التنوير من الداخل

Views: 115

د. قصي الحسين

(أستاذ في الجامعة اللبنانية)

يقول الفيلسوف الألماني، متحدثا عن ماهية التنوير، ردا على سؤال صحيفة ألمانية العام 1784: “إن التنوير، هو تحمل الإنسان مسؤولية نفسه”. وهو في ذلك، يكون قد وصل إلى أعلى درجات النضج. وهذا المعنى لا يخطر ببال، من يتحدثون عن التنوير اليوم، بمعنى  أنه حركة التيار الضخم، الذي ذاع في أوروبا، إبان القرن الثامن عشر، وإمتد حتى مطلع القرن التاسع عشر، ولا تزال آثاره راسخة في الأذهان حتى اليوم. إن في صورة ما أفادنا به ديكارت أو سبينوزا ولايبنتز. والأهم، ما تعنيه الأنوار، أو ما يعنيه التنوير من داخل الإنسان، قبل أن يعم الكينونة الإجتماعية. فالتنوير بهذا المعنى، برهة النور في القلب. يشبه إلى حد ما قال به الإمام الغزالي:  هو”نور قذفه الله في صدري.”

إلى هذا الحد بلغ النور في قلب ميسا، حين قدمت سيرة حياتها، في كتابها: ” كان سرا- can سر.” تقديم  الإعلامي سامي كليب. تصوير ماهر العطار. تدقيق ليندا أبو مجاهد. بيروت2022. 136 ص. نشر خاص.”

 عرفت الكاتبة بروايتها، على الصفحة الأخيرة من الغلاف. ومما ذكرته:

 ” روايتي هذة ” كان سرا”…من تجربتي.لا لفزلكة لغوية أو لجذب القارئ، وإنما لأن السر الكامن في داخلي، فتح كل هذا الداخل لعدو جسدي، فدمر الكثير منه حتى كاد يصل إلى الروح.

… أدركت… أن الجسد هو مرآة لعقل وقلب وروح. وأن سلامته مرتبطة بعقل سليم وقلب نقي وروح آمنة… لن أكتفي بمخاطبة حبيبي الله. أريد أن أحكي. لأنني قد أبني في بوحي، جسرا لإمرأة أخرى،تعيش ما عاشت أمي، وما أعيشه…”

أتابع ها هنا مع الكاتبة ميسا، ما إبتدأته، حول مسألة المفاهيم الكبرى للحياة وللإنسان ولمسألة التنوير الداخلي، الذي أسس وأضاء شعلة الأنوار في عصر النهضة. فسار وراءه التيار العظيم، الذي عرف بتيار التنوير.

في عملها الذي بين يدينا: “كان سرا”، تجيب المؤلفة على مجموعة من الأسئلة دفعة واحدة. تجعلها كلها تقع في سؤال واحد: عمن يصدر النور. وعمن يقع عليه النور. بمعنى آخر: من يرسل النور؟. ومن يستقبل النور؟. كأنها من خلال هذين السؤالين، تجعل حركة النور كما عبر عنها الغزالي، ببن الله والإنسان. وهو شغف صوفي قديم ومتجدد. تشف عنه رواية الكاتبة ميسا، بكل مباشرة وتلقائية، وإن كانت تجعله يضيء، تحت غلالة الروح التي تظهر بوضوح في روايتها العذبة والمعذبة، ما كانت تعانيه من عذاب، معهذا العدو المستجد في حياتها وهو “الكانسر”. نستمع إليها تقول تحت عنوان “التمرد-ص٣٣”:

( لم أخف يوما من شيء. ولا رد عني شيء سوى أخلاقي وما شئته لحياتي. تخطيت حاجز الخوف باكرا. وقد تحملت صغيرة مسؤوليات الرجال والنساء في منزلنا.أو لأن موت أمي صغر في نظري كل أمر، وجعلني أكثر قدرة على مواجهة الحياة ومن فيها.)

تقود “تجربة ميسا” مع “الكانسر”، إلى مرحلة جديدة من حياتها. مختلفة كل الإختلاف عن مرحلة حياتها السابقة على إكتشاف الكانسر في جسدها. تصور لنا موقفها النوراني الذي تجلى لها في داخلها، في برهة الإنكسار. برهة الإنشطار. برهة التذرر. برهة الإضاءة النورانية، والقرار الجريء بالتصدي والمواجهة، بكل شجاعة وبكل بطولة، ودون أن تسمح للكانسر، أن يهوي بها إلى قيعان الظلمة. جعلت روايتها إذا، ترتقي بها: هي التي تقع بين حدين: “حد الظلمة وحد النور”. نستمع إليها تقول في” انا على قيد الحياة- ص٧٢”:

( إنتهت معركتي مع سرطان الثدي. إنتصرت على المرض…لقب ناجية ومحاربة، من الألقاب الجديدة التي منحتني إياها الحياة إضافة إلى لقب فتا او يتيمة وغيرها من الألقاب…ها أنا اعيش أياما تشبه الأحلام.).

 من ضخامة المتن الصوفي وقوته في زمن  أتى فيه، وقد إنحط الأدب،تجد جميع الكتابات في هذا الحقل،  وكأنها حدث ثقافي. ولا يشذ كتاب “كان سرا” عن ذلك، لما حواه، من الحديث عن الحب الذي يشف عن الذات الإلهية. وعن عيني المحبوب، وعن الجوارح المحجبة، وعن عين الذات، وعن لجام الصمت. وعن الإحتجاب عن الحجاب. وعما يشع بين الأضلع من نور. وعن الحياة مع الحتف. وكانها تنشد قول أبي حمزة الصوفي الخرساني:

“أراك وبي من هيبتي لك وحشة/ فتؤنسني باللطف منك وبالعطف./ وتحيي محبا أنت في الحب حتفه/ وذا  عجب كون الحياة مع الحتف.”

تخوض الروائية “ميسا”، في السياق الثقافي الروحي. تحاول جاهدة نفي “الأنا”، من خلال مخاطبة الله بندية، تتلبس فيها الربوبية بالناسوتية، كما فعل شعراء الصوفية. فتنفتح الأنا المتصوفة على أكثر من “أنا”. إنه نوع من العرفان الذي شاع في الأدب الصوفي، بعد

 إتصال الشعراء الفرس بالادب الصوفي العربي. إنه نوع من المعرفة القلبية، تتكشف للروائية “ميسا”، إزاء البرهان كمعرفة عقلية، يبرهن عليها العقلاني. و إزاء البيان كمعرفة. معرفة إنما تستند إلى إستقراء المتن الديني، كلاما وفقها وتذوقا ونفسا. نستمع إليها تقول في “إكتشافي لذلك العائد القاتل- ص ١٠٦”:

( كلما حاربني القدر، وضعت يدي على قلبي يرشدني إلى طريق المواجهة… تعلمت أن أصنع لنفسي أجنحة بيضاء..).

 الأستاذة ميسا، في روايتها “كان سر”،  إنما تصدر عن تجربة روحانية، نورانية. مازجت بين الروحانية والنورانية، فكان هذا الإبداع الأولي العفوي، الذي يصنع الأديب الواعد، في تجارب أخرى. إنها النورانية الروحانية في الداخل، التي تجعل العالم مضاءا بالروح المشعة بالنور الكاشف، وبالروحانية الكاشفة. إنها إذن، تجربة ميسا في روايتها “كان سرا- can سر”، الوجدانية المختلفة. يقول الإعلامي سامي كليب، في “مقدمته للكتاب ص١١”، وأنا أقول معه أيضا ما يجده:

( كيف إستطاع ذلك الوجه الملائكي، والقلب الصافي، أن يصارعا الوحش، أن يبكيا من ألمه، ثم يسخران منه؟. كيف نجح الجسد النحيل في أن يحمل كل هذة الأطنان من العذاب والألم والقلق والخوف، منذ فقد حنان الأم، وقبض عليه وحش السرطان بكل مخالبه؟).

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *