لِمَ تُناضِل النساء؟

Views: 97

الحبيب استاتي زين الدّين*

يبدو تساؤل العنوان غير متوقَّع وغير مشروع على نحوٍ مُلتبس في آنٍ واحدٍ لاعتباراتٍ عدّة. غير متوقَّع لأنّ صورة المرأة في الموروث العامّ عربيّاً، وبصرف النَّظر عن بعض التحوّلات السوسيو – سياسيّة، لا تزال مرتبطة بصفاتٍ نمطيّة كثيرة، سواء أكانت تعمل في المنزل أم خارجه، تُناضِل وتُقاوِم في المؤسّسات والهيئات الحكوميّة وغير الحكوميّة أو داخل البيت أو في معزلٍ عنهما. ولربّما تُقرِّبنا إحدى الروايات (“البتول” لعثمان صديق)، ولو نسبيّاً، من هذا الإرث المادّيّ أو المتخيَّل في مُدنٍ وقرىً يَعتقد الرجال فيها أنّهم “الأقوم بإطلاق”، على الرّغم من مستواهم العلميّ أو انتماءاتهم الاجتماعيّة أو الإيديولوجيّة.

هربت “البتول” إلى الراوي فراراً من إرث الماضي، ولكنّها كانت تجهل أنّه ابن ذلك الإرث، على الرّغم ممّا “التَهَمَ من كُتب التنوير”. لم يستطع التخلُّص منه وإن كان مؤمناً بأفكار اليسار، ويحلم بأن يتعلّم المجتمع ويُعاد توزيع الثروة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة. ما السبب؟ يجيب قائلاً: “لم أكُن مستعدّاً أن تقودني امرأة. أتذمّر من حماس الرفيقات الزائد، وأسخر إذا أَلقت رفيقة خطاباً أو قصيدة حماسيّة. لستُ استثناء، كان ذلك حال أغلب الرفاق، في الجامعة وداخل النوادي ومقارّ الأحزاب، وحين انقضت سنوات وهلّت البتول، دُست على جسدها بكلّ الماضي الذي يحتلّني، ثمّ تركتها ورَحلت”. تَنقّلَ الراوي من مكان لآخر، بيد أنّه عاش الحاضر من داخل الماضي. تميُّز الزمان عن المكان، في هذا السياق، لا يقتصر على أنّ الزمان له طبيعة تجعله مُخاطباً لعالَم الإنسان الداخلي ومسترعياً لصميم وجوده ووجدانه؛ أي متوغّلاً في العالَم المقابل لعالَم العِلم، بل إنّ الزمان يتميّز عن المكان أيضاً في قلب عالَم الظواهر – عالَم العِلم؛ حتّى أنّ حياة الكائن البشري لا توجد إلّا بمقدار ما تتطوَّر في زمن، فهي ليست شيئاً بل عمليّة، تيّار مستمرّ من الأحداث أو الوظائف.

وإذا غاب الوعي بالزمن وتحوّلات أحداثه في العالَم الواقعي أو الافتراضي، هل سيكون السؤال عن النساء وحراكهنّ ذا مغزى داخل الحسّ العامّ؟ سيكون الجواب بالنفي أكثر حظّاً من ضدّه؛ ولأنّ هذا النفي، خفيّاً كان أو ظاهراً، يوجد في جميع المُجتمعات، وإنْ بنِسبٍ متفاوتة، كانت أسئلة أنطون تشيخوف Anton Tchekhov، في قصّته القصيرة “المُغفَّلة”، مُستفِزّة وصادِمة لعلّ “الغفلة” تتحوّل إلى “يقظة” فرديّة وجماعيّة: “هل يُمكن أن تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجّين؟ لماذا تسكتين؟ هل يُمكن في هذه الدنيا ألّا تكوني حادّة الأنياب؟ هل يُمكن أن تكوني مغفّلة إلى هذه الدرجة؟”.

بعد مرور أكثر من قرنٍ ونصف القرن على هذه الأسئلة التي كانت ولا تزال حاضرة بدرجاتٍ مُختلفة داخل كلّ مجتمع أو فضاء جغرافي، كما هو حال المنطقة العربيّة، يبدو أنّ أموراً كثيرة تغيَّرت، وإن كانت الإجابات حول هذا التغيُّر غير موحّدة ومُكتملة. نسبيّاً، إذا توسَّلنا واقع الحراك النسائي وديناميّته، لن يكون الاطمئنان إلى هذه الغفلة أو الصورة النمطيّة مُنصفاً أو مُقنعاً. عندما نتجاوز الأحكام الجاهزة، نصطدم بوقائع متشعّبة تُسائل هذا الواقع الذي يريد أن يقنع النساء أنّ دورهنّ هو السعي إلى التحقُّق بوصفهنّ زوجات وأمّهات، لأنّه ليس بمقدورهنّ، بتعبير بيتي فريدان Betty Friedan، أن يرغبن بمصير أعظم من الفخر بأنوثتهنّ.

الحركة النسائيّة: تطوُّرات ومُفارَقات

يمتدّ سجلُّ الحركة النسائيّة إلى عقودٍ من الزمن؛ إذ ارتبط مَسارها بمراحل سياسيّة وتاريخيّة مُتباينة. تعود جذور النشأة إلى الثلاثينيّات من القرن العشرين، حيث خاضت المرأة معركة الكفاح ضدّ الاستعمار، والسعي الدؤوب من أجل الاستقلال الذي تحقَّق في بعض الحالات منذ منتصف الخمسينيّات، وفَتَحَ المجال أمام النساء للتعليم والعمل. غير أنّه يمكن اعتبار نهاية الثمانينيّات بدايةً لتعزيز موقع الحركة النسائيّة كحركة مدنيّة مستقلّة، ذات مشروعٍ مُنسجمٍ وطموحٍ غايته التأثير في البنية الأسريّة والاجتماعيّة، وإحداث تحوّلات فيهما بغية تحقيق المساواة بين الجنسَيْن وضمان حقوق النساء وكرامتهنّ، بالانسجام مع ما تنصّ عليه المواثيق الدوليّة لحقوق الإنسان. لكن ما يستحقّ الذكر أنّ هذه الفترة عرفت بالتدريج خفوتاً منذ نهاية العقد الأوّل للألفيّة الثالثة، خصوصاً بعدما اشتدّ فيها الصراع بين الأحزاب السياسيّة الوطنيّة وأنظمة الحُكم حول قضيّة الديمقراطيّة.

أمّا المرحلة الثالثة، فقد برزت إلى حدّ ما في العام 2011 تزامُناً مع مَوجات الاحتجاج في سياق ما سمّي إعلاميّاً بـ”الربيع العربي”. ولئن كانت السياقات العامّة التي نشأت خلالها هاته الأجيال من الحركة النسائيّة قد أثَّرت في منحاها العامّ وجَعَلَتْها متّصلة بالقضايا السياسيّة الظرفيّة، وبخاصة أنّ مُناضلات الحركة نَبَتْنَ وتَرَعْرَعْنَ في أحضان مكوّنات الحركة السياسيّة العامّة. فالقضايا التي طرحتها النساء والرهانات التي ناضلْنَ من أجلها والأشكال التعبيريّة التي تبنَّينها عرفت اختلافاً من جيلٍ لآخر. مغربيّاً مثلاً، تأسست بين سنتَي 1970 و1984 سبعٌ وعشرون جمعيّة نسائيّة، في الوقت الذي لم يكُن هذا الرقم يتجاوز خمس جمعيّات في سبعينيّات القرن الماضي. كان في الرباط وحدها عشرون جمعيّة نسائيّة من أصل ثلاثة وثلاثين جمعيّة، وسبع جمعيّات في الدار البيضاء. وانتظرَ النسيجُ الجمعويّ القريب من الأحزاب السياسيّة حتّى سنة 1985 حتّى خرجت إلى الوجود ثلاث جمعيّات، واحدة لحزب التقدُّم والاشتراكيّة (الجمعيّة الديمقراطيّة لنساء المغرب سنة 1985)، والثانية لمنظّمة العمل الديمقراطي (اتّحاد المغرب النسائي سنة 1987)، والثالثة لحزب الاستقلال (منظّمة المرأة الاستقلاليّة سنة 1988) .توالت هذه التطوّرات، والحاصل تكثيف الجهود، في مرحلةٍ أولى، من أجل التخفيف من العوامل المؤثِّرة في الوضع الاجتماعي للمرأة المغربيّة، والتي يأتي غياب التشريعات والقوانين التي تكفل حقّها في مختلف المجالات في مقدّمتها. لذلك سارعت إلى الاشتغال بالتدرُّج على ملفّاتٍ كبرى، تطلَّبت تضحيات وخَوض معارك متعدّدة: ملفّ مدوّنة الأسرة وتدبير النزاعات المترتِّبة عن العلاقات الزوجيّة (الطلاق، الزواج المبكّر، النفقة)، فضلاً عن إثارة الانتباه إلى المشكلات الاجتماعيّة التي تُعاني منها النساء كالعنف والتحرُّش والاغتصاب وقضيّة الإجهاض، فضلاً عن مُواصلتها الاحتجاج دفاعاً عن ملفّ الحقوق والمَطالِب السياسيّة.

ليس الهدف من هذا التذكير التأريخ لعمل النساء وحركتهنّ، أو تتبُّع تطوُّر حضورها فيها، لكن ما يهمّنا هو استقراء ماهيّة هذا الحضور وأسبابه، فضلاً عن رهاناته وحدوده في سياق “نَيْل الاعتراف” و”إثبات الذات” و”نَزْع الهَيمنة”. من هنا ضرورة استحضار المُقارَبة التي يقترحها كلٌّ من آلان تورين Alain Touraine وميشيل فوكو Michel Foucault. فالأوّل يرى أنّه لا يُمكن الحديث عن تغلْغُل الهَيمنة الرأسماليّة من دون الاستماع إلى الحركة العمّاليّة، ولا الحديث عن السيطرة الذكوريّة من دون التعرُّف إلى أهميّة الحركة النسائيّة. وإذا توسَّلنا لغة الحياة اليوميّة، على حدّ تعبير آلان تورين، قلنا إنّ ما يطلبه كلُّ امرئٍ منّا، ولا سِيَّما أكثرنا قهراً وبؤساً، هو أن يكون مُحترَماً وألّا يتعرَّض للإذلال، بل، وهو طلب أكثر جسارة، أن يكون مسموعاً ثمّ مُطاعاً. وهنا يلتقي مع فوكو في كِتابه “المُراقَبة والمُعاقَبة” الذي يربط هذا النوع من الطلبات بالمُقاومة التي لا يُمكنها إلّا أن تستند إلى وعي الذات بوجود صراعاتٍ أو تنازُعات.

أَفرز هذا التنازُع حركـةً نسائيّة وحركةً نسائيّة مضادّة حول خطاب كيفيّة إدماج أو عدم إدماج المرأة في التنمية. هذا الصراع حول المسألة النسائيّة واختلاف وجهات النساء أنفسهنّ حول مطالبهنّ الحقيقيّة، لا يخصّ الحالة العربيّة فقط، بل يكاد يكون أمراً شبه عامّ تبعاً للظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة داخل كلّ بلد. في هذا الإطار، ترى الفيلسوفة الفرنسيّة “إليزابيت بدينتر” Elisabeth Badinter أنّ الحركة النسائيّة تبحث عن نفسها؛ فهي “قامت بخطوة إلى الأمام وبخطوتَين للوراء. لقد بيَّنت أنّ النضال النسائي تطوَّر كثيراً حتّى خَلَقَ “النوع النسائي الضحيّة”. وهو نوع تسلّطي يكبح، بحسب رأيها، المعركة الحقيقيّة من أجل المساواة، ما يستوجب على الأقلّ “توحيد الخطاب النسائي تحت رايةٍ واحدة” بوصفه تعبيراً أساسيّاً عن “النسائيّة الحقّة”.

تحدّيات الحركة النسائيّة

بصرف النظر عن التقدُّم الذي أحرزته الحركة النسائيّة على مستوى الفكر والمُمارَسة والتأثير السياسي عربيّاً، فإنّها لا زالت تُواجِه إكراهات تحِدّ من قوّتها كحركةٍ اجتماعيّة دافِعة في اتّجاه تأصيل قيَم المساواة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان. تتجلّى هذه الإكراهات، في نظر بعض الباحثين والباحثات، في تحدّياتٍ ذاتيّة وبنيويّة مُتداخلة كثيرة، سنوجزها في ما يلي:

  • مشكلة الخَلَف بحُكم أنّ الفعاليّات النسائيّة تُعيد إنتاج البنى التنظيميّة الحزبيّة نفسها. وهي بنى ذات طبيعة هرميّة، وتدبيرٍ فوقي وأبوي، تفتقد للشفافيّة والعلاقات الديمقراطيّة، وهي ذات سقفٍ زجاجي يُعيد إنتاج علاقاتٍ ذكوريّة/ تراتبيّة بين النساء داخل هذه التنظيمات، بشكلٍ حَدَّ من فُرص ولوج النساء في التنظيمات النسائيّة مناصب القرار فيها. كما أَسهَمت في إعادة إقصائهنّ من الحياة العامّة، وفي تكريس التمييز ضدّهن على أساس الانتماءَين الاجتماعي والثقافي؛
  • انعدام التخصُّص في عمل مكوّناتها، لأنّ التجربة أظهرت أنّ الجمعيّات النسائيّة التي تقود الحركة تشتغل على قضايا المُساواة والقضاء على التمييز على أساس الجنس بشكلٍ عامّ، نظراً لطبيعتها السياسيّة والمَطلبيّة. وهو ما أدّى، على المدى المتوسّط، إلى تشتُّت الجهود النسائيّة واستنزافها في العمل على الموضوعات نفسها، وأنتج نوعاً من المُنافَسة في ما بينها سواء في احتلال مَوقع الريادة في النضال النسائي أم في الحصول على الدعم المالي من الدولة أم من المؤسّسات الأجنبيّة؛
  • انعدام الانفتاح على فعاليّات نسائيّة صاعدة، على الرّغم من أنّ الكثير من بلدان المنطقة العربيّة في حاجة اليوم إلى إسلاميّيها وعلمانيّيها لتعزيز حقوق النساء، ما يستوجبُ من العلمانيّين أن يؤمنوا بأنّ أغلبيّة المُجتمع تَدين بالإسلام، وعلى الإسلاميّين أن يؤمنوا بأنّ الاجتهاد في الأمور الشرعيّة فضيلة، وأن يؤمنوا بمبدأ حقوق الإنسان، وبين هذا وذاك وُجب الإيمان بأنّ حَلّ المعضلات الاجتماعيّة التي لها علاقة بالمرأة رهينٌ بعقْدِ حوارٍ مسؤول مع هذَيْن التيّارَيْن.

تُمثّل هذه المعوّقات كوابح تحول دون خلْق التأثير المفروض أن تبلغه الحركة النسائيّة بالنّظر لامتدادها وتطوّرها التاريخي في صفوف النساء، بخاصّة في الأحياء الحضريّة الهامشيّة والقرى، وهو ما فَتَحَ المجال لبروز حَراكٍ نسائي مستقلّ عن مختلف التنظيمات التقليديّة، وسمحَ بظهور وجوهٍ نسائيّة تتقدَّم الحركات الاحتجاجيّة، وتُدافع بطريقتها عن ضرورة التمتُّع بالعَيش الكريم. صحيح أنّها تستحضر خبرة النساء القياديّات في العمل الجمعوي، بل ومنهنّ مُنتميات ومُتعاطفات مع الجمعيّات المدنيّة، فضلاً عن الاستفادة من التراكُمات الحاصلة في هذا المجال، بيد أنّ المُلاحظ هو أنّ ديناميّة الحركات النسائيّة لم تتفاعل بالشكل الكافي مع ما يشهده المُجتمع من حركاتٍ احتجاجيّة، ولاسِيَّما أنّها أَحجمت في حالاتٍ عدّة عن الدعم والمُساندة الرسميّة، واكتفت بالترقُّب وانتظار مآلاتها أو في أحسن الأحوال، بالمُشاركة الفرديّة، بشكلٍ كرَّسَ الانطباع بأنّ المسألة النسائيّة، على الرّغم من أهميّتها في المجتمع المدني، لا تزال محكومة بالكثير من السياسة والإيديولوجيا.

مُفترق الطرق: المُنجَز والمأمول

لا شكّ أنّ تتبُّع هذه المُفارَقة لا يستقيم في غياب ربْط الماضي بالحاضر عسى أن نُعدّ الجواب عن سؤال: لِمَ قدر الواقع أن يكون المُنجَز لا يستوعبه؟ وهل تسير الإصلاحات في اتّجاه التمكين أم يبقى الضررُ المعروف قائماً: التهرُّب من تحمُّل المسؤوليّة وضعف المُحاسبة؟ الرهان واضح كما قال كارل بوبر Karl Popper يوماً في كِتابه “الحياة بأسرها حلول لمشاكل”: “يجب أن نتحسَّس طريقنا جيّداً قبل أن نخطو”، وأنّ “أسوأ شيء هو أنّنا لا نتعلَّم من الماضي” ( ترجمة بهاء درويش، 1994).

***

*أكاديمي مغربي

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *