جان توما في كتابه:  كما الإعصار [1]

Views: 673

د. هاشم الأيوبي

ما دام في المحبرة مِداد لا يجفّ، وفي القلم شغفٌ لا يُحَدّ، وفي الذاكرة صور وأخيلة لا تنضب، وما دام في كلّ ما تقع عليه العين أو يمرّ بالخاطر أو يرتاح السمع إليه وما يلامس وتر القلب ويرجّ قاع النفس، حوافز لجموح القلم،فلن يتوقف جان توما عن الكتابة. ولا نريد له أن يتوقف إلاّ عندما يساوره هاجس الجفاف الذي حذّرنا منه شعراء روّاد مثل أدونيس وخليل حاوي ونقّاد مثل أنطوان غطاس كرم .

لم يضجر جان من الأشياء الحميمة في ” مينائه ” وفي يوميّاته وأسفاره لأنّ عنده القدرة على أن تبقى نابضة بالحياة. ولكنّه التفت في تحوّل،أدّعي أنني شجّعته عليه، أعني التحوّل نحو اللوحة الفنيّة. هنا يأخذ التعاطي بُعداً آخر، لما بين اللوحة بالريشة واللوحة بالكلمات من تماهٍ يكاد يجعل من القصيدة لوحة تتباهى بألوانها ومن اللوحة قصيدة تتماوج بموسيقاها. وهنا يأخذ التحدّي في التعاطي بعداً آخر أيضاً. فالأشياء الحميمة تثير عند جان مكامن الحنين والذكريات فيسقط عليها مشاعره وإحاطته بها متكئاً على قدرة واثقة في التعبير. أمّا اللوحة، فصحيح أنّها تثير فيه بعض الحنين، إذا كانت تمثّل أسواق المدينة القديمة أو بيوتاً قرويّة أو مقهى بحريّاً، ولكنّ الأهمّ في اللوحة ما توحي هي به من خيالات ودلالات يضطر معها جان، بدل الإسقاطات، إلى الارتقاءات في محاكاة اللوحة وآفاقها.

 

هذه العلاقة بين اللوحة والقصيدة كانت تشغلني لأكثر من عشر سنوات كنت فيها عميداً لكلّيّة الفنون، حيث كنت على تواصل يوميّ مع أصدقائي الفنانين. مرّة  تحدّيتهم : هل يستطيع رسّام منهم أن يرسم في لوحة واحدة شطراً واحداً لامرئ القيس الجاهليّ: مكرّ مفرّ مقبل مدبر معاً، بالحركات الأربع: الكر والفرّ والإقبال والإدبار. طبعاّ لا يستطيعون بأقلّ من أربع لوحات لرسم الحركات الأربع المتناقضة والمجتمعة معاً، ويبقى الشعر الفضاء الأوسع الذي يضمّ كلّ الفنون . 

أمّا لماذا كان عنوان المجموعة: كما الإعصار، فلم تقنعني بمقولة أعاصير الذكريات وجموح العاطفة. فذكرياتك المضمخة بالمشاعر كانت تسري كآهات العشّاق في الأزقة القديمة وعلى شواطئ الميناء، بهدوء وصمت عميقين، وإن كانا يضجّان بالحياة. حتى موج الميناء لم أره عاصفاً بين سطورك.

لأنّي أعرفك انطباعيّاً تجذبك حركة موحية أو صورة آسرة،فتقفز إلى مخيلتك وتسري إلى القلم دون عناء،  فدعني أزعم أنّ التجربة التي عشتها مع أكثر من أربعين لوحة، نقل إليك بعضها صورة الإعصار وفكرة الغلاف. بل دعني أكثر من ذلك أزعم أنّ لوحتي الفنان الكبير الصديق محمد عزيزة: العالم( ص187) وغيوم وهموم ( ص212 ) هما اللتان أوحيتا لك بإعصار الغلاف . يشجعني على هذا الزعم، ما قلته عن فكرة حنظلة عند ناجي العلي، حنظلة بظهره المنحني وبيديه وراء ظهره وبرأسه المكشوف ولحيته المهملة، ما قلته مرّةً،بأنّ صورة حنظلة عند ناجي العلي مأخوذة من صورة أبي عثمان في رواية غسان كنفاني ورقة من الرملة . أبي عثمان الّذي  كان يسير بين صفين من الجنود الصهاينة الذين أطلقوا النار على ابنته فاطمة وأردوها قتيلة أمام عينيه وطلبوا منه أن يذهب إلى البيت ليأتي بغطاء يلفها به. سار أبو عثمان منحني الظهر، مكشوف الرأس، يداً فوق يد. وقد ثبت أني كنت على حق في زعمي هذا.

ما أُحبُّ أن أقوله لك، صديقي العزيز، أنّك أتقنت ما سأسمّيه” فنّ السيرة التوقيعيّة ” أي أنّك برعت في حكاية سيرة شخصٍ أو شارع أو مهنة أو مرحلة من الزمن، بأسطر قليلة، على نسق التوقيعات العربيّة المختصرة والمكثفة، والتي طالما أعجبك منها : ” إمّا اعتدلت وإمّا اعتزلت ” و ” يدك في الكتاب ورِجلك في الركاب ” و” قليل دائم خير من كثير متقطع ” وقارنت بين هذه التوقيعات وتغريدات التويتر Twitter الحديثة .

 

والآن دعني أقول لك إنّي أتوقع  أن أراك تنتقل، وبهذا النجاح، إلى فنّ القصّة القصيرة. سيكون عندك تحدٍّ جديد، وهو الإبقاء على الحيويّة النابضة للنصّ، وعدم الوقوع في النثريّة الرتيبة. وأنا على ثقة أنك قادر على تجاوز هذا التحدّي، خاصّة أن هناك وسائل كثيرة في الإبقاء على المسار النابض للنصّ، ولن تجد صعوبة في تطويع هذه الوسائل وإتقانها. وإذا مدّ الله في أعمارنا ، فقد نتوقع منك الانتقال إلى فنّ الرواية الطويلة.

        أخيراً ، كاشفتك بشيء، لم تعارضني به، ويبدو أنّه فاجأك قليلاً. قلت لك ألا تلاحظ أنّ الكتابات هذه الأيّام، بما فيها كتاباتك وكتاباتي وكتابات معظم الزملاء، تبدو انشداداً وجدانيّاً نحو الماضي تؤرّخه بإحساس مرهف وقلمٍ عاشق، ولا نرى في هذه الكتابات استشرافاً للمستقبل ورؤية للغد الآتي ؟

كانت الرؤية الشعريّة أهمّ ما يميّز الشعراء والأدباء الروّاد. فهل دفعتنا الأيّام العجاف والرؤية المسدودة إلى الانكفاء نحو الأمس الجميل نهرب إليه من يومنا المثقل بالهموم والإحباط ؟ آمل من قلبي أن لا يكون الأمر كذلك، وأدعو بصوت عالٍ للانتصار على كلّ إحباط  وليكن الإبداع والأصالة النهجين اللذين يرسمان تباشير هذا الانتصار.

***

[1]مداخلته في الندوة حول الكتاب- معرض الكتاب ال48- طرابلس- الرابطة الثقافية- الاثنين 13 حزيران 2022.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *