أصول الأخلاق البرجوازية الليبرالية في كتاب “النظرية التقليدية والنظرية النقدية” لـ ماكس هوركهايمر

Views: 139

وفيق غريزي

 

قد يبدو لأول وهلة أن  تمييز ماكس هوركهايمر بين النظرية التقليدية والنظرية النقدية لا يعدو كونه تمييزا ابستمولوجيا ينحصر في مجرد الاختلاف بين تصورين للعلاقة بين المعرفة النظرية والموضوع، أي يبدو على أنه تمييز بين مجرد منظور نظرية المعرفة ونقدها، والحق أن  بعض المواضع من مقالة هوركهايمر قد تشي ببعض الوجاهة لهذا الاعتبار الابستمولوجي. 

وليس تقرير الفصل بين النظرية التقليدية والنظرية النقدية صدَا لتلك وانتصارًا لهذه، بل يقوم على ضرب من النسخ أو الرفع الجدلي لاحكام تلك الجزئية (في هذا الاختصاص العلمي او ذاك) ضمن حكم الوجود (النظري والعلمي في وقت واحد) الذي ما تنفك النظرية النقدية تعمل على تطويره بحسب تطورات الوضعية التاريخية العينية وطبقا لمصلحة تحقيق مجتمع مستقبلي يتناسب اكثر ما يمكن مع تنظيم عقلي للموضوعية الجمعية او المجتمعية. 

هوركهايمر

 

المادية والميتافيزيقا 

انتهى الفيلسوف ديلتي في دراسته للتصورات الفلسفية، التي ظهرت في اوروبا منذ العصر القديم، الى نتيجة أن  جميع المحاولات الميتافيزيقية ترمي الى ارساء منظومة جامعة ذات مصداقية كلية، من دون أن  تكون الى يوم الناس هذا، قد تقدمت فيه قيد أنملة في هذا الاتجاه، وهو نفسه عندما يعمل على دراسة أنماط رؤية العالم على حدة، فانه يشدد في ي هذه العلة، على الطابع التراثي للتصنيف الذي وجده، ذلك أن  الايقان من أن  تلك المنظومة التي تصدق كليا، محال، ينفي ايضا الدعوى الميتافيزيقية التي يمكن أن  ترفع مع تصنيف المنظومات الجزئية نفسها.

يؤكد هوركهايمر أن  التنميطية التاريخية والسيكولوجية لرؤى العالم كما يشتغل عليها ديلتي وكارل ياسبرز، تعبر عن نقد البرجوازية الليبرالية لاطلاقية فكرها، ذلك أن  التسوية بين الافكار الميتافيزيقية المختلفة والوعي بكامل مشروطيتها التاريخية، يدلان على سذاجة قوية بازاء سطوة المقولات التي حولها في الاصل الفكر البرجوازي نفسه الى مقولات ازلية، على الرغم من أن  المنظومات لم تفهم على أن ها ملزمة بمعرفة الشروط الاجتماعية لنشاتها وبوظيفتها الاجتماعية، بل على أنها تخضع لمفهومات اقنمت بدورها، اي مفهومات الانسان والحياة والشخصية والتطور الخلاق. ويقول هوركهايمر في هذا السياق: “مع هذا التحرر الجزئي في مضامين الماضي المحددة، كانت اشكال رؤية العالم قد تزينت في اثناء تحولها، ببريق المسار الميتافيزيقي”، ذلك أن  جميع المواقف وصور العالم والافكار التي أنتجتها العقول البشرية في ما يتعلق برؤى العالم، لا يمكن أن  تكون باطلة بالمطلق، لقد وجدت في القديم بوصفها قوة وهي ما تنفك تعود في الاكثر بكيفية نمطية، وايا يكن الطابع الخاطىء والباطل والموهم  لهذه الافكار، فان للنفس الانسانية طريقة في الوجود تجد عبارتها في مثل هذه الافكار، ذلك أن  النفس كما يقول ياسبرز: “تشهد امورًا تحركها في حد ذاتها، على نحو أن  تلك العبارة الموضوعية يتعرف عليها ولا يمكن أن  يتعرف عليها الا بوصفها ملائمة وبديهية وبوصفها تجليا وانكشافا”. 

ولما كانت نظرية رؤى العالم تتعقب مصالح ميتافيزيقية، فانها تركز بكيفية جوهرية صور الفكر التي تقدمها، حول مقاصد تستوي في ما بينها من حيث التوجه. ولهذا يقول هوركهايمر: ” أنه من المحال في الأدبيات الفلسفية الراهنة، أن  يفهم ذلك التعارض الذي يتخلل تاريخ الفلسفة ويقوم بين المسلكين الفكريين ويظهر من منظور وضعيتنا التاريخية على أنه التعارض الحاسم، اعني بين المادية والمثالية، وهو تعارض يصدق بوصفه صراعا بين توجهين ميتافيزيقيين، صراعا يسمح الاشكال الفلسفي الحديث بحسمه من دون صعوبات كبيرة”. أما سوء الفهم فموقوف قبل كل شيء على أننا لا نقدر النظرية والممارسة أو الماديتين حق قدرهما، وحتى عندما يصادق معظم ممثلي المادية على اشكالات ميتافيزيقية ويعارضون الطروحات المثالية بطروحاتهم، فان تأويل هذا التوجه الفكري الذي يتناول تلك النظرية وتلك الممارسة على أنهما في الاساس، اجابة على اسئلة ميتافيزيقية، يقطع الطريق امام تفهم اهم خصائصهما الراهنة.

عندما تشتغل الميتافيزيقا على (لغز) الوجود وكل العالم وعلى الحياة وفي ذلك، فانها تتعهد بامكان استخلاص نتائج ايجابية في ما يتعلق بالفعل. لا بد أن  يكون “للكينونة التي تصطدم بها الميتافيزيقا، نظام ما تكون به حاسمة بالنسبة الى تدبير الحياة الانسانية، ولا بد أن  يوجد فعل يتناسب مع هذه الكينونة. (Xanax) ما يتصف به الميتافيزيقي هو سعيه أن  يربط حياته الشخصية، سواء افضى به هذا النظر الى الفعالية العالمية العليا باطلاق او الى الغبطة، او الى الزهد، وسيان ايضا أن  يتمثل هذا المطلوب على أن ه متطابق بالنسبة الى كل العصور والبشر اجمعين او على أن ه مختلف ومتغير”. 

ولا شك أن  منظومات مثالية كثيرة تنطوي على معارف مادية ذات قيمة عظيمة، معارف تعرض على الرغم من مقاصد واضعيها التي تتعلق برؤى  العالم، عناصر هامة من التقدم العلمي. لقد تولدت الجدلية نفسها عن المثالية.

 

الأنانية وحراك التحرر 

إن التعارض الذي يتعلق بتصور الطبيعة البشرية والذي كانت له دلالة بارزة ضمن الادبيات السياسية في الحقبة البرجوازية، قد ظهر للعيان في مطلع القرن السادس عشر وضمن اثرين رائعين: وحتى لو لم يكن لوصايا ماكيافيلي لرجال الدولة، اساس أنثروبولوجي متشائم بالشكل المعلن الذي يمكن أن  يظهر طبقا للجملة الشهيرة في الفصل الثامن من كتاب “الامير” التي تقول أن  البشر جميعا “اشرار واصحاب سوء”، فان هذه الوصايا قد فهمت مع ذلك بالجوهر بهذه الكيفية طيلة القرون اللاحقة. وعلى كل حال، كثر هم الذين اتبعوا ماكيافلي في هذا التوجه، حد أن  تريتشكه اكد بانه تبرز لدى كل مفكر سياسي عظيم وحقيقي نزعة تهكمية تقوم على احتقار الانسان، وحتى عندما لا تكون هذه النزعة قوية جدا، فان فيها دوما شيئا من الصواب، اما كتاب توماس مور “يوتوبيا”، فيعبر عن موقف فكري مغاير لذلك يقول هوركهايمر: “مشروع المجتمع العقلي هذا يشهد على قناعة أن  للطبيعة البشرية في الاصل استعدادات أن سب واوفق من حيث أن  تحقيق هذا المجتمع طبقا للرواية، لا ينفصل عن الحاضر زمانيا، بل مكانيا وحسب”. وليس مور هو الوحيد الذي يرى ذلك، لم يكن جان جاك روسو في مكافحته لمقالة هوبز حول العنف الخطير للطبيعة البشرية، في حاجة الى الاستشهاد بتوماس مور، بل كان بامكانه أن  يذكر سلسلة من الانثروبولوجيين البرجوازيين كانوا يمثلون المنظور الوضعي نفسه. 

كان الكتاب المذكورون يمثلون النهضة والانوار، يزهدون في استخدام صفتي “الخير والشر” اللتين تحملان على الطبيعة البشرية، ولا توجد في اعمالهم مجرد اعتبارات تأخذ في الحسبان الابعاد المتضادة، من مثل أن  يتفكر المرء مفهوم “الفرتو” التي تعني في وقت واحد القيمة والشجاعة والقوة والطيبة، عن ماكيافيل، بل كانوا يعملون جاهدين بصفتهم مفكرين محدثين، على اجتناب الاحكام القيمية قدر المستطاع، ذلك أنه “في مقابل النظرة القروسطية التي على نحوها يفهم الانسان بخاصة بالنظر الى معيار ما، وحيث تدل الطبيعة 

 على العكس من الطبيعة المضادة، على التقويم الالهي للطبيعة البشرية ضمن كامل الخلق، انتهى المرء مع بداية العصر الحديث الى التسليم بأن الصفات التي تحصل عن التحليل التاريخي والسياسي والسيكولوجي تصدق باعتبارها صفات الانسان”. لم يعد يتعين التدليل على ما يكون الانسان من خلال تفسير الكتاب المقدس أو على اساس سلطات اخرى، بل بالاستناد في آخر المطاف الى وقائع تكون في المتناول بلا توسيط، لقد صارت المعرفة بالانسان مسألة بعينها من وسائل الطبيعة. 

الباعثان المتداخلان في نقد الانانية، أي الباعث الذي يتعلق بالمجتمع بعامة، والباعث الذي يرتبط بالطبقة. أما التعارض الذي تنطوي عليه الاخلاق ويصدر عن هذا الجذر المضاعف، هو من وجهة نظر هوركهايمر، الذي يعطي للمفًهوم البرجوازي في الفضيلة كما يظهر للعيان عند المفكرين والسياسيين التقدميين، طابعه غير المحدد والملتبس. ويقول هوركهايمر: “إن  تهمة الانانية التي تعارضها الانتروبولوجيا باطروحة طبيعة انسانية أنبل، او بمجرد وسم هذه الطبيعة بالحيوانية، لا تتعلق في الاساس بنزوع الاقوياء الى التسلط، وبالشعور براحة البال ازاء البؤس والتمسك باشكال للمجتمع منصرمة وظالمة”. 

تتعدى مناهضة الانانية مجرد الدوافع الفردية، فهي تتعلق بالحياة الوجدانية في مجملها وتعارض في نهاية المطاف المتعة التي لم تعقلن، أي المتعة الحرة التي ليس لتوازنها اي علل تبريرية. 

 

الثقافة والاسرة

لقد قسم تاريخ الانسانية الى مراحل بكيفية متنوعة جدا، ليس الموضوع وحده وهو ما كان يعين الكيفية التي كان يحصل على نحوها هذا التقسيم في كل مرة، كما هي الحال بالنسبة الى تكوين مفاهيم اخرى، بل هو ايضا وضع المعرفة ومصلحة العارف. يقول هوركهايمر: “لا زلنا الى اليوم نستخدم طيفا للقاعدة العامة، التمييز بين العصر القديم والعصر الوسيط والعصر الحديث. وهذا التقسيم انما ينحدر في الاصل، من علم الادب، وكان قد طبق في القرن السابع عشر، على التاريخ برمته”. هو تقسيم يعبر عن عن الاعتقاد الذي تطور انطلاقا من النهضة واكتمل مع فكر التنوير، في أن  التطور الذي يمتد من أن هيار الامبراطورية الرومانية الى القرن الخامس عشر، قد كون مرحلة مظلمة من مراحل الانسانية، وهو إن جازت العبارة، بمثابة البيات او السبات الشتوي للثقافة الذي ينبغي أن  يعتبر بوصفه مجرد طور أنتقالي. امّا العلم الراهن من وجهة نظر هوركهايمر فيعتبر هذا التقسيم غير كاف الي حد بعيد، وليست العلة في ذلك فقط انما يسمى عصرا وسيطا حتى اذا قوم بكيفية براغماتية بحتة، انما يدل على تقدم مشهود من حيث اشتمل على انجازات حضارية حاسمة وانتج اختراعات تقنية ثورية، بل العلة في ذلك ايضا هي أن  المقاييس التي تقدم عادة لتبرير القطيعة مع القرن الخامس عشر اما أنها كانت لا تستقيم او أنها كانت لا تصدق الا على مجالات محدودة من تاريخ العالم.

اذا كانت المراحل التاريخية ترجع الى الفلسفة المثالية، الى التجلي الذاتي لوجود روحي من حيث تتطابق قبليا كما هي الحال عند فيخته، مع خطة العالم يمكن استنباطها، او تعرض كما هي الحال عند هيغل، درجات واطوار روح العالم الذي يصير الى الموضوعية، او تعبر كما نجد ذلك عند ديلتي، عن الطبيعة الكلية للانسان تعبيرا يتعلق في كل مرة بجانب مغاير، فان التوجه المادي يعمل على مجاوزة هذا العنصر الميتافيزيقي من حيث الكشف عن الدينامية الاقتصادية التي تعين مجرى المراحل التاريخية وامتدادها وقواتها.

ويوًكد هوركهايمر أن  التاريخ لا يبدو، على أنه مسار التفاعل بين الطبيعة والمجتمع، بين الثقافة القايمة والثقافة المتصيرة، بين الحرية والضرورة،، بل على أنه انبساط وتطور واعرض مبدأ موحّد، يقول هوركهايمر: ” تدرج الثقافة برمتها ضمن الدينامية التاريخية، واما مجالاتها، اعني العادات والسنن والفن والدين والفلسفة، فتكون في تشابكها، عوامل دينامية قايمة يمكن أن  تحافظ على شكل اجتماعي معين او أن  تحطمه. في كل طور تاريخي جزئي، تكون الثقافة المفهوم الشامل لحملة القوى التي تتفعل في سياق تغير الثقافات”. 

لقد اتخذت اليوم دراسة الثقافة من منظور الفكر وعلم التشكلات الثقافية، منحا وصفيا بحتا، في هذا السياق ينظر الى الثقافة بوصفها بالجوهر وحدة مستقلة تتعالى على الافراد، وعلى العكس من ذلك تصور الثقافة باعتبارها بنية دينامية، أي بوصفها تكون في الوقت نفسه تابعة وجزئية ضمن السيرورة الاجتماعية في مجمله، لا شيء بأي موقف تأملي في التاريخ، لهذه العلة لا تكون لهذا التصور الدلالة نفسها في العصور والحقب كلها. اما بالنسبة الى الاسرة فالاحداث التي تحصل في ظلها، تكوّن الطفل منذ الصغر، وتؤدي دورا حاسما في تطوير استعداداته وقدراته، وكما ينعكس الواقع الفعلي في وسط هذه الدائرة، يقع الطفل، الذي ينمو بداخلها، تحت تأثير هذا الواقع، تسهر الاسرة بوصفها احد اهم التنظيمات التربوية، على معاودة انتاج الطبائع البشرية على المنوال الذي يقتضيه المجتمع، وتقدم لها في جزء كبير، القدرة اللازمة على ذلك السلوك التنفيذي المخصوص الذي يكون بقدر معتبر، شرط قيام النظام البرجوازي ودوامه حسب رأي هوركهايمر. 

 

لقد وقع التشديد على وظيفة الاسرة باعتبارها نشاطا داعيا، في عصر الاصلاح والاستبداد بخاصة. ذلك أن  تعويد الفرد على الا ييأس من ذلك العالم القاسي الذي ما انفك يتوسع فيه النظام الجديد للعمل، بل أن  يواجهه، كان يقتضي أن  تتحول القسوة الباردة ازاء نفسه والآخرين، الى طبع مغرور فيه، والحق أن  المسيحية كانت السلوك التنفيذي في المجتمع. ومثاله أن  اوغسطينوس كان يعلم “أن سلم الاسرة يرتبط بسلم الجماعة، أي أن  الوفاق المرتب للأهالي في ما يتعلق بالأوامر والطاعة يرتبط بالوفاق المرتب للمواطنين في الأوامر والطاعة. لهذا يحصل لرب الاسرة أن  يستعيد من قوانين الجماع، القواعد التي ينبغي على نحوها أن  يسوس بيته، حتى يتلاءم ذلك مع سلم الجماعة “. 

وفي تاريخ تطور الاسرة من حقبة الاستبداد الى الحقبة الليبرالية، يبرز طور جديد يشدد اكثر على التنشئة لاجل النفوذ. ويقول هوركهايمر: “لم تعد الطاعة هي المطلوبة، بل المطلوب هو على العكس من ذلك، استعمال العقل، من يعاين العالم بنظرة واقعية وحسب، سيرى أنه على الفرد أن  يطيع ويخضع. ومن يريد بلوغ شيء ما، وبعامة من لا يريد أن  يتخلف ويهلك، عليه أن  يتعلم كيف يجعل الاخرين يقبلون به “…

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *