قصّة قصيرة… “المُستعجل”

Views: 1066

 بقلم : بولي ديلانو (تشيلي)

ترجمة : د. محمّد محمّد خطّابي*

على الرّغم من بلادتي وتثاقلي، من عينيّ المنتفختيْن، من بطني الكبير، من هيئتي كما لو كنت قد خرجتُ لتوّي من الكهف، فإنني لا أتوقّف أبداً، إنني في عجلةٍ من أمري باستمرار، هكذا كنت دائماً، ليل نهار تزنّ، ، وتئنّ، وتئزّ في رأسي نحلة.

أقفز من الصّباح إلى الليل، من الحُلم إلى اليقظة، من الإكتظاظ إلى العُزلة، من الفجر إلى الغروب، لا فائدة حتى لو قدّم لي كلّ فصل من الفصول الأربعة مائدته الميسورة، لا جدوى، لا زقزقة الكنار في الصّباح الباكر، ولا السّرير الوثير كنهرٍ في صيف، ولا تلك المراهقة ودمعتها المكلومة عند إطلالة الخريف، عبثاً لا وقت الظهيرة، ولا ضوؤها الزجاجي والأوراق الخُضر التي تُصفّيه، والصّخور التي تنكره، والظلال التي نتفيّأ، كلّ هذه الأشياء في تمامها وكمالها تبعث في نفسي التقزّز والقرف والملل في جرعةٍ واحدة.

أمضي، أطير، أعاود الطيران، أسقط، أخرج، ثمّ أدخل، أطلّ، أسمع الموسيقىَ، أحكي، أتأمّل، أناجي نفسي، ألعن، أغيّر بدلتي، أودّع ” الأنا” الذي كان، أماطل مع الذي سأكونه، لا أحد يُوقفني، إنّني في عجلةٍ من أمري، سأمضي إلى أين ؟ لستُ أدري، لا أعلم أيَّ شيئٍ سوى أنني لا أوجد في مكاني، منذ فتحتُ عيني أيقنتُ أنّ مكاني لم يعد هنا حيث أوجد الآن بل في المكان الذي لا أوجد فيه، والذي لم أوجد أبداً في مكانٍ مّا.هناك فراغ، وهذا الفراغ سوف يمتلئ بي ويفيض…سوف يمتلئ بي حتى يحيلني إلى نبعٍ أو فوّارة أوفجرة ماء. ثمّ إنّ فراغي الذي هو أنا الآن سوف يمتلئ بذاته في هيئةٍ متكاملة مستوياً على الأطراف.

إنّني في عجلةٍ من أمري، من وجودي، أهرول خلفي، وراء مكاني وفراغي وخَوائي من ذا الذي حجز لي هذا المكان، ما اسم قدري؟ مَنْ هو ومَا هو الذي يحرّكني ؟، ومَنْ، ومَا الذي يحفظ تسنّمي وتطلّعي لتحقيقه ؟ لست أدري إنني في عجلةٍ من أمري حتى ولو لم أتحرّك من كرسيّ أو حتى لو لم أنهض من سريري حتى لو استدرتُ في قفصي.

إنّني مُسمَّر في إسمي، في إيماءةٍ، في حركةٍ، في تيك، أتحرّك أعاود الكرّة من جديد، هذه الدّرر، هؤلاء الأصدقاء، تلك البلدان، هذه الأيدي، هذا الفم، هذه الكلمات التي تكوِّن هذه الصورة المنزوعة بدون إعلان مُسبّق، لست أدري من أين، وكيف لصقتْ بصدري، هذا ليس مكاني، لا هذا ولا ذاك هو مكاني، إنّ كلّ ما يشدّني وأشدّه أنا هي أسلاك شائكة، حائط ولكنّ عجلتي تتجاوز كلَّ ذلك وتثب فوقه.هذا الجسم يُقدّم لي جسمَه، هذا اليمُّ يُخرج من الأحشاء سبعَ أمواجٍ، سبعَ أجسادٍ، سبعَ ابتساماتٍ، سبعَ ثريّاتٍ بيضاء.

أزجي الشكر ثمّ أمضي، كانت فسحة جدّ مُسليّة، والمحادثة بنّاءة، فالوقت ما زال مُبكّراً، العرض لم ينته بعد وليس لي أيّ رغبة البتّة في معرفة النهاية، فأنا أشعر بها، أتحسّسها، إنّني في عجلةٍ من أمري، لي رغبة جامحة في أن أتحرّر من ذاتي، من عجلتي، إنّني في عجلةٍ من أمري، من أجل أن أنام، وأن أصحو دون أن أقول لك، وأقول لنفسي وداعاً، إنّني في عجلةٍ من أمري.

***

– ولد بولي ديلانو في مدريد في 22 أبريل 1936 وعاش طفولته وشبابه في كلّ من اسبانيا، والمكسيك، والولايات المتحدة الأمريكية، وأخيراً في تشيلي حيث توفي في العاشر من شهر آب/أغسطس 2017، وكان يحسب نفسه من مواطني هذا البلد لطول إقامته به، من أعماله: “دخان القطارات”، ” صباح الضّباب”، ” أناس منعزلون “، و” صفر على الشّمال”. من أقواله: “الفنّ القصصي يتغذّىَ من الشّارع، ومن التاريخ، ومن التهميش، ومن كلّ ما هو يوميّ متواتر مُستوحىً من صُلب الواقع والمجتمع”.

***

* محمد م. خطّابي، كاتب ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للأداب والعلوم- بوغوتا – كولومبيا.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *