الروائي والدراما

Views: 385

د. قصي الحسين

أستاذ في الجامعة اللبنانية

من عذوبة الحديث عن الدكتور يحي حمود،  الإفاضة، في أنواع الكتابات والمؤلفات التي وضعها، طيلة سنوات وسنوات. وأما الأكثر عذوبة، ففي الوقوف على بداياته المبكرة كأديب، في سني اليفاعة والشباب. وفي عدد الكتب التي ألفها. وفي الأنواع الأدبية والحقوقية التي سلكها: كاتبا وأكاديميا و وأستاذا جامعيا.

لا بد إذا من الإشارة إلى السن المبكرة، التي تكشفت فيها موهبته. وإلى المسلسلات الإذاعية و التلفزيونية  التي كلف بها، وأغرقته.  ناهيك عن الكتابات الإجتماعية والكوميدية والدرامية. وكذلك عن الموضوعات الإنسانية، التي تناولتها كتاباته وأعماله ورواياته ومسلسلاته. تلك التي تناولها في المقالات والقصص. فحققت نجاحاتها عند جيل الشباب. ربما لأنه كان كاتبا، قبل أن تكون لديه تجربة السيناريست. فجاءت معبرة عن بصورة أدق وأعذب عن  الشباب  ولغتهم وحياتهم. ومنحته بالتالي الخبرة في الجملة المنسابة والجميلة والراقية. إن في الحوار، أو في التأليف الروائي والسردي. بحيث مكنه ذلك من تقمص شخصياته، لشدة معرفته بلغتها وبطريقة كلامها وحرارة إنفعالاتها. نستمع إليه يقول على لسان أحد شخوصه- في رواية “رزق” ص16:

(- بل أكثر… هما طريق الخلاص والإرتقاء إلى عالم الجمال والطمأنينة الذي ترينه في عيني طفل نائم في الأشهر الأولى من العمر. أحلامه لا تتعدى كوبا صغيرا من الحليب الدافئ… نحن لا نطلب الكثير يا يسرى. فقط أن يجتمع قلبانا في هدأة ليل أرخى عليه القمر ضوءه الناعم. بعيدا عن صخب الحياة وعقول أبنائها الموصوفة زورا أنه عقول.)

  نحن نعتقد، إن الدكتور يحي حمود في كتابه: “رزق. ناشرون- Books- Publisher ، بيروت2019: 345 ص. تقريبا”، إنما أفاد كثيرا من عمل كتاب السيناريو، لأنهم يهتمون بالحوار، بمقدار ما نراهم يهتمون بالأحداث. فبانت، بل إنعكست، في عمله الروائي، خصوصا في “رزق”، قوة الحوار، وكثافة الأحداث، في إنسيابية الروائي المتمكن. حتى لكأن عمله، يبدوا أكثر من مشاهد مسرحية، لو أتيح له تقسيمها، لظهرت له مسرحية من حوار  وديكور.  وافية الأغراض، ووفية المعتقدات، وأمينة لصاحبها، في قول ما يريد قوله، عند إحتدام الوجدان. نسمعه يقول ص77:

(بمقدار ما كان المكان يزداد ضيقا على رزقالله، بمقدار ما كان يزداد الطلب عليه لإحياء السهرات. حيث بدا تنوع العزف في الأفراح والليالي الملاح. فمن “رقصة ستي” إلى معزوفة “توتة” و”ليالي لبنان” و”شيش كباب”، ناهيك عن ” ظريف الطول”و”الدلعونة” وبعض الأحيان بناء على ما يطلبه المستمعون، صار العود كما الكمان، مصدرا للعيش، ولحق التطور بالدراجة التي إستحدث لها مقعدا وثيرا على الجسر الأمامي، تأمينا لراحة رزق، أثناء الإنتقال إلى مكان الفرح، وذلك بع الشكوى المتكررة، من قساوة معد الجسر الأمامي، على مؤخرة رزق الله.)

 يسهل الحوار ، حقيقة، في رواية “رزق”، للمؤلف د. يحي حمود، سرعة الإيقاع الدرامي. غير أن فكرة أن يرى الشخوص أمامه، فهي ربما تكون بالنسبة له، جميلة من جهة، ومخيفة من جهة أخرى. لأنها تقوم في الأبصار، مقام الشاهد في الأذهان. وهذا لمما يجعله، يتردد كثيرا، في كتابة الحوارت الدرامية. يقول في “ص 124”:

( طالما أن الأمر كذلك، فإن هذا المسدس قد يحميك، من بعض الرؤوس المتوحشة، المفترسة والجاهلة.)

في روايته “رزق”، تتلاشى عند المؤلف د. يحي حمود، الحدود بين  الواقع والغرابة. حيث يبدو العالم، بالنسبة له، وكأنه يتحول تدريجيا إلى ملاعب الخوارق. وعادة ما يكون البطل، هو طرف في إختبار الإنتصارات والهزائم. وتبدو لنا تقنية الرواية، أقرب إلى سرود الأحاجي، حيث يمكن البناء، على التصورات. وهذا ما يجعل السرد الروائي، يبدو وكأنه فصول متبادلة، بين ما يروى على لسان هذة الشخصية، أو على لسان غيرها. يقول في “ص196”:

( إنها الحادية عشرة … لدينا متسع من الوقت… شرط أن نغادرالآن.)

 يطغى الشرود الذهني على بعض الشخصيات عند د. محمد حمود. وهو إنما يتعمد ذلك تعمدا. سعيا وراء البرهة الساخنة. يتفحص الوجوه، ويستحضر الخرافات والأمثال والرموز، وجميع أشكال الموروث الشعبي، ليمنحنا، شعورا قلقا. شعورا دراميا قلقا وجميلا في آن. يقول في “ص221”:

(يا عزيزي رزق ألم تسمع… لقد أقسمت بالله… فهل يجوز أن نكسر يمين الله؟

– ( رزق مقهقها) لا… طبعا لا يجوز.)

 يبدو اللعب بالحكايا، من بين الأساليب الروائية المفضلة عند د. يحي. وقد أجاد فيها، وجعلها في مقام عمله الروائي كله. كذلك نراه يستدعي الدراما، في الأسطورة والفانتازيا ويوتوبيا العدالة.   نستمع إليه “ص252”:

( بقي أن نضع النبتة السحرية في مخبئها السري. ونقفل عليها بغطاء يصار إلى تلحيمه… ونحدد موعد السفر).

د. يحيى حمود

 

تظهر في الرواية شخصيات روائية، بسمتها التراثية المهيبة والمعهودة لدينا. وهو بحسن إدارته للحبكات الروائية، يجعلها ذات قدرات إستعراضية، وذات مهارات ملحوظة في التخفي أو المناورة.

يروي د. يحي الحكايات على لسان شخوصه، وكأنها ترويها له جدته. وبمثل هذة الطريقة في الفن السردي الروائي، يتبدى لنا وكأن الحكايات تسكنه. بل تتقمصه وعبر هذة الرواية التي تنوف عن 345 صفحة، يصعب الجزم بأن هناك حقيقة واحدة يعالجها. بل هناك مجموعة من الحقائق العارية التي تتجلى في الشخصيات الواقعية، كما في الشخصيات الإفتراضية والخيالية، التي أنشأها في عمله الروائي المدهش. نراه يقول في “ص270”:

( رزق) الأمانة… أعز شيء في الوجود… يا وائل ألم تسمع بالمثل القائل” رب أخ لك لم تلده أمك”. في دروب الحياة، قد يكون حظك كبيرا، إذا صادفت أخا، لم تلده أمك.)

هذة الشخصيات ، بكل تواضع، إنما هي عند الدكتور يحي حمود، الدليل المادي على بناء حلم. وعلى الخروج من حلم. وعلى بناء واقع. وعلى الخروج من واقع، وكأنه يمارس عمله اليومي، لا أكثر ولا أقل.

 إذ يحاول د. يحي، في روايته “رزق”، التي بين يدينا،  الإنتقال من الذات إلى خارجها، وإرباك الواقع بمنظار بعيد عن العين المجردة.. إذ لا بد له، وهو المخضرم سياسيا وإجتماعيا، من إضافة إسقاطات نفسية وثقافية وعقائدية، وربما سياسيةوإقتصادية وإجتماعية في كثير من نواحي عمله الجاد. وكثيرا ما تتمحور عبر هذة الإسقاطات صورة الآخر. ويتحول هذا الآخر إلى شيطان. إلى عدو. فيصح آنئذ الإزدراء والكره والتشفي والبغض. وهي سمات أساسية، تحضر مع كل ذكر، لهذا الآخر المختلف. يقول “ص280”:

(عقلي وقلبي يقولان إن عهدي بهذة الإتصالات قد ولى. وإن الذي كنت أعتقده ممكنا، صار مستحيلا.)

 كأني بالدكتور يحي، يكتب أيضا في عمله، سيرته الذاتية. في فترة سياسية، من أشد الفترات صعوبة. ولذلك نراه يتخفى خلف شخوص روايته، بحيث لا تبين له معالم، بل يشف عنها شفا.

 وتعد هذة الرواية، وثيقة مهمة، وشاهدا على عصر. لأنها تشتمل على الكثير من المشاهدات والحوادث، التي  يذكر بها بكل تجرد. يقول في “ص299”:

( لا اريد سوى المساعدة والصداقة… الحب يحمل في أحشائه الكثير من معاني التحول يا زهرا… لكن الصدافة والإحترام، لرجل صمد في وجه أعتى الآلام والصعوبات، يبقيان أبدا عل مر الدهر.)

 وتبيانا للصدق والمصداقية في أسلوبه الروائي، فإن الدكتور يحي، حين يرسم الصورة الذهنية للآخر الذي يتقمص شخوصه، نراها لا تقتصر على العداوة والكراهية وحسب، فثمة مشاعر أخرى، أقرب للمحبة والود، وهو ما يشير إنخراط مؤلف “رزق”، في الحضارة التي أنشأته وفي الثقافة التي نمت عوده. فنراه يتقبل الآخر ويعترف به، كواحد من عمد العربية الأصيلة في تكوين بنيته الثقافية.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *