“أرض الزئبق” أم حديقة “ديزني لاند”؟؟  

Views: 145

د. علي نعمة 

 

قراءة في كتاب ” أرض الزئبق للشاعر نعيم تلحوق في بحثه عن المعنى ..

 

القراءة الأولى للكتاب توقظ فيك إنبهاراَ بالصور الخاطفة ذات التعبير الصارخ المفاجىء وغير المتوقع .. وهو التعبير السريع الموجز اللاهث الذي يجمع بين سخرية الصورة الفاقعة المناقضة لذاتها وصرخة ” الحقيقة ” العميقة التي استولدتها  .. فتحبس أنفاسك منبهراً بالسرد الفريد ، الجميل والمبدع في صوغ كلمات اللغة التي تحمل رسم الومضة التصويرية  الشعرية الخاطفة ، ذات النكهة الفلسفية الجامحة بإيحاءاتها الخيالية المؤدية إلى معنى للفكرة ، في اختراق دقيق مسدّد أصاب صميمها .. وتركك مذهولاَ ، مشدوهاَ .. بل تائهاً حيراناً بين ” الإقرار ” بصوابية الرميّ والتسديد أو التأمل في المعنى المراد ، ثم التمعّن والانغماس فيه .. أو رفضه  أو صدّه ..

كانت القراءة الأولى أشبه برحلة خاطفة في سراديب المفاجآت في حديقة ” ديزني لاند ” .. ما أن تعبر مفاجأة حتى تقرعك مفاجأة أشدّ منها هولاَ ورعباَ ، أو أشدّ منها غرابة أو فرادة …

في القراءة الثانية ، تستوقفك مهارة الكاتب في صياغة الجمل والعبارات ، وانتقاء الكلمات والمفردات المنسجمة مع الأفكار التي يسردها بسلاسة وحيويّة ، فيستثيرك في النص النثري – الشعري المفعم جمالاَ ، الصاخب بنكهته وإيقاعه الشعري ، وخصوصاَ بوحه الفلسفي ، ويأسرك بموسيقاه الغنائيّة المعربدة فتسمع صوتها هادراَ بعنفوان التمرّد ، أو خافتاَ متسلساَ بالمعاني المتساوقة في سردها ، أو قد تسمع صمتها مكسوراَ بنبرة الخيبة من ثقل المعنى الوجودي المترع حزناَ برمزيته اليائسة ووهم جدواه ..

الشاعر نعيم تلحوق

 

في القراءة الثالثة ، يلج الكاتب بأفكاره ، عنوةً أو طوعاً ، إلى تلافيف دماغك ، فيتقمّصك أو تتقمصّه ، فلا تدري أأنت هو أو هو أنت .. وتنساب معه بعقلك وروحك في رحلته الوجودية حول المعنى ، بل والمعاني التي ينبشها من أديم الأرض وفضاء الكون ، فترقص معه في محفل البشر ، وتصاحبه في وحدته وخشيته من وحشة الحياة من غير حبٍ أو أليف .. وترقب معه دعوة الموت المنتظر ,, ويعود فيأخذك إلى شاطىء الحزن والألم الدفين حيث يعزف أصحابه الفضائيون سمفونية السدى للسراب السرمدي .. ويسألون البحر والمدى عن جواب  السرّ الأبدي . 

في القراءة الرابعة ، ترى الشاعر الفيلسوف يجول مع نعيم تلحوق في نفسه ، في جميع المكان وملاعب الزمان ، ممتطياً صهوة الخيال ، مطاعنا للطواحين والرياح ، ومبارزا لسائد المعتقدات والمحرّمات ، مسافرا في غيب المعاني يستدّر كشفها في رحلة الحياة التي يغرق سرّها في حنايا الجسد ، ويديرها الطاعن في السنّ الذي لا يموت إلى الأبد ..

 في القراءة الخامسة ، ترى شاعرنا واقفا فوق ناصية ، للزمان والمكان ، في شرفة مطلةٍ على المدى السحيق السحيق ، ناظراً بعين الرياح الأربعة للاِحتمالات المتناقضة المنشدَّة إلى كلّ الجهات سائلاً نفسه علّه يعلم سرّ المعنى في كونه الذاتي الوجودي ، أو في كونه الكوني الرابض خلف الحقيقة . 

القراءة السادسة: 

 أجمل الكتابة أن ترى نفسك فيها أو بعض نفسك ، أو بعض ما تتمنّاه نفسك فيها .. في كتاب شاعرنا التلحوقي الكبير تأنس إليه وإلى الأفكار التي لا تني تترى خلف بعضها ، منفصلة ومتصلة مع بعضها ، في سياق سلس وإطار بديع من الصور مستقل لكلٍّ منها  ، يبرز معناها ويضيء عليه،، فتستوقفك الصورة الأدبية الشاعرية والفلسفية معاً ، وترى خلفها أنين الوجع العميق ونهر الحزن الجاري في صدره في خشية لا مثيل لها من شعوره الذاتي بوجدانيته وفرديته بل بفرادته في عالمٍ  وكون غريبين عنه ، قد لا يصل إلى التناغم والانصهار أو الذوبان فيهما… 

هل هي مأساة الذات القلقة المنطلقة مع كل سؤال يطرحه التفكير من عقل وخيال .. وما أكثر القلق إذا لم يجد السؤال الجواب الذي يشفي الغليل ..

لا أريد أن أطيل على قارىء لكتاب ” أرض الزئبق ” في قراءات أخرى فوق التي ذكرت … لكنني أترك له المتعة الخاصة به في قراءته للكتاب وللتأمل بما يحتويه من أفكار ومعانٍ فلسفية ، وغير فلسفية ، وفي السبك اللغوي الفريد الذي أبدع فيه الكاتب نثراً وشعراً ، في قالب موسيقي مشترك يطرق سمعَك إيقاعه عندما يعلو صاخبا ، وتسكن نفسك إليه بأحلامك عندما ينخفض أو يخفت هذا الصوت الإيقاعي في ” سمفونية البحث عن معنى الوجود ” التي صاحبت الكتاب الذي عزف موسيقاه وقادها المايسترو نعيم …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *