هذا البحث عن معنىً الذي يُميِّزُنا

Views: 157

ترجمة: رفيف رضا صيداوي*

“هذا البحث عن معنى الذي يُميِّزُنا” هو عنوان مقالة الصحافيّ كيليان تروتييه Kilian Trotier، التي نُشرت في شباط/ فبراير الفائت في صحيفة Die Zeit (هامبورغ) الألمانيّة، ونَقلتها دوريّةُ “كورييه أنترناسيونال” إلى الفرنسيّة في عددها رقم 1637 الصادر في 17 – 23 آذار/ مارس 2022. وبدَورها، تنقل “أُفق” بتصرّف أجزاءً من هذه المقالة التي مُهِّد لها بالسؤال التالي: “دَفَعَ وباء كوفيد-19، مع كلّ الاضطرابات التي أَدخلها على يوميّاتنا، بعددٍ لا بأس منّا للتساؤل عن رغباتهم، أولويّاتهم، خياراتهم الحياتيّة؛ لكنْ من أين تأتي هذه الحاجة إلى إعطاء معنىً لوجودنا؟”.

ماذا يُمكن أن يُقرِّب بين ليونيداس، قائد الحرب الإسبرطيّة في القرن الخامس قبل المسيح [المتوفّى في القتال ضدّ الفُرس]، وروزا لوكسمبورغ [1871 – 1919] المُناضلة الاشتراكيّة من أجل الحريّة؟ ما هو المُشترَك بين عالِم اللّاهوت الألماني ديتريش بونهوفر [1906- 1945]، وجه المُقاوَمة ضدّ النازيّة وبين المُدافع عن الحقوق المدنيّة الأميركيّ مالكولم العاشر [1965 – 1925]؟ ما هو الرابط القائم بين ملالا يوسفزاي: المدافِعة الباكستانيّة الشابّة عن حقوق الطفل [المولودة في العام 1977] وفيكتور فرانكل [1997 – 1905]؟ هؤلاء جميعهم حملوا أفكاراً تتخطّى بكثير وجودهم الأرضيّ. جميعهم كرّسوا حياتهم لهدفٍ سامٍ، لمعنىً عميق.

المعنى العميق هو ذا المهمّ بالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص الذين كتبوا أو يكتبون التاريخ بالخطّ العريض. هذا هو المهمّ في عيادة طبيبة نفسانيّة في غرب ألمانيا تُواجِه مريضتها الثلاثينيّة “صوفي”، الخارجة للتوّ من إجازة أمومة، والتي كانت تعمل في دار حضانة وتبحث اليوم عن نشاطٍ مُجْزٍ يوفِّر لها الرضا النفسي. فلصوفي حياةٌ مقبولة، لكنّها لا تكفيها. هي تريد إنجاز المزيد، أن تكون أكثر تأثيراً في العالَم الذي ستكبر فيه ابنتها؛ لكنْ كيف؟ لقد جاءت صوفي إلى العيادة بحثاً عن أجوبة.

الوباء واهتزاز اليقينيّات

بدأت صوفي باستحضار إحدى صديقاتها التي كان الموت قد غيَّبها للتوّ نتيجة سرطان الثدي. بعد تشخيص حالتها؛ لم يكُن أمامها سوى أشهرٍ ستّة لتنتهي حياتها. هذا ما زاد من رغبات صوفي بالتغيير وجعَلَها مُلحّة.

هذه القصّة التي تتناول حالةً فرديّة وشخصيّة للغاية، تقول الكثير عن حالة مُجتمعنا. فها أنّ “كلوديا كريست”، من بين قلّة من الأطبّاء المُختصّين في مسألة البحث عن معنى في ألمانيا، تتلقّى، من دون توقّف، طلبات من المؤسّسات والأفراد على حدّ سواء: وكأنّ الوباء هزَّ اليقينيّات، فأُطلِق سؤالٌ لطالما كان كامناً لدى كثيرٍ من الناس: ما هي المعاني الخاصّة بحياتي وبحياة الآخرين؟

ما هو المعنى؟ إنّنا لا نفقهه تماماً. فطابعه غير المُكتمِل يمنعنا من الإحاطة به تماماً. المعنى هو مهمّةٌ طويلة الأمد. أولئك الذين يعتقدون بإفراط أنّهم وجدوه يصبحون أحياناً مشكلة بالنسبة إلى الآخرين؛ إذ يغدون كمانحي الدروس أصحاب المفاهيم المُحكمة والمُغلَقة للعالَم أو يغدون، في أسوأ الأحوال، أصوليّين.

بحسب دراسات كثيرة أجرتها أستاذة عِلم النَّفس “تاتيانا شنلّ” المُقيمة في النمسا حول علاقة الألمان بالمعنى، والتي تبحث في قضايا مثل تجربة المعنى، وأزمة المعنى، أو المعنى في العمل، بدا لها، من خلال المقابلات واستطلاعات الرأي التي أجرتها، أنّ أكثر من 30% من الألمان لم يكونوا قبل 15 عاماً يعيرون اهتماماً لمعنى الوجود. غير أنّهم اليوم باتوا أكثر فأكثر على بيّنة ممّا يرون أنّه مهمّ في حياتهم، أو أنّهم في صدد البحث عن أجوبة عن هذا السؤال. متى يَعتبر الباحثون عن معنىً أنّ حياتهم غنيّة؟ بناءً على الدراسات الكثيرة التي أجرتها تاتيانا وفريق بحثها على مدى عقدَيْن من الزمن، ميَّزت أربعة متطلّبات لحياةٍ غنيّة بالمعنى. “الناس بحاجة قبل أيّ شيء إلى شعورٍ بالانتماء، إنّهم بحاجة إلى أن يكون لهم مكانهم في هذا العالَم”. وهذا الشعور يُمكن أن يُعطى لهم من العائلة والأصدقاء، وكذلك من التديُّن أو الالتزام السياسي. ثمّ إنّ الحياة تُعتبر غنيّة بالمعنى حين نَتبع مساراً أو رسالة. من ناحيةٍ أخرى، لا بدّ للناس من أن يكون لديهم شعورٌ بأنّ مفهومَهم للعالَم صحيحٌ ومُتماسِك. وأخيراً يجد الناس معنىً لحياتهم حين يُلاحظون أنّ أفعالهم تُلاقي صدىً.

أمّا أستاذ فلسفة علوم الحياة الألماني “إيكارت فولان”، وفيلسوف التطوُّر، فيستند في كلامه على المعنى إلى قُدرات الدماغ. في رأيه أنّ الذكاء الاجتماعي يَمنح الإنسانَ قدرةً تميّزه عن باقي المخلوقات، بما في ذلك كِبار القردة: بمقدور المرء الوصول إلى الحالة العقليّة للآخر – نحكي عن نظريّة العقل اليوم. بحسب هذه النظريّة، فإنّ دماغنا يَسمح لنا بصَوغ فرضيّات حول مُحاوِرنا: هل هو مُتنبّه، متألِّم، مُبتهِج؟ بمقدورنا وضْع أنفسنا مكان الآخر، حتّى ولو لم نكُن مُحصَّنين ضدّ الخطأ.

من الناحية البيولوجيّة، يبدو أنّ هذه القدرة تسمح لنا بالتنبّؤ بأفعال شركائنا داخل تنظيمٍ اجتماعي. إعطاء معنى لسلوك الآخر، يعني إمكانيّة التصرُّف أو التعامُل في الحياة نتيجة هذا الأمر. المعنى بالنسبة إلى “إيكارت فولان” ليس عمّا يبحثه الإنسان في داخله إذاً، بل إنّه ينبع من فهْم الآخر. يتخيّل الباحث إذن الرابط بين المجموعة والفرد كالآتي: الفرد الذي يُراقب الآخرين ويُعيد إنتاج سلوكهم يتصرّف من أجل مصلحته الخاصّة، وهي البقاء على قيد الحياة. عملُ عددٍ من الأفراد مُجتمعين يُمكن أن يولِّد مجموعةً بإمكانها أن تكون فعّالة إذا ما تبنّت ورَعَتْ هويّةً مُشتركة، أسياسيّةً كانت أم دينيّة مثلاً؛ بحيث يجد كلُّ عضوٍ معنىً لهذه المجموعة ويقول في نفسه: “سنُدافع عنها معاً، سنُقاتل من أجلها، سنعيش من أجلها”. حتّى أنّه بالإمكان الموت من أجلها.

لكنّ إيكارت فولان يصطدم بمشكلة أوّليّة: الكيف يتفسَّر لكنْ ليس الـ”لماذا”. في سياق نظريّة التطوّر هذه، ليس هناك من معنىً للبحث الفرديّ عن المعنى؛ إذ يقول إيكارت فولان عن هذا البحث الفردي: “يبدو لي أنّه لزوم ما لا يلزم، وإلّا كيف نفسِّر أنّ غالبيّة الكائنات الحيّة تتدبّر أمورها بشكلٍ جيّد للغاية، وبفعاليّة أيضاً على المستوى البيولوجي، من دون أن تكون واعية بذواتها؟ إنّ الغاية من التطوّر مزدوجة: حفْظ الذات والتكاثُر. لكنْ لبلوغ هذه الغاية، ليس هناك من ضرورة للوعي على الإطلاق”.

إنّها الثغرة التي لا يتوصّل إيكارت فولان إلى سدّها. وُهِب الجنس البشري بشيءٍ قد لا يبدو أنّه ضروريّ من منظور التطوُّر، لكنّه هو الذي يُحدّده بشكلٍ كبير ويُميّزه عن باقي الكائنات؛ فنحن لا يُمكننا التوقُّف عن إعطاء معنىً للأحداث. وبالتالي تستند الأديان إلى قصص الذنوب والفداء، وتستند الأُمم إلى الأساطير المؤسِّسة القائمة على المعارك والثورات؛ حتّى في الحياة الخاصّة، كثرٌ هُم الذين يُفسّرون وجودهم بوصفه سلسلة من الأحداث ذات المغزى.

أمّا الأستاذ وعالِم الإحصاء البريطاني الشهير “ديفيد هاند” فلا يهتمّ البتّة بمسألة المعنى، ويقول: “… حين لا يكون لحدثٍ ما إلّا فرصة من بين مليون فرصة لكي يحدث، فإنّ كثراً هُم الذين يقولون إنّه لن يحدث أبداً. لكنْ من الواضح أنّ هذا الكلام خاطئ. فهو يحدث حتّى في كثيرٍ من الأحيان لما يقرب من ثمانية مليار شخص يسكنون هذا الكوكب”. مثل هذا الموقف لم يمرّ من دون مُناقشة وردود. البعض حاول إقناعه بوجهة نظره المغايرة بالقول:” العناية الإلهيّة موجودة، ومع ذلك ليس من باب المُصادفة أن تكون زوجتي قد نَجت من مرضٍ خطير، في حين لم يكُن الأطبّاء قد أعطوها أيّ بارقة أمل أو فرصة!”. لكنّ هاند يبقى على موقفه الذي لا يتطلّب منه البحث عن معنى. إنّه الإحصائيّ الذي يجدُ معنىً في مساعدة الناس على التحرُّر من ضغط البحث عن معنى والخوف من حياةٍ خالية منه.

لكن ماذا عن الناس الذين يشعرون على الرّغم من ذلك كلّه بالحاجة الملحّة لإيجاد معنى؟

بالعودة إلى صوفي، تلك الباحثة عن معنى، كان تلازُمُ الأحداث، من ولادة ابنتها ومَوت صديقتها وجائحة كورونا، دعوةً لها من القَدَرِ لإعادة التفكير في حياتها؛ في حين قد يبدو الأمر لديفيد هاند وكأنّ هذه الأحداث كلّها تعود إلى المُصادفة.

بعكس ديفيد هاند، فإنّ الباحث والطبيب النفساني الأميركي “آدم كابلان”، حامل لواء الدّفاع عن المعنى أو محامي المعنى، يوجِّه اهتمامه للحياة الداخلية للناس، ويرى أنّ هناك ضرورة في أن يجد هؤلاء معنىً لحياتهم، لما في ذلك من فائدة على الصحّة؛ فالناس الذين يجدون معنىً لحياتهم هُم أقلّ عرضة لمرض الزهايمر، والجنون، والسكتة الدماغيّة، والنوبة القلبيّة، والأبحاث تؤكِّد ذلك. وثمّة دراسة عائدة للعام 2019 تُبيِّن أنّ خطر الموت بسبب الـ” الزهايمر” والسكتة الدماغيّة لدى الأشخاص ما فوق سنّ الخمسين، ممّن لديهم حياة غنيّة بالمعنى، يقلّ مرّتَين ونصف المرّة عنه لدى الذين لم يجدوا معنىً لحياتهم.

لكنّ اللّايقين لا يزال قائماً، على الرّغم من كلّ ما قيل وما بيَّنته الدراسات حول الموضوع. كما تُظهر الدراسات وجود تلازُم بين مسألتَيْ المَرَض والبحث عن معنى، لكنْ من دون أن يكون هناك بالضرورة روابط سببيّة بينهما. آدم كابلان يعي هذا الأمر جيّداً ويعمل عليه مع باحثين آخرين، غير أنّه لم يُصبح أقلّ اقتناعاً بأنّ المعنى يُمكنه إنقاذ حيوات. المعنى بنظره هو الدواء الذي لا يُغتفَر الاستخفاف به أو التقليل من أهميّته.

“الإيمان يُحرِّك الجبال”. هذا ما نقرأه في الإنجيل. وبالنسبة إلى آدم كابلان، فإنّ المعنى يُمارِس الوظيفةَ نفسها؛ وهو يستند إلى مثال يتعلّق بطبيب الأعصاب والطبيب النفساني “فيكتور فرانكل” المولود في فيينّا عام 1905، الذي أسَّس المدرسة الثالثة في التحليل النفسي [كون المدرسة الأولى هي مدرسة فرويد، والثانية هي لأدلر]؛ إذ رأى سيغموند فرويد أنّ البحث عن اللّذة هو مُحرِّك الإنسان، ورأى ألفرد أدلر أنّ هذا المُحرِّك يكمن في البحث عن السلطة والسعي إليها، في حين جَعَلَ فيكتور فرانكل جوهر الإنسان قائماً في البحث عن المعنى.

***

*مؤسسة الفكر العربي

*نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *