السرد العليم

Views: 718

د. قصي الحسين

 أستاذ في الجامعة اللبنانية

 يستند السارد، في العملية السردية عادة،  إلى  استخدام أصوات السرد الثلاثة: ضمير المتكلم( أنا)، وضمير المخاطب( أنت)، وضمير الغائب (هو). فضلا عن تنويعات سردية أخرى: مثل السرد بعين الكاميرا. والسرد عبر بناء المشهد. وربما ذهب السارد، للمزج بين الكثير من هذه الصيغ والأصوات السردية، بحسب ما يريد فنيا وغائيا، من تحميل سرديته، من المعاني والظلال.

 لكن أعذب ما في السردية عادة، إنما هي شعريتها. فبقدر ما يستطيع السارد الغور وراء الكثيف واللطيف، للوصول إلى حد “الشعرية” في سرديته الذاتية، بقدر ما يكون قد ارتقى، إلى مصاف العمل الذهبي، أو ذي الغصن الذهبي، الذي يأخذ مكانه، في سجل الخلود.

الدكتورة إلهام كلاب في كتابها “أغصان وجذور، مراحل من سيرة ذاتية. دار نلسن. بيروت2021. ط1. 128 ص”، يحوز على جائزتين: “الشعرية” الرقيقة، و”السرد العليم”، أو (الكلي العلم- Omniscient narration). فهو من جهة أولى يحافظ على رقة السرد وشفافيته وكثافة المعنى ولطافة المؤدى، وهو من جهة أخرى، يبالغ في الحفاظ على العلم الكلي، كجوهر، يذهب إليه السارد، ليجسم نفسه مباشرة، ذاتا ثانية، دون الحاجة للاتكاء على شخصية أو شخصيات قصصية أو روائية تتموضع داخل النص، وتعبر عن أناه المتفاعلة مع الحياة، أو تلك المنغمسة في أغوارها، تبحث عن عظمة برهتها الغائرة في الأعماق. تقول تحت عنوان” كان ذلك..- ص7″:

 ( ها هو النص الآن، أنشره كنسمة أمل بعدما أغسقت الدنيا وتحولت سعة الآفاق في لبنان إلى سعي مأساوي لطريق نجاة… أنشره وأنا على ثقة بأنه ليس فقط استعادة لذكريات مرهفة موحية، تلقفتها وتنعمت بها عندما هززت شجرة حياتي، بل هي شهادة حياة في مرحلة توهج لبنان وسماحة أبنائه وألق إبداعه، كما هي حصيلة ما تلمسته الآن في قلبي وعقلي من شجاعة وحب ورجاء) .

 

اختارت الأديبة الدكتورة إلهام كلاب، “السرد العليم” كطريقة تعبيرية تقليدية، لأنها الأكثر انتشارا أو توظيفا في تدوين السيرة الذاتية. لكنها استطاعت أن تطلقها، في فضاءات بعيدة، وذلك على أجنحة من الخيال الشعري الساحر والأخاذ، طلبا للديمومة في تلك الفضاءات الواسعة. بحيث تتموضع هناك كراوية. وهو لون من السرد غير “مبأر”، يعرفه الناقد الفرنسي، جيرار جينيت، بالسرد في “درجة الصفر”. لأن “التبئير الصفري”، يعادل ما يعرف  بالنقد المكتوب،  أو السرد العليم، بالإنجليزية. وهو نوع من السرد الذي يلتقي مع صيغة ( جان بوين) الثلاثية:  السرد من الخلف.  كما يلتقي مع صيغة تودوروف: السارد أكبر من الشخصية. أي أن ما يسرده السارد، هو أعظم مما يعرف عند الشخصية. أو أكبر مما تعرفه الشخصية. تقول في “باريس… شغف الحب والنضال- ص 33”:

(في جبيل، أحببت الطبيعة وتحولاتها، وعشقت الزهور وحفظت مواسمها. وسحرتني ألوانها وتفاصيلها حتى التوله، ولا ازال ألمح في ثنايا العشب الأخضر زهورا بسيطة، لا يراها غيري، أتأملها بشغف وأتلقى منها دروس الحياة) .

تبدو لنا الدكتورة، إلهام كلاب في عملها هذا: “أغصان وجذور”، كسارد خارجي تمنح نفسها سلطة المعرفة. معرفة كل شيء، وأي شيء عن دخائل الشخصيات وأفعالها. وهي تنتقل بكل حرية بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات. ولهذا يلامس سردها حدود العلم القداسوي الرباني، حتى ليمكننا أن نؤوله إلى ما يعرف بـ “السرد الرباني”. تقول في “حلو الحياة ومرها- ص٧٧”:

(كانت أمي لا تزال في بيت العائلة، حارسة ذكرياتنا، مستعيدة بأمانة  لطقوس العائلة. كانت لا تزال تدعونا كل يوم أحد، كالعادة، إلى مائدة السمك التقليدية، مع أن الوهن تسلل إلى جسدها النحيل دون أن ينال من ضحكتها الرائعة، وحفر العمر على يديها شرايين زرقاء ناتئة،وتثاقلت مشيتها، دون أن تجعلنا نحس، أن شيئا ما قد تبدل).

 تتحدث الدكتورة إلهام كلاب في آن واحد، عما يجري في أماكن متعددة ومتباعدة. وربما نجد عندها المقدرة، على التنبؤ بأحداث المستقبل. وهي تعمل،  لضمان المزيد من رؤيتها الموضوعية والمحايدة، في سرديتها، للاقتراب، بل لمقاربة ما يعرف بـ “الواقعية  الموضوعية”. وقد سار قبلها في هذا النهج، الكاتب تشارلز ديكنز، في روايته “قصة مدينتين”، إذ يبدأ سرده بالقول: ” كان أفضل الأزمنة. كان أسوأ الأزمنة. كان عصر الحكمة. كان عصر الحماقة”. تقول في “تحدي الحرب ومسؤولية الأمومة- ص67”:

(حاولت أن أجنب أولادنا كل عصبية، وكنت عندما انتقل معهم بين حاجز وآخر، ينتابني ذعر عميق… على من سيحسبون. والشوارع في هيجان، والغرائز في تأجج).

 لا تخلط الكاتبة إلهام البساط بين توظيف ضمير الشخص المبأر المنتمي لرؤيتها، رؤية السارد العليم مع الشخص الثالث، الشائع في السرد الحداثي وما بعد الحداثي، فهي تتموضع دونما وسيط  أو وكيل لها، داخل البنية السردية، بوصفها شخصية مشاركة، وبوصفها شخصية فاعلة معا في آن.  وهو سرد ، غالبا ما نعرفه عند بعض كتاب السير، بالمونولوغ الداخلي. حيث تغوص الساردة الأديبة إلهام الكلاب،لتستنبط من عمق أعماقها. من عالمها الداخلي.ما يمكن أن يشكل إنثيالات الكلام واسترجاعاته لصور الماضي، كجزء تعويضي، عن المفقود في البرهة الراهنة. فيتحول السرد على يديها، من درجة الصفر، إلى التبئيير في عالم الواقع. تقول تحت العنوان نفسه ص71:

(أذكر هذا ليتعظ شبابنا اليوم من حرقة الأيام المسفوحة والوطن على حافة الخطر).

 

تعتمد الدكتورة إلهام التنويع بين الحكي وبين العرض. تدع القصة تحكي نفسها بنفسها. بينما نرها في مكان آخر، تقدم ساردا لها. سارد عالم بكل شيء، وهو الذي ينهض بتقديم الحكاية. تقول في “رفيق.. الأب الطليعي والقدوة- ص103”:

( لا أعرف كيف استطاع أبي “رقيق”،  في ستينيات القرن الماضي- وهو لم يدخل جامعة ولم يعرف سفرا- أن يتوقد حماسة لإرسالي وأنا أقارب العشرين من عمري، كي أكمل دراستي في باريس). ثم تقول متابعة في مكان آخر:

نشأت في جو عائلي كبير…تسعة أولاد يملأون مقاعد ونوافذ وأسر<ة البيت. ست بنات وثلاثة أبناء، يتنافسون بالتساوي في المدارس والجامعات. ويحو<لون البيت إلى قاعة مطالعة فسيحة، كان أبي يغذيها بشراء الكتب والمجلات، كأرغفة الخبز).

 تبرز في نصوص إلهام كلاب،: السرد  ووجهة النظر  والرؤية من الخلف.  وهي بذلك كله تتابع تقديم إشكالياتها، مثل مؤلف مسرحي، الذي يضع بعض الإرشادات المسرحية، لتأطير العمل المسرحي.  ونراها إلى ذلك، تتنقل بين الأمكنة وبين الأزمنة بكل حرية، دون أن يضيع المتابع لحظاتها، ولا أشياءها. فهي تجعله بكل دربة يدخل عقلها، ليكتشف مخبوء أسرارها. تقول في “من نافذة مكتبي- ص106”:

(من نافذة مكتبي التي أفتح مصراعيها كل صباح على قلعة جبيل وآثارها، تنفتح لي صفحات من التاريخ السحيق ومن الحضارات القديمة، صاغتها الشعوب المتتالية على هذة الأرض الرحبة والعريقة.)

 هذة التنويعة من تكتيك تيار الوعي. كأنها تريد أن تقول، أنا الراوي الغائب، قد حررت القاص من الالتزام بالسياق الزماني التقليدي، ومنحته حرية الرؤيا في جميع الأمكنة والأزمنة. تقول في ” حائكة الدانتيل- ص115″:

( نشأت في ظلال تاريخ لا تتسع له الذاكرة/ وفي أروقة بيت مشرع الأبواب، متمرس بالضوء والرحابة./ وأمام بحر يلاطف الشاطئ بأساطير تاريخه).

 الأستاذة الجامعية الدكتورة إلهام كلاب البساط، بلونها الأدبي الشفاف المشبع بالشعرية، تجعل قارئها يتابع تفاصيل سردياتها، كـ”سرد عليم”، متوضع في سرد شديد الخصوصية. تقول في “سيدة البوابة- ص110”:

(هي بوابة تنفتح على الحياة… تشرّع سيدة البوابة قلبها نحو السوق القديم. وتنصت إلى صرير أبوابه الخشبية…  خطوات الناس المتعجلين إلى عملهم ترن على حصى مرصوفة لا تزال تحمل ملوحة أمواج الشاطئ).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *