خلال العقود الأخيرة عن تطوُّرٍ كبيرٍ في مجال الأبحاث العلميّة في شتّى الاختصاصات ومُختلف الميادين. فالثورة البيوتكنولوجيّة أوصلت الباحثين في الطب والبيولوجيا إلى مستوى من المعارف يَـعِـد بإطالة عمر الكائن البشري، ربّما الى مئات السنين.

وفي الفضاء الذي باتَ يزدحم بآلاف الأقمار الاصطناعيّة المُترابطة دوليّاً، والتي تتعدّد مهمّاتها من مسْحِ جغرافيا الأرض ومُراقبة أعاصيرها المناخيّة إلى استشرافِ الكوارث وتحديد المَواقع، وتعميم إشارات الراديو والتلفزة في كلّ أصقاع الكوكب، ومُراقَبة الشمس وبراكينها، ورصْد الكَون والأجسام الفلكيّة المُقتربة … هذا الفضاء المُحيط بالأرض لم يكُن ليصل إلى هذا المستوى من التعقيد لولا التعاوُن بين مختلف وكالات الفضاء الدوليّة، بخاصّة بين وكالة “ناسا” NASA الأميركيّة، و”إيسا”ESA الأوروبيّة، و”جاكسا” JAXA اليابانيّة، و”سي.إس.إي” CSA الكنديّة، إضافة إلى الوكالة الفضائيّة الروسيّة “روسكوزموس” ROSCOSMOS . أمّا الصين فبعدما نسّقت سابقاً مع الاتّحاد السوفياتي، أخذت منحىً استقلاليّاً في جهودها الحديثة لارتياد الفضاء..

وفي فضاء الأرض حيث أَنتج التعاونُ الدولي رحلاتٍ فضائيّة استكشافيّة واعِدة أثمرت في بناء المحطّة الفضائيّة الدوليّة “آي.إس.إس” ISS التي يتناوب على الإقامة فيها روّادٌ أميركيّون وأوروبيّون وروس، وباتت تؤهَّـل لاستقبال زوّارٍ مدنيّين وسوّاحٍ مُقتدرين من شتّى الجنسيّات… في هذا الفضاء، تُهدِّد حروبُ هذه القوى العظمى بوقْفِ التعاوُن بينهم وضياع المحطّة ووقفِ مهمّاتها وقتْلِ الأحلام المرسومة لمُستقبلِها.

نيران الحرب الروسيّة الأوكرانيّة تصل إلى الفضاء!

فتداعيات الحرب الروسيّة-الأطلسيّة سرعان ما وصلت آثارُها إلى الفضاء، ومنذ الأيّام الأولى بعد بدء الحرب، في 24 شباط (فبراير)، وربّما قبل ذلك، عمدت روسيا، كضرورة عسكريّة، إلى عمليّة تشويش مكثّفة على أقمار الـ”جي.بي.إس” GPS الأميركيّة فوق أوكرانيا. وقد صرَّحَ الجنرال ديفيد طومسون، نائب رئيس العمليّات الفضائيّة الأميركيّة أنّ روسيا تستهدف نظام نافستار Navistar الأميركي الصنع، والمُتاح للعديد من البلدان حول العالَم. والمعروف أنّ روسيا تمتلك نظام GPS خاصّ بها يسمّى GLONASS ، بينما تستخدم أوروبا نظاماً خاصّاً بها أيضاً يسمّى Galileo ، وتعتمد الصين أيضاً على نظامٍ خاصّ للملاحة عبر الأقمار الصناعيّة.

ضدّ عَسْكَرة الفضاء الخارجيّ

أَخذت الحرب في فضاء الأقمار الاصطناعيّة مؤخّراً، منحىً جديداً بُعيد استهداف الطرّاد الحربي الروسي “موسكفا” Moskva في البحر الأسود، بصواريخ أوكرانيّة وإغراقه، وإعلان القيادة الروسيّة عن دَور أقمار إنترنت “ستارلنك” Starlink – التّابعة لشركة “سبيس إكس” Space X التي يملكها الملياردير “إيلون ماسك” Elon Musk – في توجيه الصواريخ والمسيّرات الأوكرانيّة.

وكانت صحيفة “تايمز أوف لندن” Times of London قد أفادت في وقتٍ سابق، أنّ أقمار أسطول “ستارلنك” الاصطناعيّة تُساعِد وحدة الطائرات المسيّرة من دون طيّار الأوكرانيّة Aerorozvidka في تدمير الأسلحة والآليّات الروسيّة.

وتأتي خسارة “موسكفا” بمثابة ضربة خطيرة للجيش الروسي، لأنّها لم تكُن سفينةً عاديّة، بل كانت سفينة قيادة الأسطول الروسي في البحر الأسود. وكانت مركزاً عائماً للدفاع الجوّي مع ثلاثة مستويات من أسلحة الدفاع الجوّي القويّة، بما في ذلك صواريخ بعيدة المدى من طراز S-300F ، وصواريخ متوسّطة المدى، إضافةً إلى أنظمة أسلحة قصيرة المدى. وقد تركَ غرق هذه السفينة ثغرةً كبيرة في الدفاع الجوي الروسي في البحر الأسود، ما كَشَفَ جميع السفن الروسيّة العاملة هناك.

وإثر هذا التطوُّر الخطير، أَمر ديمتري ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، بتدمير مجموعة ستارلينك الفضائيّة الواقعة فوق أراضي الاتّحاد الروسي ومنطقة العمليّات العسكريّة الخاصّة وحَوض البحر الأسود من أجل ضمان أمن جميع الوحدات العسكريّة الروسيّة المُشارِكة في الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة. وذكر ميدفيديف كذلك أنّ روسيا ليس لديها نيّة لعسْكرة الفضاء الخارجي، لكنّها لن تسمح أيضاً للآخرين بالقيام بذلك، مُشيراً إلى أنّها ستتّخذ إجراءاتٍ ضدّ كلّ مَن يُحاول عسْكرة الفضاء الخارجي.

توقُّف الشراكات الاقتصاديّة عن التعاوُن الدوليّ في مجال الفضاء

وكان للعقوبات الاقتصاديّة المشدّدة التي اتّخذها الغرب ضدّ روسيا، وإعلانه النيّة في تدمير الاقتصاد الروسي، الأثر الكبير في تردّي كلّ العلاقات الروسيّة مع المُعسكر الغربي. وقد ردّت روسيا بعددٍ من المواقف والإجراءات، وهدَّدت بوقف التعاون مع وكالات الفضاء الغربيّة، والانسحاب من برنامج محطّة الفضاء الدوليّة التي تُسهم بتشغيـلها، ولديها اثنان من الروّاد على متنها بصورةٍ دائمة. والمحطّة الفضائيّة الدوليّة تعتمد حاليّاً على أنظمة الدفع الروسيّة للحفاظ على ارتفاعها في المَدار، وهي تنقسم إلى قسمَين أميركي وروسي، وتعتمد على كلا الجانبَين للعمل. فبينما توفِّر وكالةُ ناسا الأميركيّة الكهرباءَ للمحطّة بأكملها، توفِّر الوكالةُ الفضائيّة الروسيّة “روسكوزموس” محرّكات الدفع التي تُحافظ على مَسار المحطّة في المَدار الصحيح.

جدير بالذكر، أنّه في العام 2014، وإثر تقاعُد المكّوكات الفضائيّة الأميركيّة، كانت سويوز الروسيّة هي مركبة النقل الوحيدة إلى محطّة الفضاء الدوليّة، ما أعطى روسيا قدراً كبيراً من النفوذ في مجال النقل الفضائي.

وفي مجال السباق الى الفضاء، فإنّ تاريخ روسيا في رحلات الفضاء البشريّة زاخرٌ بالأوّليّات: أوّل رحلة فضاء بشريّة قام بها الرائد الروسي يوري غاغارين، وأوّل سَيْرٍ في الفضاء قام به أليكسي ليونوف، وأوّل امرأة في الفضاء كانت فالنتينا تيريشكوفا، وأولى المحطّات الفضائيّة كانت المركبة ساليوت السوفياتيّة.

ولا يقتصر التهديد الروسي على وكالة الفضاء الدوليّة، بل هدَّد روغوزين، مدير “روسكوزموس”، بالتوقُّف عن العمل مع الشركاء الأوروبيّين في القاعدة الفضائيّة الأوروبيّة في غويّانا الفرنسيّة، واستدعاء الخبراء الروس المُتمركزين هناك.

واليوم، بعدما أعلنت روسيا وقفَ جميع رحلات سويوز الصاروخيّة في المهمّات الفضائيّة الأوروبيّة، تسعى وكالة الفضاء الأوروبيّة جاهدة للعثور على رحلاتٍ صاروخيّة بديلة لما لا يقلّ عن خمسِ مهمّات فضائيّة مقرَّرة حتّى العام 2023: اثنان من أقمار الملاحة الأوروبيّة Galileo ، والقمر الصناعي لرصد الأرض Earthcare ، والقمر أوكليد Euclid لكشف الطاقة المظلمة، إضافة الى قمر صناعي وطني فرنسي آخر.

وماذا عن مهمّة أوروبا القادمة إلى المرّيخ؟ فقد كان من المُقرَّر إطلاق المسبار الفضائي الأوروبي “إيكزومارس” ExoMars من قاعدة بايكونور الفضائيّة الروسيّة في كازاخستان، خلال شهر أيلول (سبتمبر) المُقبل، على متن الصاروخ الروسي “بروتون”، وإذا لم تغادر المركبة في ذلك الموعد، فسيتعيَّن عليها الانتظار لمدّة عامَين قبل الحصول على فرصة أخرى مؤاتية فلكيّاً للانطلاق نحو الكوكب الأحمر. هذه المهمّة أيضاً باتت غير مطروحة على الطاولة بعدما تبخَّرت خطط الإطلاق في أيلول (سبتمبر) 2022 مع انهيار التعاون الفضائي بين روسيا وأوروبا. ويتمّ الآن تقييم المهمّة لإطلاقها في العام 2024 في حال تأمين الصاروخ البديل، بخاصّة بعد تعثُّر إطلاق المهمّة في العام 2020 بسبب مشكلاتٍ تقنيّة، وربّما يضطرّ الأمر إلى الانتظار حتّى العام 2026.

اليوم، تتّجه الأنظار إلى شركة “سبيس إكس”، لتأمين وسائل نقل بديلة لروّاد الفضاء الأميركيّين وزملائهم الأوروبيّين. كما تبحث الشركة البريطانيّة “وَن وِب” OneWeb عن بديلٍ صاروخي جديد لحمْلِ كوكبة أقمارها الصناعيّة الخاصّة بالإنترنت بعدما أعلنت روسيا عن نيّتها تعليق إطلاق صاروخ سويوز Soyuz لمصلحة هذه الشركة وتعليق شراكتها مع المشروع الأوروبي الصاروخي Arianespace. وبالفعل، تمّ إلغاء مُخطَّط إطلاق صاروخ سويوز الروسي إلى المَدار في 4 آذار(مارس) لحمل 36 قمراً صناعيّاً بريطانيّاً للإنترنت لمصلحة شركة “وَن وِب”، بعد أن طلبت روسيا من الحكومة البريطانيّة، الداعم المالي لـ “وَن وِب”، وقفَ الشراكة معها وتقديم ضماناتٍ بأنّ الأقمار الصناعيّة الإنكليزيّة لن تُستخدم لأغراض عسكريّة. واستجابت الشركة البريطانيّة فسَحبت موظّفيها من قاعدة بايكونور الفضائيّة الروسيّة في كازاخستان، حيث كان من المُقرَّر إطلاق المهمّة. وقد عُلّق برنامج الإطلاق إلى أجلٍ غير مسمّى.

وإذا سارت الأمور على ما يرام، فسوف تُستبدل صواريخ سويوز الروسيّة، بصواريخ SpaceX Falcon 9 لمصلحة شركة “وَن وِب ” البريطانيّة هذه.

تجدر الإشارة إلى أنّ شركة “سبايس إكس” تعمل على تطوير أسطولها من أقمار الاتّصالات في إطار مشروعها Starlink megaconstellation (أسطول ستارلنك الأعظم) لتوفير نطاق عريض من التغطية عالي السرعة حول العالَم، بخاصّة في المناطق النائية أو المحرومة؛ كما تهدف أقمار كوكبة “وَنْ وِبْ” الإنكليزيّة إلى أن تفعل الشيء نفسه، في ما يبدو عمليّة سباق للسيطرة على فضاء الإنترنت المُحيط بالأرض!

واستكمالاً لتداعيات الحرب نفسها، أوقفت وكالة الفضاء الألمانيّة DLR مهمّة إرسال جهاز مخصَّص لاكتشاف الثقوب السوداء، كان من المُقرَّر دمْجه مع قمرٍ صناعي روسي وإطلاقه على متن صاروخ سويوز، وأوقفت التعاون العلمي مع روسيا.

“ناسا”: نحو خياراتٍ أخرى

على مدى عقودٍ من الزمن، تعاونت الولايات المتّحدة وروسيا في الفضاء الخارجي، من مشروع اختبار أبّولو- سويوز في العام 1975، الذي حَدَثَ في منتصف الحرب الباردة، إلى الشراكة المستمرّة في برنامج محطّة الفضاء الدوليّة، عمل البَلَدان معاً في الفضاء وسط الاضْطرابات السياسيّة على الأرض. ففي صيف العام 1975، التصقت مركبة أبولو وكبسولة سويوز معاً في المدار، وكانت أوّل مهمّة دوليّة لروّاد الفضاء في التاريخ واستعراضاً للانفراج بين القوى العظمى. واستمرّ روّادُ الفضاء الأميركيّون والروس في الالتقاء في الفضاء في التسعينيّات من القرن الماضي، وتناوبوا على قضاء الوقت في المكّوكات الفضائيّة الأميركيّة ومحطّة الفضاء الروسيّة مير. وطلبت الولايات المتّحدة في النهاية من روسيا الانضمام إلى جهودها جنباً إلى جنب مع وكالات الفضاء الأوروبيّة واليابانيّة لبناء محطّة فضائيّة جديدة تماماً، وبدأوا معاً في تجميع محطّة الفضاء الدوليّة الحاليّة ISS قطعة قطعة في المدار في العام 1998.

واليوم، وإذا كان لروسيا أن تستقيل فجأة من مشروع المحطّة الفضائيّة الدوليّة، فيُمكن لوكالة ناسا وشركائها الآخرين، بحسب مديرة ناسا الحاليّة، باميلا ملروي، التوصُّل إلى حلٍّ طارئٍ قبل أن تُصبح المحطّة في خطرٍ أو تُصبح خطراً بحدّ ذاتها. وقد بدأت “ناسا” بالفعل تستكشف خيارات دفعٍ أخرى كبديلٍ عن الدور المُناط بالقسم الروسي في المحطّة.

تداعيات وقف التعاوُن في مستقبل الطاقة النوويّة أيضاً

ولا تقتصر تداعيات الحرب الروسيّة الأطلسيّة على مصير المحطّة الفضائيّة الدوليّة والرحلات الفضائيّة الأخرى، بل إنّ هناك موضوعاتٍ لا تقلّ أهميّة تتطلّب استمرار الدول المتقدّمة في التعاون لإنجازها. فروسيا تُشارك في مَصادم الهادرونات الكبير في غرب جنيف في سويسرا Large Hadron Collider الذي يعوِّل عليه العُلماءُ في البحث العلمي المعمَّق عن أصل المادّة، وبالتالي أصل الكون؛ وروسيا تُشارِك أيضاً في المفاعل الدولي الإندماجي الحراري التجريبي ITER الذي يتمّ العمل على بنائه في جنوب فرنسا بجهودٍ دوليّة وإسهامات بعشرات مليارات الدولارات، كأكبر تجربة اندماجٍ نووي في العالَم، تَعِدُ بحلّ أزمة الطّاقة على الأرض عبر تدجين الاندماج الهيدروجيني النووي، كما يحدث في الشمس!

هذا ويُسهم العُلماء الروس في تقدُّم العلوم في ميادين أخرى شتّى، وسوف يكون لعزْلِ روسيا ووقْف التعاوُن العلمي الغربي معها مُضاعفاتٌ خطيرة يدفع ثمنها الجنسُ البشري كلّه.

***

*ممثّل لبنان في الاتّحاد الفلكيّ الدوليّ

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *