عبدالله شحاده… شاعر الكورة الخضراء

Views: 920

 الدكتور جورج شبلي

لم يكنْ محصولُ الطَّوافِ في الأدبِ، يوماً، شحيحاً، فهو يَثِبُ بالعقلِ الى لوحاتِ المعرفةِ حيثُ الخيرُ الأَعظم، وبه لا يعودُ شِراعُ الحياةِ ممزَّقاً، ولا الفكرُ المُتَحَدّي مستسلِماً.

عبدالله شحاده، أديباً، لم يَقَعْ، مرّةً، في أزمة، ولم يرتَضِ أن يعيشَ طريداً، أو مُنَغَّصاً، أو مغصوبَ الرّاحة، لأنّ، في ذاتِهِ، إِرثَ المحبّةِ التي تأبى أن يتطاولَ عليها البكاء. هو المُناضِلُ الشّاعرُ الذي لم تفتقِدْ أمكنتُهُ الإبداعيّةُ الى الدّفء، ولم تُبايِعِ الإنحسارَ وإِنْ موجوعة، ما جعلَ الزّمانَ يغفو فوقَ رسائلَ، له، تنتمي الى رزانةِ العزيمة، والإحساسِ الحَيّ، ولباقةِ الطَلَّةِ، وتوفيقِ الموهبة.

عندما شدَّ عبدالله شحاده الرَّحيلَ الى الكتابة، ممتلِئاً بالهمّةِ التي لم تعرفِ الرّكود، مُتأبِّطاً نضوجاً يتوقُ الى فردوسٍ يحلُمُ به، أثبتَ أنّه من سادةِ الرّيشة. لقد نهضَ الى الشِّعرِ في طرازِهِ الموزون، فصَبَّ فيه القوافيَ من غيرِ مشقَّة، ونبرةَ الحكمةِ جسراً بين الأجيالِ والعُصور، والعواطفَ التي كانت كلِسانِ الشّمعةِ لا يخرجُ إلّا من صِدعِ القلب. فالشِّعرُ، معه، ليس بقايا عصورٍ زالَت، إنّه مَزارٌ، حولَهُ حرّاسٌ فخريّون، والطّريقُ، إليهِ، معبرٌ من العقولِ والعواطف، قيمتُهُ في وفرةِ الوافِدين إليه، يتناشدونَ التّهاليلَ وكأنّهم يستلمونَ الحَجَر. 

كان شِعرُهُ مُطَعَّماً بعروقِ الوطنيّة، وإِنْ ظُلِم، فهو مسافرٌ، أبداً، على بساطِ ريحٍ الى الجزءِ المُشِعِّ من لبنان، يبايعُهُ بحميميّة، لأنه غنّاه باشتياقٍ عاشَ عبدالله سرعةَ نبضِ الإستشعارِ به، فسادَ سلطانُ الوطنِ عليه، لأنه أرادَه ” في هناءٍ مستمِرّ “، وبلا ضوابط. لقد استوفى الشّاعرُ نعمةَ محبةِ بلادِه، فما نَكَثَ بالصّدقِ معها، وكانت، في ديوانِهِ، كالمَرج، كلّما تفتَّحَت زهرةٌ تَضَوَّعَ عَبَقٌ، لتبدوَ الوطنيّةُ بأَروَقِ لباسِها. فعبدالله ناهضٌ الى وطنِهِ، نَذَرَ ذاتَه لإِكبارِ الأرض، وتمجيدِ صيتِها، بمقطوعاتٍ وفيّةِ التّأثيرِ في الثّقةِ بصورةِ الوطن، وإِنْ إفراطاً بالخشوعِ لِشَرَفِ المنزلةِ، وثَبتِ المعجزة. فمن الصَّعبِ أن يُصدّقَ عبدالله شحاده أنّ، هناكَ، موطناً أغلى جَمالاً من لبنان، فجَمالُهُ كالموسيقى لا يُذاقُ إلّا بِطولِ الإِلفةِ، والصّداقةِ الروحيّة، والاندماجِ من دونِ التِواء.

 

في شِعرِ الحبّ، غلبَت على شاعرِ الكورةِ الخضراء، خُضرَةُ الوِقار، لأنه كان، في صياغةِ الغَزَلِ، صافيَ الطَّبعِ والرّوح، ينتصرُ، معهُ، الطّهرُ الذي يتبنّى طغيانَ الوجدانِ، فالوجدانُ النّاضِحُ من أنفاسِ مقطوعاتِهِ، هو كالإيمان بأنّ الصلاةَ المنقوشةَ في تماثيلِ الآلهة، ما هي سوى تَضَرُّعٍ دائمٍ لحفظِ سرمديّتِهم. لقد جالسَ عبدالله، في شِعرِ الحبّ، مصالحةً بين العواطفِ والقِيَم، ولم يَمِلْ عن الاعترافِ بأنّ المشاعرَ لها تَسَلّطٌ على الحياة، لأنها تُضفي على الحياةِ حياةً، وتسمو بآفاقِ الوجدانِ من آصارِ المادةِ الى عوالِمِ الشَّغَفِ بالإرتياحِ والبهجة.

لم يَرعَ الكثيرون حقَّ رعايةِ المجتمع، وقالوا عليه زُوراً فَضَلّوا، بالرّغمِ من الهفواتِ التي قبَّحَت وجهَ المجتمع، والمحرَّماتِ التي تستثيرُ الأسفَ بتمكّنِها من تعميقِ التّغاضبِ في الناس. ولم يكنْ بِدٌّ لعبدالله شحاده، وهو الرّصينُ الذي لم يصرِفْ انخراطَهُ بمجتمعِهِ لترقيعِ حال، من أن يتصدّى للقُبحِ الذي سوَّدَ مُحَيّا هذا المجتمعِ، تَصَدّياً تَبعَ فيه أحكامَ الفضيلةِ والعِلم، ومبادئَ الحقِّ والعَدل. ففي شعرِهِ الإجتماعيّ دعوةٌ الى العدالة، وصرخةٌ على العصبيّاتِ المرصوصةِ التي تستأثرُ بالناسِ ليصبحوا ضحايا، وتوصيفٌ بارعٌ لواقعِ ترسيخِ الدّنيا فريسةً للشّاطر، بحيثُ يحصدُ البسطاءُ خيباتٍ مريرة. لقد رأى عبدالله الشّقاءَ في صميمِ الحياةِ المتردّي، فاندلعَ صراعٌ، في نفسِه، بين طبيعتِهِ الطاهرة، وبين براثنِ الشرِّ المتحكّمِ بالجَماعة، فاستعجلَ حملةً على موبقاتِ المجتمعِ الذي لا يستمتعُ مسؤولوهُ، وبعضُ أهلِهِ إلّا بحفلاتِ التّعادي، وكأنّ الرَّجُلَ، في حملتِهِ تلك، يحرقُ الأعشابَ ليُرغِمَ الشياطينَ على الخروجِ من أجسادِ النّاس. 

مع عبدالله شحاده، يحرِّرُ الشِّعرُ حاجاتِ الوجدانِ من دائرةِ الزمانِ والمكان، فيتطاولُ عليهما ليُبدِعَ كَونَه على راحتِه. وله، أيضاً، رسائلُ وحسابات، فهو يحتوي على الفائدةِ بتفتُّحِهِ على كلِّ ما هو أكيدٌ في حياةِ الناس، وفي وصولِهِ، كذلك، الى أَكملِ المقصوداتِ الإنسانيّة. فالمواقفُ الحِكَميّةُ، في قصائدِ عبدالله، والنّاتجةُ عن التّلاقحِ بين الفلسفةِ والشِّعر، هي نَسَقٌ مؤَصَّلٌ على قواعدِ التّعليلِ والتّحليلِ والتَّقويم، مُؤَيَّدٌ بما للشّاعرِ من سعةِ الإطّلاع، وثقابةِ الذّهنِ والبصيرة، واستلهامِ القريحة، وقوّةِ المَلَكة في التّفكير، وهي خَواصٌ تشكّلُ الفَرقَ بين المُحَلِّقِ والعاثِر. 

 

لم تكنْ خواطرُ عبدالله شحاده الرّومنطيقيّ خواطرَ بدونِ خلجات، فالشّاعرُ طافَ في صحنِ الشّعرِ كاشِفاً النّقابَ عن وجهِه، مُعلِناً أنّ الرومنطيقيّةَ هي كَحَفلِ استسقاءٍ يُلتَمَسُ فيهِ هَلُّ الغَيثِ على أرضٍ عطشى، فبدونِها، لا ينبتُ على الصفحاتِ سوى الشّوك. إنّ انحباسَ الحِليةِ الرومنطيقيةِ عن الشّعر، يجعلُهُ كاسِفَ الوجهِ، ويَخرُّ صريعَ زفراتٍ يلفظُها مع الأَنفاس، فالرومنطيقيّةُ تمنعُ وقوعَ حَيفٍ على الشّعر، وتشدُّ أزرَه فكأنّ ما يربطُ بينهما صِلَةُ دَمّ. 

الجَمالُ، في شِعرِ عبدالله شحاده، مظلوم، لأنه لم يُترَكْ على طبيعتِه، لكنّه لم يكنْ، في القصائدِ، تزييناً مقصوداً لذاتِه، فشِعرُ عبدالله ليس فنّاً للفَنّ، أو شطحاتٍ فانتيزيّةً هدفُها الزخرفةُ الجَوفاء. إنّ الخَيالَ الشّعري، والذي نَفَقَ سِعرُهُ في التآليفِ المستحدثة، هو فَنُّ النَّقشِ، ولمسةُ الخيالِ الرّاقية التي استوفَت أقسامَ الحسنِ في قصائدِ الدواوين، وأخرجَت فيها بَدائعَ الصُّوَر، حتى بدتِ المقطوعاتُ ناطِقة، تتأنّقُ وتزهو، كرقعةِ الشمسِ في خدودِ المِلاح. إنّ عبدالله لم يكنْ من الغرباءِ الطّارئين على الشِّعرِ الزُّلال، فحِسُّ الذَّوقِ، عندَه، هو المُقيمُ الدائمُ في ثناياه، مُثبِتاً ما اتّفقت عليه الفلسفةُ اليونانيةُ والجاحظ من أنّ الشّعرَ هو ضربٌ من التّصوير، أو هو رسمٌ بالكلمات، وأنّ الشّاعرَ صائغٌ يُمسِكُ خيالُهُ بريشةٍ تبتكرُ الصُّوَرَ التي تُنظَرُ بالعَينِ، وتُدرَكُ بالذّات. 

عبدالله شحاده يكتبُ لنفسِهِ، قبلَ أيِّ شيء، لتكونَ نفسُهُ أَملَحَ ما يكتب. ونفسُهُ ليسَت مجرَّدَ شاهدٍ ضئيلٍ في انتظامِ رسالةِ الشِّعرِ، معه، بل هي بعيدةُ الغَورِ فيها، تَشبكُ غيرَها من تَوَقُّدِ الخواطر، ولُطَفِ الأفكار، وإفصاحِ المشاعر، كما يُنَظَّمُ العِقدُ من حبّاتِ الجُمان، فأيُّ تمثيلٍ أَصدقُ من تمثيلِ القصيدةِ بالإنسان، في اتّصالِ بعضِ أعضائِهِ ببعض ؟  

إنّ عالَمَ الرّوايةِ ناتِجٌ عن وثباتِ ذِهنٍ، وليس أسطوريّاً مُتَعَذَّراً بُلوغُه، لذا، لا يَمتنِعُ عنه أن يكون تجريبيّاً، واقعيّاً، وسيرةً من مصنوعِ الحياة، وإِنْ حسِبَ البعضُ أنّ حقيقتَه مُستَهلَكَة. لكنّ عبدالله شحاده، في ” ليالي القاووش”، حدَّدَ لروايتِهِ موضعاً يُقصَد، وأبواباً لا يعترضُها شكّ، ونُعوتاً ما اختلفَ في شرحِ وجوهِها أحد، فحُسنُ التأليف، وجودةُ التَّركيب، وميزاتُ الخطّةِ في وَضعِ الحدثِ في موضعِه، واستعمالُهُ في إِبّانِهِ، كلُّ ذلك جعلَنا أن نُقيمَ لعبدالله، في مزاجِنا، الجَنَّة، متجاوِزينَ اعتبارَه مجرَّدَ حَكّاءٍ مُؤَهَّل. إنّ الواقعيّةَ التي لامسَتْ إحساساتِنا، نقلَتنا من مشهدٍ الى مشهد، وكأنّنا في حالةٍ من النَّوامِ اليَقِظ، لا نفيقُ منها إلّا وقد رسَونا عندَ ضفّةِ التَّمهيدِ لموقفٍ من بَطَلٍ هو ضَيفٌ في ذِهنِنا، أو شاهدُ عِيانٍ على أشياءَ نُسَلِّمُ بحصولِ ظروفِها في الواقع. بالإضافةِ الى أنّ دائرةَ البحثِ السّيكولوجي كانت مُواطِناً أصيلاً في عملِ عبدالله الرّوائي، لأنها استخراجُ الطِّباعِ من ينابيعِ الصَّدر، في مَعانٍ يوقَفُ منها على كلِّ خَفقة.

عبدالله شحاده لم يكن يَداً رخوةً في الشِّعر، وفي المقالات، وفي القَصّ، أو زوائدَ بسيطةً، بل كان عِظامَ صَدرِها، وَهْجاً مُتَّقِداً بكَرجاتِ الإبداع. وهو الخَجولُ على كِبَر، تَظَلَّلَ قلبُهُ بِكُوَمِ القِيَم، لأنه رأى أنّ أيَّ إنسانٍ لا يمكنُ أن يشعرَ بوجودِهِ، أو يحقِّقَ مَراميَه، إلّا إذا كان يخزنُ، في ذاتِهِ، مبادئَ الأخلاق. من هنا، ففي افتراشِهِ بساطَ الفصاحةِ والبلاغة، وفي مُحاكاتِهِ إبداعاتِ الشّعراءِ والمفكّرين، عندما ارتحلَ، فكأنّه غاصَ في سَمعِ الأرضِ، ووجدانِ النّاس، فطوبى لِمَن عرفَهُ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *