كارلوس الثعلب… إرهابي أم مُناضل ثائر؟

Views: 105

المحامي معوض رياض الحجل

 

شهدَ مُنتصف القرن العشرين صعود نجم العديد من الشخصيات المُسماة ثورية مثل كاسترو، غيفارا، مالكوم أكس، المهاتما غاندي، مارتن لوثر كينغ، وجون لينون … كل هذه الشخصيات عملت لتحقيق أهدافها أما من خلال خطاباتها أو حتى سكوتها وأضرابها…

مع قرب نهاية ستينيّات القرن الماضي أصبح مفهوم الثورة والنضال مرتبطًا بالعنف والقتل أكثر من النضال السلمي. كارلوس موضوع مقالتنا يُعتبر الرائد في تكريس مفهوم العنف الثوري، أي تبرير العنف من أجل نجاح الثورة ومبادئها.

تعددت التحليلات والدراسات والندوات والابحاث حول شخصيتهِ ودورهِ في نشر العنف الثوري، البعض يعتبرهُ (بالرغم من كل العنف والخطف والتفجيرات التي قام بها أو أشرف على تنفيذها) ثائر شريف ومُناضل، آمن حتى النهاية بقضية أيديولوجية ودافع من أجلها بفائض من العنف في معظم الاحيان، والبعض الآخر أتهمهُ بأنهُ إرهابي دولي مرتزق، دخل عالم الاجرام الدولي من أجل المال والشهرة والنساء.

أسمهُ الحقيقي “إيليتش راميريز سانشيز”، أسمهُ الحركي “كارلوس”، لقّبتهُ أجهزة الاستخبارات الاجنبية بــ “كارلوس الثعلب”. ولد في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، في تشرين أول من عام 1949. 

في عام 1966، أنتقل للإقامة في بريطانيا مع والدتهِ بعد أنفصالها عن والدهِ، ثم سافر بعد ذلك ليتابع دراسته الجامعية في الاتحاد السوفياتي، وتخصص في مجال الفيزياء والكيمياء. لكن ما لبثت أدارة الجامعة أن قامت بطردهِ من صفوفها بسبب عدم جديتهِ ومثابرتهِ خلال العام الدراسي. 

انيس النقّاش

 

بلورة أفكارهِ الثورية

سمحت لهُ أقامتهُ في موسكو، بقطف فرصة نادرة للتعرف على عدد كبير من الطلاب الفلسطينيين، الذين ساهموا في بلورة أفكارهِ الثورية من خلال تسليطهم الضوء على أحقية القضية الفلسطينية وضرورة النضال بشتى الوسائل من أجلها، فألهب حماستهُ للمُشاركة فيها، وآمن منذ اللحظة الأولى بالقضية المركزية الفلسطينية ومبادئها المُحقة، فأنضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد لقائهِ بمحمد بودية الثائر الجزائري وعضو الجبهة، والذي نشأت بينهُ وبين كارلوس صداقة متينة أستمرت حتى أغتيال بودية. ومن خلالهِ تعرف إلى ” الحكيم” جورج حبش قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي التقاه في موسكو أيضاً، وعرض عليه المجيء إلى العاصمة الأردنية عمان، والانضمام إلى المُعسكرات التدريبية التي تُشرف عليها الجبهة هناك.

التدرّب عسكريًا و”أيلول الأسود”

بالفعل، وصل كارلوس إلى عمّان وتلقى التدريب العسكري المُكثف تحت أشراف وأدارة كل من “الحكيم” جورج حبش ووديع حداد(أبو هاني)، وقد كان تلميذاً مُجتهدا ًأستفاد من خلفيته التدريبية القتالية التي تلقاها في وقت سابق أثناء اقامتهِ في كل من فنزويلا وكوبا. وفي أيلول عام 1970 أندلعت مواجهات دامية بين الفصائل الفلسطينية المُسلحة والجيش الأردني.هنا ولدت فرصة كارلوس الذهبية لتفجير مواهبهِ القتالية حيث سطعَ نجمهُ كمُقاتل جريء لأول مرة، خلال مشاركتهِ بالمعارك، التي سميت لاحقاً بـ “أيلول الأسود”، فقد برز ذكاءه الحاد وقدرتهِ على التخطيط والتنفيذ، بالاضافة إلى قدرتهِ على التخفي وتغيير ملامحه الخارجية، وفي تلك الفترة حملَ اسمهُ الحركي “كارلوس”.

جورج حبش

 

محاولة اغتيال “جوزيف سييف”

بعد أنتهاء المواجهات الدموية وتراجع الفصائل الفلسطينية، قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بإرسال كارلوس إلى أوروبا، بهدف البحث عن أهداف مُحتملة. فجند كل قدراتهِ التنظيمية والتخطيطية من أجل تحقيق أهدافهِ، في مُحاربة الصهيونية والامبريالية العالمية. 

في عام 1973 أعُطي كارلوس الضوء الأخضر للقيام بأول عملية فعلية لهُ، وهي أغتيال “جوزيف سييف”، رجل الأعمال اليهودي الذي يملكُ شقيقهُ سلسلة محلات “مارك أند سبنسر” الشهيرة.

ففي30 كانون الاول من العام 1973، توجّه كارلوس إلى إحدى ضواحي لندن حيث يقيم “سييف”. فتح لهُ الخادم باب المنزل وتحت تهديد السلاح، أمرهُ بالتوجه فوراً نحو الغرفة التي يتواجد فيها مُعلمهُ أي “جوزيف سييف”، وعند وصولهِ عاجلهُ برصاصة في وجههِ، ولكن سلاحهُ خذلهُ، فقد تعطل فجأة عند محاولة أطلاقه النار للمرة الثانية، فما لبث أن هرب قبل أن يتم القاء القبض عليه، ونجا “جوزيف سييف” بأعجوبة من عملية الاغتيال.

جوزيف سييف

 

اختطاف وزراء أوبك

 شكلت هذه العملية الشرارة التي أطلقت أسطورة ” كارلوس الثعلب” دولياً. ولكن أجرأ عملياتهِ على الإطلاق، كانت عملية أختطافهِ لوزراء مُنظمة أوبك. ففي 21كانون الاول من عام 1975، أقتحم كارلوس برفقة “أنيس النقاش” وعدد من المُقاتلين المُحترفين المُدججين بالسلاح الحربي والعتاد، أجتماع وزراء مُنظمة أوبك، المُنعقد في العاصمة النمسوية فيينا، وقاموا بقتل الحراس الشخصيين. ثم قرأ عليهم كارلوس بيان درع الثورة، الذي مجَّد فيه القضية الفلسطينية وأحقيتها، وقد طلبَ من التلفزيون الرسمي النمسوي تلاوة هذا البيان كل ساعتين على مدى 24 ساعة دون توقف.

ثم أصطحبت المجموعة بقيادة كارلوس الوزراء كرهائن مع عدد من الموجودين في القاعة إلى المطار، حيث طلبوا تزويدهم بطائرة ركاب مُقابل أطلاق بعض الرهائن. ومن النمسا توجّه كارلوس بصحبة أنيس النقاش ورفاقهِ والرهائن نحو الجزائر. وبعد مُفاوضات شاقة تم الاتفاق على إطلاق الرهائن مُقابل مبلغ 50,000,000$ (خمسين مليون دولار أميركي).

تفجير في فرنسا منسوب إلى كارلوس

 

طرده من الجبهة الشعبيّة

ودخل كارلوس بعد هذه العملية التاريخ فعلياً من بابهِ العريض. إلا أنَّ قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تكن راضية بتاتاً عن نتيجة العملية، فقد كانت الخطة المرسومة تقضي بقتل كل من وزيري النفط السعودي والإيراني، وبسبب ذلك تم طرد كارلوس نهائياً من صفوف الجبهة. عندها، وبدل أنكفائهِ، بدأ “كارلوس الثعلب” العام 1978 بتأسيس مجموعتهِ الخاصة، وعمل لحساب بعض الحكومات التي ترغب بتصفية معارضيها، في مختلف دول العالم.

في عام 1982، تم القبض على رجل وأمرأة من مجموعتهِ، كانا يحملان السلاح ويتوجهان لتنفيذ عملية تفجير في باريس. المرأة تدعى “ماجدلينا كوب” حبيبة كارلوس، وزوجتهِ في ما بعد وأم أبنتهِ الوحيدة. على خلفية هذا الاعتقال، بدأ كارلوس بتنفيذ عمليات أنتقامية عديدة، من أجل مُمارسة الضغط على الحكومة الفرنسية للإفراج عن حبيبتهِ ماجدلينا ورفيقها. فقام بنشر الرعب والخوف والدمار من خلال تفجير العديد من المُنشآت الفرنسية، دور النشر، القطارات، والسفارات الفرنسية في لاهاي والعاصمة اللبنانية بيروت، وقام أيضاً بتنفيذ هجوم مسلح على طائرة تملكها شركة العال الاسرائيلية في فرنسا وغيرها من العمليات. إلا أن ماجدلينا ورفيقها بقيا خلف قضبان السجن الفرنسي حتى نهاية مدة حكمهما، ولم تساهم هذه العمليات في الافراج عنهما.

كارلوس اثناء محاكمته

 

بداية النهاية

قامت مُختلف أجهزة الاستخبارات لسنين عديدة بملاحقتهِ من بلد الى بلد ومن مطار الى مطار، ومحاولة القاء القبض عليه أو تصفيته جسدياً. بعد الإفراج عنها، أقامت ماجدلينا مع كارلوس في دمشق، وتزوجا وبدآ بتأسيس عائلة. أستمر زواج كارلوس من ماجدلينا، إلى أن التقى بسيدة أردنية تدعى لانا، فتزوجها وأنتقلا للاقامة في الخرطوم، العاصمة الافريقية الوحيدة التي رحبت بهِ في تلك الفترة. ولكن هذا الانتقال كان بداية النهاية لأسطورة “كارلوس الثعلب” وأعتقالهِ من قبل السلطات الفرنسية.

ففي 14 آب من العام 1994، خضعت الخرطوم أخيراً بعد الترهيب والترغيب لضغوطات الحكومة الفرنسية، من أجل تسليمها كارلوس، مُقابل 50 مليون دولار أميركي. وقامت الاستخبارات الفرنسية، وبمساعدة الاستخبارات الجزائرية، بإختطافهِ من داخل منزلهِ ونقلهِ إلى السجون الفرنسية لتبدأ مُحاكمته. (https://cashcofinancial.com)  

حُكم عليه عام 1997 بالسجن المؤبد، بتهمة قتل ضابطي شرطة فرنسيين أثناء محاولة لاعتقالهِ في عام 1975. وتمت مُحاكمته مُجدداً في العام 2011، ثم العام 2014، لادانتهِ في التفجيرات الارهابية التي قام بها في ثمانينيّات القرن الماضي، وحُكم بالمؤبد للمرة الثانية والثالثة دون إمكانية إطلاق السراح المشروط تحت أي حجة أو ظرف أو تبرير.

كارلوس برفقة زوجته وطفلتهما

 

“الإسلام الثوري”

أصدر كارلوس من خلف قضبان السجن كتاب أسماه “الإسلام الثوري” برر في صفحاتهِ وجهة نظره بإستخدام العنف في ظروف معينة.

 كارلوس لغاية تاريخه موجود في سجنهِ الفرنسي، وقد تجاوز عمرهُ السبعين عاماً. ولكن بالرغم من مرور العديد من السنين على أعتقالهِ وسجنهِ ما زال محل جدلٍ كبير، هناك من يتهمهُ بأنه إرهابي مهووس بالشهرة والمال والنساء الجميلات، بينما يعتبرهُ البعض رومانسي ثائر مُناضل ضد الامبريالية العالمية وحلفائها، أما هو فيصفُ نفسهُ بأنه ثوري مُحترف ومُناضل في خدمة تحرير فلسطين. وقد صدرت العديد من الكتب وتم أنتاج العديد من الافلام الوثائقية التي تتحدث عن مسيرة شخص أسطوري بعدة شخصيات ووجوه، نَشرَ لعقود الرعب والخوف في نفوس كل الحكومات الاجنبية التي جندت كل طاقتها لاعتقاله أو قتله.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *