السّرعة انهيار وهي للبنان قيامة

Views: 82

ابتسام غنيمه

من جبل البرناس موطن الآلهات الملهمات عند الإغريق، إلى وادي عبقر مقرّ الشّعراء الملهمين عند العرب القدامى، كان منبع الشّعر مع ما لوقع كلمته السّحريّة في البشر. وخرج مع مرور العصور من المعتقدات التي يرفضها العقل البشريّ، وأصبح مصدر وحي الشّعر القلب والإحساس، أي النّفس البشريّة وتجربتها في الوجود. غير أنّه بقي يتميّز لسنوات طوال، شرقًا وغربًا، بالإيقاع القائم على التّفعيلة والقافية. فنحت الشّعراء أبياتهم بإزميل لم تقوَ عليه يد الأيّام، وتناقلت الأجيال قصائدهم. ومع الحداثة، برزت التّفعيلة عنصرًا أساسيًّا في الكتابة الشّعريّة، فانتقلت القصيدة، عند البعض، من مرحلة البيت الموزون القائم على عدد من التّفعيلات إلى مرحلة التّفعيلة المستقلّة التي تقوم عليها الكلمات، وهكذا أثبتت التّفعيلة قيمتها الأساسيّة في بناء العمل الشّعريّ. وللدّلالة على أهمّيّة الوزن والتّفعيلة نلاحظ أنّ الشّعر الزّجليّ أو المحكيّ حافظ على مكانته، وإن كانت الموسيقى تقوم عند بعض الشّعراء الزّجليّين على حركة الصّوت امتدادًا أو اقتضابًا، غير أنّه لم يتحوّل مع مرور الزّمن إلى زجل نثريّ، وإلّا لبات مشابهًا للحديث اليوميّ المتناقل على ألسنة الجميع. لكنّ الشّعر الفصيح عرف قصيدة النّثر، ورغم أنّني لا أعترف بهذه التّسمية له لأنّها بعيدة عن القصيدة القائمة على الوزن والتّفعيلة (وأقترح اختيار تسمية بديلة لهذا النّوع من الكتابة)، غير أنّ لها مقوّمات خاصّة بالإبداعيّة تفتح المجال للحرّيّة باستعمال صور ورموز بغنى وسلاسة، كما أنّها تخلق موسيقاها الخاصّة بها، ما يجعلها تستحقّ الدّراسة والانتشار.

لكنّنا، في أيّامنا هذه، نجد الكثيرين ممّن يحملون القلم يخطّون ما شاء لهم نثرًا، محاولين إيجاد نغمة في ما يسمّونه قافية، مع أخطاء لا تحصى لغة، ويرفضون إلّا أن يطلقوا على أنفسهم لقب شاعر، ويتلقّون، من جهات مختلفة معظمها لا تعرف قيمة الكلمة الشّعريّة، شهادات تقدير وصفات ترفعهم إلى مرتبة الشّعراء المبدعين. فأين أنت يا شعر ونحن نرى وسائل التّواصل الاجتماعيّ تسارع إلى نشر كتاباتهم ونعتهم بألقاب ما عرفها المتنبّي يومًا؟!

رويدك أيّها الشّعر! لم العجلة؟ ففي العجلة النّدامة وفيها انهيارك. أين أنتم يا أصحاب الاختصاص كي تعيدوا إليه حقّه ليعود ويتربّع على عرش الأدب فنًّا مستقلًّا له أربابه الأفذّاء؟!

والشّعر على علاقة وثيقة بالموسيقى والغناء، فبعيدًا عن العصور القديمة الماضية التي شغلها هذا الفنّ، نجد أنّ مسيرة الغناء أخذت في التّقهقر شيئًا فشيئًا؛ فمن أيّام الطّرب الأصيل الذي تداخلت فيه الكلمة الجميلة مع الصّوت الرّاقي، إلى عصر الموسيقى الشّعبيّة لقصائد غنائيّة ذات كلمات معبّرة، كان التّطوّر الواقع الطّبيعيّ الذي يعطي كلّ جيل حقّه ويلامس ذوقه في الموسيقى والسّماع. ومنذ سنوات، ومع احترامنا للكثير من المغنّين والمغنّيات الذين يملكون حضورًا مميّزًا وصوتًا رائعًا ويختارون أغنياتهم بعناية، ثمّة فئة غزت السّاحة الغنائيّة بنوع مختلف من الغناء، يتميّز بقدرة الجسد على التّأثير في المشاهدين بدل الصّوت والكلمة. فخلع الغناء ثوبه البهيّ والرّصين، وارتدى ثوب الشّهوة والدّلال، وتسارعت الأجساد إلى التّمايل متنافسة على المنابر والشّاشات، وكلّما كان الإبداع الجسديّ مغريًا وفاتنًا كلّما ارتفع “شأن” الأغنية. لكنّ هذه الفئة لم ولن تستطيع الاستمرار، بل سيقدّر لها الانطفاء لأنّ التّاريخ يشهد بأنّ ما من زمن مرّ على أغاني أمّ كلثوم وعبد الوهّاب وفيروز ووديع الصّافي وسواهم…

فالسّرعة في الانتشار وكثرة الأسماء التي تشهدها السّاحة الغنائيّة دليل عجز وانحطاط في النّوعيّة. إنّها تواكب عصرها، وهي وليدته، علمًا أنّ من هذه الفئة مَن يملكون أصواتًا جميلة لو وظّفوها في خيارات مناسبة لطاقاتهم الصّوتيّة وتجنّبوا الاعتماد على حضورهم المثير والمتشابه لحقّقوا لأنفسهم وجودًا يؤرّخه فنّ الغناء.

وبالتّالي، إنّ السّرعة في الكثير من الحالات التي لا يتّسع المجال لذكرها ضارّة، وأحيانًا ينتج عنها الانهيار والانحطاط. وكأنّ المسؤولين في لبنان وعوا سلبيّاتها، أو أرادوا أن يتواروا خلفها، لذلك نراهم يؤجّلون ويسوّفون ويماطلون كتحقيقات المرفأ على سبيل المثال، وتأجيل جلساتهم واجتماعاتهم، وعدم تشكيل حكومة لسنوات، وغيرها من الأمور… كلّ ذلك والشّعب يغرق في متاهات الفراغ والفقر والجوع والغلاء الفاحش وكارثة التّمكّن من الوصول إلى عناية طبّيّة مناسبة وانقطاع الأدوية والتّيّار الكهربائيّ وأزمات البنزين والمصارف وسواها من الأمور التي نعاني منها يوميًّا.

فيا مَن بيدكم المسؤوليّة وتملكون القرار، معكم انقلبت الآية: ليس المطلوب منكم التّريّث والتّمهّل والمماطلة، المطلوب أوّلًا انبعاث الضّمير الميت من أعماقكم، واستعادة الشّعور الوطنيّ الذي فقدتموه، فتليهما السّرعة في اتّخاذ قرارات حكيمة وتنفيذها لأجل إنقاذ الشّعب، لا البلد، لأنّ الوطن بأبنائه ومعظمهم أصبح خارجه، من براثن أيّام قاتمة يعيشها، علّ النّفق المظلم ينتهي ونخرج منه إلى أنوار تتوهّج رخاء ومحبّة، فنتنعّم في ضيائها سنواتنا الباقية، وتضيء طرقات الأجيال اللّاحقة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *