مُفارقات ديناميّة العَولمة وما بعد الحداثة

Views: 132

حسن الزواوي*

 

تنبثق التساؤلات حول مَسار تطوُّر المُجتمعات الإنسانيّة من رَحَمِ التراكُمات التاريخيّة التي شهدتها هذه الأخيرة، وبالأخصّ بعدما أَسهمت الثورةُ الصناعيّة خلال القرن الثامن عشر في تغيير شكل هذه المُجتمعات عبر بناءِ أُسسٍ جديدة للإنتاج الاقتصاديّ المؤطَّرة بمنطقٍ رأسماليّ، ناهيك بإحداث مجموعة من التغييرات على المستوى الاجتماعيّ كان من أبرزها الانتقال إلى مُجتمعٍ صناعيّ يعتمد في وظائفه الاجتماعيّة على مبدأ العقلانيّة.

شكَّل رصْدُ هذه التحوّلات مُنطلقاً لمجموعةٍ من الدراسات التي قامت بتحليل الأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وذلك من أجل فهْمِ عمْق التحوّلات التي تُرافِق مسلسل تحديث المُجتمعات وسُبل تكيُّفها مع إكراهات التغيير التي مسَّت بنيات وآليّات وظائفها الاجتماعيّة. لذا، اهتمّت كتابات كارل ماركس بالمسألة الاجتماعيّة، ولاسيّما أوضاع الطبقات العاملة وطُرق استغلال مجهودها في العمل من طَرَفِ أصحاب الرأسمال، وكذلك أبحاث دوركايم حول خصائص المُجتمع الصناعي القائم على إلزاميّة تقسيم العمل والتضامُن العضوي.

لكنّ الاهتمام بنتائج الحداثة الرأسماليّة سيُشكِّل مُنطلقاً تحليليّاً وأساساً لمُساءلة مصير الهويّة الثقافيّة والاجتماعيّة للمُجتمعات أمام زحْفِ هذه الحداثة وتوغُّل الرأسمال كمحدِّدٍ للإنتاج الاقتصادي، وبالأخصّ بعد سقوط جدار برلين وفشل النموذج الشيوعي في الحدّ من النفوذ العالَمي للنظام الرأسمالي، حيث جسَّد تفكُّك الاتّحاد السوفياتي في تسعينيّات القرن الماضي فرصةً تاريخيّة لظهور نظام عالَمي جديد يتميّز بأحاديّةٍ قطبيّة بزعامة الولايات المتّحدة الأميركيّة.

فمنذ نهاية الثنائيّة القطبيّة دَخَلَ العالَمُ في نسقٍ سياسي جديد يتميّز باختفاء السرديّات الإيديولوجيّة الكبرى وتحطيم القوالب والنماذج القديمة لصالح نموذج نيوليبرالي يؤسِّس لحداثةٍ سائلة (زيجمونت باومان، 2012) تتسارع فيها وتيرة تغيير القيَم المؤسِّسة للنظام الاجتماعي، حيث يرتكز فيها النظام اللّيبرالي، بحسب تحليل كارلو بوردوني، على حالةٍ مَرِنة ومُتفاقمة من عدم المُساواة القائمة على الرفاهيّة الاقتصاديّة كوسيلة للتمييز بين الطبقات العليا والدنيا (كارلو بوردوني، 2015). كما أصبح النظام الاقتصادي قائماً على الوفرة وعلى عرض الكثير من الخيارات الاستهلاكيّة للفرد، وهو ما أفضى إلى حالةٍ من التفاقُم وانعدام المعنى نتيجة اهتمام اقتصاد السوق بالربح السريع وبتسليع الأفراد من خلال التحكُّم في أذواقهم وتوجيه رغباتهم. بل الأخطر من ذلك هو أنّ كينونة الفرد أصبحت تتحدَّد عبر ما يمتلكه وهذا ما قد أشارت إليه تحليلات إيريك فروم المُنتقدة لوظائف التسويق التي يعتمدها السوق الرأسمالي (إيريك فروم، 2009).

إنّ استحضار تطوُّر الاقتصاد اللّيبرالي يرجع إلى أهميّته الفكريّة في قراءة مَسارات الحداثة التي أصبحت اليوم ترادفها مُصطلحات مثل العَولمة أو ما بعد الحداثة، كما يعكس دلالتها المعرفيّة حجْمُ الشكّ والحَذَر الذي يُصاحِب التساؤلات المُرتبطة بالحداثة كمسلسلٍ وصيرورة تاريخيّة، والنمط الرأسمالي كاقتصادٍ عالَمي. فديناميّة ما بعد الحداثة ومعها السوق الرأسمالي أَخذت أبعاداً وأشكالاً تتناقض مع المَكاسب التاريخيّة التي حصلت عليها المُجتمعات الغربيّة، بخاصّة بعد تمكُّنها من إرساء دعائم نموذج ديمقراطي تمثيلي قوامه الفكري نظريّة العقْد الاجتماعي، والتي أسَّست لقطيعةٍ تاريخيّة مع حُكم الملكيّات المُطلقة؛ إذ لم يُساعد انتشار مُنتجات السوق الاستهلاكيّة وتحكُّم الرأسمال الاقتصادي في مفاصل الحياة السياسيّة إلّا في سلْبِ إرادة الأفراد وانغلاقهم النرجسي على ذواتهم، فضلاً عن بروز حكومات بمثابة وكلاء تجاريّين للشركات التجاريّة الكبرى. فأهمّ ما خلقته السلطة المتضخّمة للسوق هو إفراغ مفهوم المُواطَنة من معناه القائم على الالتزام والمُشارَكة السياسيّة، مع خلْق مُواطنٍ استهلاكي ينفر من كلّ أشكال الالتزام الصارمة وقواعد الانضباط الاجتماعي التي تحدّ من هامش حريّته الذاتيّة.

أزمة الحداثة والديمقراطيّة اللّيبراليّة

انطلاقاً من هذا المنظور النقدي، تحمل العولمة وما بعد الحداثة في طيّاتها معاني مُشترَكة تحيل في مجملها على أزمة الحداثة والديمقراطيّة اللّيبراليّة التي تتجلّى اليوم في حجْم النفوذ الانتخابي والسياسي لأحزاب اليمين المتشدِّد في أوروبا، وأيضاً في اتّساع مستوى الاحتجاجات المُطالِبة بالمُساواة والحدّ من الفوارق الطبقيّة التي تسبَّبت في ازدياد أعداد الفقراء في الديمقراطيات الغربيّة. ولعلّ احتجاجات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا يكون خير دليل على ذلك.

إنّ الرغبة الجامحة في تسليع المُجتمعات، عبر جعْلها زبوناً استهلاكيّاً، واستنزاف كلّ الموارد الطبيعيّة لإشباع حاجات السوق فاقمت من أزمة الحداثة التي تعكسها اليوم طبيعة الكتابات المهتمّة بحالة التشظّي أو الانشطار التي يعيشها إنسانُ ما بعد الحداثة بسبب انسداد الأُفق وغياب البديل أمام سيطرة السوق والنزعات الاستهلاكيّة. فهذه الأخيرة تُحرِّك النزوات الحيوانيّة لدى الفرد مثلما تزيد من سلطويّته كذاتٍ متعطّشة للسيطرة والتحكُّم.

تتميّز الحقبة المؤسِّسة للعَولمة ومعها ما بعد الحداثة بتدفُّق التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة بشكلٍ مكثَّف يعجز الأفراد معه عن مواكبته، بل أكثر من ذلك يصيبهم بوسواسٍ قهريّ وارتباك. فأوّل ضحيّة للعولمة وما بعد الحداثة هو الصحّة النفسيّة للفرد الذي أصبح نرجسيّاً يتمسّك بحريّته الذاتيّة وبخصوصيّته على حساب الاستمرار في العيش داخل إطارٍ اجتماعي صلب. وأمام راديكاليّة النزعة الاستهلاكيّة وتجذُّر الفردانيّة بشكلها السلبي، أضحت طُرق التفكير في مستقبل الآليّات التنظيميّة للعلاقات الاجتماعيّة ترتبط بالكيفيّة التي يُمكن معها استيعاب الديناميّة النرجسيّة للأفراد واستثمارها وفق تصوُّرٍ يُعيد لهم قدرتهم على الدفاع عن خصوصيّتهم، ولكنْ مع الحفاظ على تماسُك وحدة المُجتمع كمنظومةٍ أخلاقيّة. ولعلّ هذا الأمر يُعَدّ في حدّ ذاته تحدّياً تتطلَّب مُواجهته إعادة تشكُّل وعي الأفراد بضرورة التحرُّر من سلطة السوق الذي نمّى فيهم وَهْمَ الحريّة.

فلقد بات التخلُّص من سلطة النمط الاستهلاكي النيوليبرالي هاجساً يلقي بظلاله على المُحاولات الرامية إلى مُراجَعة مآلات التقدُّم المادّي الذي تعرفه المجتمعات اليوم مقابل تراجُعٍ ملحوظٍ للقيَم الاجتماعيّة الإيجابيّة. وعلى الرّغم ممّا قدَّمه التطوُّرُ التكنولوجي من فوائد تهمّ بالأساس تقريب المسافات بين القارّات وثقافات الشعوب، إلّا أنّ العالَم لم يستطع التغلُّب على الأوبئة والحروب التي اتّسعت رقعتها الجغرافيّة، ناهيك بالمخاطر البيئيّة التي باتت تهدِّد مستقبل الكرة الأرضيّة. وهذا ما جَعَلَ المفكّر الألماني أولريش بيك يصف مُجتمعات اليوم بكونها مُجتمعات المخاطر الكبرى (أولريش بيك، 1986) الناتجة عن التحوّلات الاجتماعيّة والنتائج العكسيّة للتقدُّم التكنولوجي، التي أصبح يُجسِّدها الاعتقاد المُطلق بقدرة الوسائل التكنولوجيّة على تغيير شكل العالَم ومعه حتّى الإنسان.

لذا، فإنّ الإفراط في الاعتقاد بأنّ التقدُّم المادّي والتكنولوجي قادرٌ على خلقِ سعادة المُجتمعات الإنسانيّة لا يُمكن أن يستمرّ طويلاً ما دامت هذه الأخيرة لم تتمكّن من ربْحِ عدّة رهانات تاريخيّة، أهمّها تحقيق مطلب العدالة الاجتماعيّة، والحدّ من المآسي الإنسانيّة التي لا زالت تنخر كيان مُجتمعات العالَم الثالث تحديداً، باعتبارها مجالاً خصباً للحروب والمجاعات في زمن الوفرة الماديّة والعَولمة.

***

*باحث في العلوم السياسيّة من المغرب

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(hhcdropshipping.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *