جان توما: الرصد والذكرى والحنين

Views: 186

أ.د. مارلين حيدر نجار

(عميدة كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية)

 

إسمحوا لي أنْ أبدأَ كلمتي بالتعبيرِ عنْ بالغِ اعتزازي لوجودي بينَكُمُ اليومَ في هذا اللقاءِ المميَّز..

أود بداية أن أرحّبَ بِكُم جميعاً، اذ تسعدني مُشاركَتُكم هذِه اللحظاتِ الجميلة التي تجمعنا، لنحتفل سوياً بالمولود الفكري الجديد الذي يحمل رقم 18 لأديب تميّزه ملكاتٌ لا يُمكن حدّها أو تعدادها … فالدكتور جان هو شخصيةٌ متميّزةٌ ومميزة … معطاءةٌ نضاليةٌ، محبةٌ وتحمل الكثيرَ الكثيرَ من الصفاتِ اللافتة … فمن يعرف الدكتور جان توما يعرفُ جيداً أنه صاحبُ الإرادةِ الصلبةِ والتطلعاتِ الاستثنائيةِ والقدرات اللافتة التي تفيضُ من خلال إنتاجاته الوفيرة، التي تغذي القلبَ والعقلَ معاً.

فشكراً زميلي جان على ثقتِكَ .. تشرفني دعوتُكَ لي للمشاركةِ في تقديم كتابك الجديد “كما الاعصار” .. ولهذهِ الدعوةِ مكانةٌ كبيرةٌ في قلبي، لأسباب عدّة تعني لي كثيراً وعلى غير صعيد .. فأنت يا صديقي خيرُ دليلٍ على مثال ِالانسانِ الطيبِ في الاخلاقِ والشيمِ وانت الانسانُ الذي لا يتقاعدُ ولا يتوانَ عن العطاء.

عندما تواصل معي الدكتور جان للمشاركةِ في تقديم كتابِهِ الجديد، اقترح عليّ امكانيةَ الاضاءةِ على البُعدِ السوسيولوجي .. قبلتُ بفرحٍ، ولكن لا أخفي بأني لم أستسهلِ المسألةَ. فكتابُ زميلي متنوعٌ بعطرهِ والوانهِ كبُستانِ ورودٍ وأشجار. لقد رتّبه بحِرفيةٍ ودقةٍ علميةٍ من الخاصِ الى العام وادرجه في تسعةِ فصولٍ يتضمن كلُ فصلٍ فيها مجموعةَ مقالاتٍ تجمعُ ما بينَ الرصدِ، والذاكرةِ، والحنينِ، والوفاءعلى الصعيدين المادي واللامادي .. فالمسارُ الذي يَبدأ “بمداخلات الكاتب” خلال العام 2021 لا يمكنُ أن يُكملَ المسيرةَ بدونِ بركةِ “الميناء هبة البحر”، لينتقل بعدها الى “إطلالات” و”رفاق درب”، “طفولة”،  “كورونا وجوع”، “لوحة وكلمة”، “مناسبات دينية” وختاماً مع “وجوه في رتبة الذاكرة”. وهنا لا يمكنُكَ إلا أن تقفَ عند تلكَ الريشةِ التي يرسم بها زميلي لوحاتَهُ، سواءَ طال بها الحجرَ أو البشر، يرسمُها بكلِ دقةٍ وامانةٍ تختطفُكَ لتعيشَ معها سحرَ المكانِ وحنينَ الزمان.

اذاً “كما الاعصار” هو كتابٌ يوثق فيه أديبنا ذكرياتٍ سرديةٍ عنْ أماكن تغيّرت معالمُها، وأحداثٍ تاريخيةٍ مضت، وأناسٍ وشخصياتٍ من هذه البيئةِ الطيبةِ سبقونا الى دنيا الخلودِ قصد دكتور جان تخليد َذِكراهُم في الزمن عَبرَ النصوصِ المطبوعةِ كي لا يصيبَها النسيان. اذ كما نعلَم، انّ ذاكرةَ الانسانِ عندما تُنَصُّ وتُدَوّنُ في كتبٍ تَحْفظُ ذكرياتٍ وشخصياتٍ خُلِّدَت لأنها فَعَلَت في المجتمعِ وجهِدَتْ في حياتها فكانتِ المثالَ الصالحَ الذي تُخلِّدهُ الكلمة ..وهذا الامر ينطبق أيضاً على المجالاتِ وتحولاتِها، كما على الأحداثِ وسردياتِها، التي يحبُ أديبُنا توثيقَها.

وإن عُدنا هنا للتعريف العلمي الدقيق، يمكننا القول بأن اسلوبَ السِيَرِ الحياتية، التي يحبُ أديبُنا كتابَتَها وتوثيقَها، في كتبه، تُعتبر من أهم المناهجِ النوعيةِ في الابحاثِ الاثنوغرافية، فهو يساعد على تصويرِ الظواهرِ الانسانية على انها ظواهرٌ متمثلةٌ ثقافياً وزمانياً في شكلِ بناءِ الهويةِ الفردية. فالسيرةُ الحياتيةُ تعكس في سيرورتِها، سيرورةَ التحولاتِ التي يمكنُ من خلالها رصد التاريخ، وكذا المقابلات والوثائق التي يجمعها لتدعيم سِيَرِه، فكلُها تقنياتٌ تساعدُ في رصدِ التاريخِ وتحولاتِه كما الدورُ الذي قامت به الحالةُ قيدَ الدرس.

المشاركون في الندوة حول كتاب “كما الإعصار” في جناج منتدى شاعر الكوة الخضراء عبدالله  شحاده الثقافي، من اليمين: رئيسة المنتدى الشاعرة ميراي شحاده، د. هاشم الأيوبي، د. مارلين حيدر، د. خالد البغدادي، د. جان توما

 

وبالعودةِ إلى “كما الاعصار”، نرى أن عددَ الشخصياتِ التي تحدّث جان عنها تعكِسُ من بينِ ما تعكسُ كثرةَ محبيه، ونُبلَ قلمِهِ الذي ركز من خلالِه على مضامينِ الخيرِ والجمال في السِيَر. فهو لمْ يَحفظ في ذاكرتِه للأشخاصِ، والامكنةِ والأزمنةِ التي وصّفَها الاّ جوهرَها الثَّمين.

ولقد استطاع أديبُنا بأسلوبِهِ أن يخلق نهجًا مميزًا لكتاباتِه السردية. فنجدُ ذواتِنا امامَ تعابيرَ بسيطةٍ باسلوبٍ سلسٍ، وجملٍ واضحةٍ، وسياقٍ جميلٍ، يرينا القسمَ الملآنَ منَ الكأسِ مما يعكسُ، دون شك، شخصيةَ الكاتبِ المُحب ِللآخَر ونظافةَ فكرِهِ فيرى الجمالَ الموجودَ في نفسِه كما يرى فيه القرّاء،ُ اضافة الى القلمِ الجميلِ، ذلك الأسلوب المعروف بالسهل الممتنع الذي يُمَكِنُكَ من الحصول على المعلومةِ والقراءةِ بسهولةٍ. فأديبناـ الاجتماعي المحبوب، استطاع ان يجذب اهتمام الناس بطريقة لافتةِ اذ هم يرونَ او يعتبرونَ انفسَهم وذواتَهم جزءا من المشهد ِالذي يرسمَه مهما اختلفت مستوياتهم الاجتماعية والمعرفية وهذا طبعاً هو الابداع.

لقد وفِقَ أديبنا في اختيارِ العناوينِ والكلمات التي وصَّفَ بها المَحاوِر والصوَر التي طالها وتحدث عنها، سواء كانت لوحةً او مشهديةً او شخصيةً. فأتت دلالاتُ عناوينِهِ حاملةً مؤشراتٍ عميقةً لخصالِ من يتكلمُ عنه، وأتتْ كتاباتُهُ لا لتلقيَ الضوءَ على أناسٍ احباءَ فحسبُ بل لتلقيَ الضوءَ أيضا على معالمٍ وأحداثٍ ومحطاتٍ بصورةٍ هادفةٍ تطالُ العديدَ من الابعاد الاجتماعية، والتاريخية، والحياتية، والثقافية بما فيها خصوصية العيش.

والحقيقةُ أنّهُ لا يمكنُكَ ان تتصفحَ هذا الكتابَ وتمرَّ مرورَ الكرامِ على ما وردَ فيه.. قد تظنُّ انه مجموعة مقالاتٍ عن أشخاصٍ مروا ومراحلَ وازمنةٍ عابرة، ولكنْ تتفاجأُ بأنكَ ما تكادُ تبدأُ القراءةَ حتى تتعلقَ بهِ وتشغلَكَ الصورُ والاحداثُ التاريخيةُ التي تعرفُ بعضَها وتجهلُ الكثيرَ منْها. فلا يمكن ان تقرأ مقالا او نصا، مهما صغر حجمَه، دون ان تشعر بخلجات قلبِكَ تدق وتتطاير. فهناك دائما مقطعٌ او اكثر يناجيك، ويلامس القلبَ والروح، وكأنه كُتِبَ من اجلك او باسمِك، فما ان تقرأه حتى تنشُطَ مخيلتُكَ وتنتعش ذاكرتُكَ فيتدغدغ شعورُك بالحنينِ وترتوي الذكرياتُ الجميلة.

وهنا احب أن اتشارك وإياكم مقاطع لامست روحي من كتاب “كما الاعصار”، مقاطع لها دلالات ومعاني مختلفة وطالت ابعادا متعددة اختصرتها بسبعة: في الصداقة والوفاء – في الامل ودورة الحياة – في المجال العام وتحولاته – في الحنين الدائم لحضن الام – في معاناة الوطن وجروحه – وفي الشخصيات المؤثرة في بيئتها ومحيطها.

 

في الصداقة والوفاء:

بعد خمس وخمسين سنة عاد أديبنا الى بلدة “رحبة” في عكار ليبحث عن “السيدة الجارة” كما يسميها، التي كانت تصطحبهم صغارًا “لقضاء ايام صيفيّة في قريتها العكاريّة”، لكن، مع الاسف لم يجدها، لقد رحلت منذ سنتين. لقد أخبروه “ان تلك التلّة، التي كانت جلول عنبها وتينها ملاعبنا في طفولتنا، قد تحوّلت الى ابنية وفيلات. استعدتُ بفرح بعض طفولتي، ولم أقوَ على زيارة المربع الريفيّ القديم الذي افترشت ليلا سطحه تحت دالية العنب، ولم أقوَ على مواجهة عمران تلّة الضهر.. التفتُ الى ما تبقّى من ساقية ماء امام الباب، رأيت الماضي ينحني ليشرب، فاخذتني الساقية الى ذلك النبع الذي تفجّر حياة وذكريات في البال والخاطر”.

في الامل ودورة الحياة:

وفي زواج آخر العناقيد، الذي “لم ينتظر آب، بل آبَ هو اليه، لأنّ شهرَ الحصادِ عندَ الابناءِ يأتي دائمًا سريعًا.. آخرُ العناقيدِ، نعم، لكن كَرمَنا ما جفّ وما هرِم، فالحفيد ماتيو جدّد شبابَنَا، ولوّن حبّاتِ عنبِ كرمِنا، وصارت عائلات اولادنا داليات بجذعٍ واحد باغصانِ عنبٍ وزيتونٍ وزيتٍ وبركاتٍ، نستظلُّها في شيخوخَتِنا، فنفرحُ بقمرِ السماء، ونستمتعُ بأواخر أيام شمسِ الغروب”.

في المجال العام وتحولاته:

اما درج بيت الولادة الذي عنونه اديبنا ب “سلم الولادة” “تعبر اليه من ساحة ملأى بتنكات الزهور والحبق، ومساكب النعناع المنتشرة في الزوايا وحول بركة ماء. كل البيوت البحرية قديما كنت تعبر اليها من هكذا ساحات اسقطها الباطون”.

في الحنين الدائم لحضن الام:

كيف يمكن الا نتوقف عند تلك الصورة التي تخاطب الام التي رحلت وما زال طيفها يحمينا ويلف بنا. ” خمس عشرة سنة وانتِ، كما انت، تسكنينَ القلبَ والعينين، تروحينَ وتجيئينَ في البيت.. واقفة انت، في كل حين، بلا دعوة ولا استئذان، تهتمين بتفاصيلي، تضطربين، تصلين وتفرحين. لا أسأل كيف تحضرين؟ أعرف انك هنا! وأن رتبة الغياب لا تقوم الا بطقوس الحضور الدائم، وانت، كما الذكرى، تجرين بلطف في النفس والروح”.

في معاناة الوطن وجروحه

لقد وثق زميلي الاحداث والمعاناة اليومية بلوحات واقعية مؤثرة، من انفجار المرفأ، مرورا بالازمة الصحية، وصولا الى تفاقم الازمة الاقتصادية وآثارها الكبيرة، في اكثر من صورة واكثر من مشهدية. فطل علينا، من رحم المعاناة،  باسم الوطن المجروح البائس مناديا: “تعبت يدي من خديّ. تلاشت احلامي في محطة انتظاري. انا الوطن النازف، فمن احشائي خرج شعبي الى الشوارع، ومن اضلعي كانت صرخة الموجوعين، وقد شقّت ابواب السماء، واخبرت المولى بما صنعه المفسدون في الارض”.

ولم ينس الشخصيات المؤثرة في بيئتها ومحيطها

لقد توجه لمن اغلق كتابه وخرج الى “فارسُ الكلمة الانيقة، وحارسُ الذاكرة وبواباتُ طرابلس العتيقة”  الى من قال فيه يوما :”نزيهٌ في مسالكه، كبارةٌ في كتاباته، ومضى باقيا على عهده”. طبعا علمتم من قصدت. نعم هو القانوني، التربوي، المؤرخ، الاديب، البلاغي، هو الدكتور نزيه كبارة الذي، والكلام للدكتور جان، “اشتغلَ بالكلمة كما يعملُ الفلاحُ في ارضه، والصائغُ في ذهبه، والعاشقُ في ضَفرِ خصائل شعرِ حبيبته. هكذا كان نزيه كبارة عاشقا لفيحائه، يقمّشُ في النقوشِ المتروكةِ على خشب ابوابِ البيوتِ العتيقةِ، وعلى منمنماتِ المشربيّات والشبابيك “المجروحة بالحبّ، المفتوحة ع الصدفة”..

ويختم صديقي فصول كتابه بتوثيق الزمن المعاش مع رحيل هذا الكبير فيكتب :”رحلَ نزيه كبارة في زمنِ الجرح والألم، يرسم بعينيه وجعَ المواطنين، يقرأ في كتبِ البائسين، وقد كثروا وخرجوا الى العراء، تعبَ نزيه من لملمة اوراقِ الإضباراتِ المتطايرة، ما عاد يذهبُ الى التصنيفِ، خربطتِ الاوضاعُ المُتعِبةُ حالَ الناس، بلبلتِ الاحوالُ أبجديّةَ الحياة، تلمّسَ نزيه حقيقتَها، دخلَ مكتبته، أغلقَ أوّلَ كتابٍ التقاه .. وخرج”.

أدامك صديقي وأدام قلمك وأدام شبابك في الابداع والعطاء.

وشكرا لاصغائكم.

***

*مداخلة في ندوة حول الكتاب في معرض الكتاب السنوي الثامن والاربعين 2022، الرابطة الثقافية طرابلس – قاعة المؤتمرات، الاثنين 13 حزيران 2022.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *