الدكتور محمد شيا يستنبط قوانين الصعود والتراجع الحضاريّين

Views: 381

   سلمان زين الدين

   يُجمع المؤرّخون على أن العصر العباسي هو الذهبي في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ويُسندون إجماعهم إلى النهضة التي شهدها، على الأصعدة المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والجمالية. وهي نهضة ما كانت لتتحقق لولا تضافر مجموعة من العوامل، الداخلية والخارجية، لعلّ أبرزها التفاعل بين ثقافات مختلفة ، ازدهار حركة الترجمة والنقل، حاجة الدولة الجديدة المترامية الأطراف إلى الإدارة والسياسة، وجود مناخ من التسامح الديني، الرغبة في الانفتاح على الآخر المختلف، وغيرها. وهذه العوامل أدّت إلى سلسلة من التحوّلات النوعية، في المجتمع العباسي، تتأثر كل حلقة منها بما قبلها وتؤثر فيما بعدها، وفق تسلسل منطقي، يبدأ بالسياسي، ويمرّ بالاقتصادي والاجتماعي ، ويصل إلى الثقافي. 

  ومن نافل القول إن عشرات المؤلّفات، ما لم يكن المئات، تناولت هذه الحقبة التاريخية، على الصعد كافة، ومن زوايا مختلفة،  لكنها، على اختلافها، تُجمع على ذهبيّتها في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. ولعل كتاب “حضارة العصر العباسي / منارة في ليل العصور الوسطى”، الصادر حديثاً عن “منشورات مركز تموز” في بيروت، للدكتور محمد شيّا، أستاذ فلسفة الحضارات والمنهجيات في الجامعة اللبنانية، هو أحد آخر الإصدارات في هذا الموضوع. وهو كتاب يُضاف إليها ويختلف عنها في الوقت نفسه. 

  في معرض تعريفه بالكتاب، يشير المؤلّف إلى أنه ليس مجرد تأريخ وسرد أفقي للوقائع، ويموضعه على الحد الواصل بين علم التاريخ وفلسفته، بما هي “تفسير وقائع التاريخ واستخلاص قوانينه” ( ص 12). لذلك، نراه يبحث في الحضارة العباسية وأشكالها والقوانين الناظمة لها في صعودها وتراجعها، استناداً إلى قراءاته في فلسفة التاريخ والحضارات، ما يجعل الكتاب يجمع بين التاريخ الحضاري الذي يرصد إنجازات الحضارة العربية في حقبتها العباسية، من جهة، وفلسفة الحضارة التي تحاول فهم حركتها في صعودها وتراجعها من منظور سوسيولوجي / ثقافي، من جهة ثانية.

   منظور إيجابي

   يُصدر الدكتور شيّا في كتابه عن منظور إيجابي إلى الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي، يتحرّر فيه من عقد النقص، ويبيّن المساهمة العربية الكبرى في الحضارة العالمية.  وهو لا يسقط هذا المنظور على الحضارة العربية ويروح يبحث له عن أدلة ومؤشّرات بل يستنتجه من قراءة إنجازاتها طيلة ثلاثة قرون، ويعزّزه بمقتبسات كثيرة من مستشرقين منصفين، فيكون منظوره الإيجابي نتاج التفاعل بين الوقائع التاريخية الداخلية والشهادات الخارجية المنصفة.  ويعالج موضوعه، على مدى أحد عشر فصلاً، يحكمها تسلسل منهجي واضح، فيبدأ بوضع الحضارة العباسية في إطارها التاريخي، ويخلص إلى أنها حلقة في سلسلة مترابطة؛ فالصراعات داخل المجتمع الجاهلي وخارجه شكّلت الإطار التاريخي لظهور الإسلام وانتشاره، وهو ما أدى إلى تحوّلات كبرى راحت دوائرها تنداح عصراً فعصراً حتى بلغت ذروة اتساعها في القرن الرابع الهجري. وهي ذروة ناجمة عن التفاعل الجدلي الحضاري بين الغالب والمغلوب، وقد تمخّضت عن إنجازات كبيرة على المستويين المادي والعقلي. وهو ما تتناوله الفصول اللاحقة من الكتاب.

د. محمد شيا

 

  القوانين الأربعة

  ومع هذا، لا يتوقّف المؤلف كثيراً عند ما حدث، على أهميته، بل يتعداه إلى: كيف حدث ولماذا؟ فهو يشغله التفسير أكثر ممّا يشغله التوثيق. لذلك، وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال المزدوج، نراه يستند إلى أربعة قوانين يفسّر بها صعود الحضارة العباسية وتراجعها، يستنبطها من قراءاته الطويلة في فلسفة التاريخ والحضارات، ويرى أنها تصلح لقراءة جميع الحضارات، ولعله في هذه النقطة بالتحديد يكمن الجديد الذي جاء به الكتاب، فلا يكون مجرّد إضافة كمّية إلى الكتب السابقة في الموضوع. وهذه القوانين الأربعة هي: “قانون التحدي والاستجابة، الامتزاج الثقافي مادة كل نهوض حضاري شرط توافر نواة ثقافية داخلية صلبة، قانون العلاقة الطردية والعكسية بين المركز والأطراف أو قانون الدوائر والموجات المتلاشية، وقانون الاستقلال النسبي للإنتاج الثقافي عن شروطه المادية المؤسسة” (ص 51).

  تمظهرات التطبيق

  في تطبيق القانون الأول على الحضارة العباسية، يشير المؤلف إلى أن “التحديات هي صانعة القفزات الحضارية والحضارة بعامة” (ص 43) ويخلص إلى أن التحدي في الحالة العباسية يتمظهر في وجود دولة ناشئة مترامية الأطراف تفتقر إلى التراث الدولتي ما خلا تجربة خجولة في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تتمثل في تعريب الدواوين. وتتمظهر الاستجابة في الاستعانة بالتجارب ذات التراث الدولتي العريق لا سيّما الساسانية منها. وهو ما شكّل “استجابة طبيعية وعملية لدواعٍ وحاجات عملية أفرزتها الحالة العباسية الجديدة، ونشوء احتياجات في الإدارة والتنظيم لم تكن موجودة من قبل” (ص 56). وفي تطبيق القانون الثاني، يتمظهر الامتزاج الثقافي في التفاعل بين الثقافات العربية والفارسية والهندية واليونانية وما نجم عنه من ازدهار في حركة الترجمة والنقل أرخى بظلاله الوارفة على حضارة قيد التشكّل، وتتمظهر النواة الصلبة الداخلية في قوّة الدفع التي وفّرها الإسلام للحضارة المتشكّلة.

   في تطبيق القانون الثالث، إن الصعود الحضاري العباسي بدءاً من منتصف القرن الثاني للهجرة يتزامن مع تمدين الأرياف وامتداد القيم المدينية إليها، ويتزامن التراجع الحضاري في مرحلة لاحقة مع ترييف المدن وتطويقها بأحزمة البؤس، وهو ما يشكّل مصداقاً لهذا القانون. وفي تطبيق القانون الرابع، يشير المؤلف إلى أن الصعود الثقافي الذي هو نتيجة للصعود السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في الأصل، بقي مستمراًّ في الحالة العباسية إلى نهاية القرن الرابع الهجري رغم أن التراجع السياسي كان قد بدأ في أواسط القرن الثالث الهجري. وعليه، تشكّل القوانين الأربعة التي يفسّر الدكتور شيّا في ضوئها حركية الحضارة العباسية إجابة علمية على السؤال المزدوج الذي طرحه وحاول الإجابة عنه.

  تمظهرات الصعود

   إن الصعود الحضاري المحكوم بالقوانين الآنفة الذكر كانت له تمظهراته الكثيرة، على مختلف الأصعدة، ممّا يُدوّن في سجل الإنجازات الحضارية في العصر العباسي؛ فهو يتمظهر، على الصعيد السياسي والإداري، في هرمية السلطة، وإدارة مركزية قوية في العاصمة، وإدارة لامركزية في سائر الأقاليم، واستحداث الكثير من الدواوين في المركز والأطراف، وتنظيم القضاء، وجدلية  الدولة / المدينة. ويتمظهر، على الصعيد الاقتصادي، في نمو القطاعات المختلفة، وتنوّع واردات الخزينة العامة، وازدهار الصناعات المختلفة باختلاف المدن، وازدهار التجارة كماًّ ونوعاً. ويتمظهر الصعود، على الصعيد الاجتماعي، في بروز طبقة فاحشة الثراء من النخب السياسية والعسكرية والمالية تنعم بالبذخ والفخامة والترف، وتقبل على متع الحياة، وتنخرط في الشراب والمجون والتهتك، ما أدى إلى تحلّل أخلاقي وفساد اجتماعي. وفي المقابل، كانت طبقة العامة والدهماء ترزح تحت الفقر والحاجة والغلاء وتسلّط الشرطة، ما جعل منها قنابل موقوتة راحت تنفجر بين حين وآخر على شكل انتفاضات وثورات شعبية. وبين الطبقتين كانت الطبقة الوسطى بشريحتيها العليا والدنيا. ومن الطبيعي، أن تترك مثل هذه التراتبية الطبقية تأثيرها على مسار الدولة ومصيرها.

   أمّا، على الصعيد الثقافي بالمعنى الشامل للكلمة وعلى المستويات المختلفة، فيستمر الصعود حتى نهاية القرن الرابع الهجري، ويتمظهر، على المستوى الثقافي، في: تحوّل اللغة العربية إلى لغة الحياة الجديدة الرسمية والشرعية واليومية العالمية، التأثر بالمكونات الفارسية والهندية واليونانية في مناحي الفكر المختلفة، ازدهار حركة الترجمة والنقل، وبروز أنواع أدبية جديدة. ويتمظهر، على المستوى الديني، في ازدهار الفقه وتعدّد مدارسه استجابة لتحديات واقعية يومية، ازدهار علم الكلام استجابة لتحدي الدفاع عن العقيدة ودحض العقائد المخالفة، وتحوّل التصوف من حالات فردية من الزهد إلى حركة جماعية بفضل توافر شروط ثقافية متقدّمة. ويتمظهر، على المستوى الفلسفي، في وضع أسس فلسفة عربية، بفعل الاطلاع على الفلسفة اليونانية، تنكّب مهمة وضعها أبو يوسف يعقوب الكندي، الفيلسوف العربي الأول بإجماع المؤرخين، وأبو نصر الفارابي، المعلم الثاني بعد أرسطاطاليس، وابن سينا، الشيخ الرئيس، وغيرهم. ويتمظهر الصعود، على المستوى العلمي، في ازدهار مجموعة من العلوم استجابة لتحديات الحياة اليومية، بدءاً من علوم اللغة والتاريخ والجغرافيا، مروراً بعلوم الفلك والطب والرياضيات، وصولاً إلى علوم الهندسة والبصريات والكيمياء.

  وعليه، تكمن أهمية الكتاب في  كونه ثبتاً بإنجازات الحضارة العباسية، على الصعد المختلفة، ما يتقاطع فيه مع الكتب الأخرى التي تناولت الموضوع، من جهة، وفي تفسيره أسباب صعودها وتراجعها في ضوء القوانين الأربعة، ما يشكّل إضافة جديدة لما جاءت به، من جهة ثانية. وحسب المؤلف الدكتور شيّا أنه اجتهد فأصاب، وكان له أجرا المجتهد والمصيب.  

            

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *