ماجدة الرّومي، في “جدّة”، تسقي الغناءَ جَمالاً

Views: 2488

 الدكتور جورج شبلي

عندما انتقَلتُ الى الفَوق، وأنا أستمعُ الى ماجدة الرّومي في حَفلِ ” جدّة “، مَرَّ في خاطري سؤال: هل هذه الماجدة هي بَشَرٌ تام ؟؟؟ لكنّ ماجدة جعلَتني أنسى السّؤال، قبلَ أن أظفرَ بالجواب…

في كلِّ مرةٍ تعتلي ماجدة الرّومي دنيا المَغنى، كما في حفلِ ” جدّة “، تنقلُ الأداءَ من عهدِ العاديِّ الى صَرحِ الأَسطَرَة، كما في الميثولوجيا، لتستحقَّ أن تَرقى الى القمّة، وهذهِ ليسَت في غربةٍ عنها، فلطالما أعطَتها القمّةُ يَمينَها، وحرصَت على أن تُنفِقَ، فيها، محصولَها، فأبرأَت، بذلك، ذمَّتَها من الدِّينِ والدّنيا.

وأنا أتمتَّعُ بالثّروةِ الصّوتية إطراباً، تيَقَّنتُ بأنّ شأنَ الغِناءِ مع ماجدة الرّومي ليس شأناً مع السَقّاءِ بِقَدرِ ما هو شأنٌ مع الإناء، فالبَراعةُ، فيهِ، نبيذٌ انتُقِيَ عِنَبُهُ، وإيوانٌ فُرِشَت بالمرمرِ أرضُه، وكلُّ أغنيةٍ من إبداعاتِها قطعةٌ من الجَمالِ تُجاوِزُ المكانَ والزمانَ لتنتميَ الى معرضٍ عابِرٍ للظَّرفيّة، في إنسانِ مُقلَتِهِ يُنسَلُ أهلُ النّعيم. 

ليسَ من شَكٍّ، في زمنِ إرهاقِ الأنغام، وعُهودِها السلطانيّة، أنّ ماجدة الرّومي فنٌّ واضحُ الرُّسوم، يُقصَدُ إليها، ويُتنافَسُ في تحبيرِ تأنُّقِها، ويَتغايرُ الكِبارُ على حُلولِها، وقدِ اشترتِ الموسيقى حصيرَها فوَزَنَت، فيهِ، أرطالاً، وحَسَرَ الفنُّ عن رأسِها فإذا قُطَعُ الذَّهَب، حتى مِنديلُها تَطريزُ نَغمات… ماجدة، في المَغنى، هي حِرزٌ نَهِمٌ يُستَدَلُّ به على لُقَمِ موائدِ البدائعِ ليُظفَرَ منها بالغنيمةِ المُثرِيَة، وهي قضيّةٌ، بعدُ، آهِلَةٌ، إنصافُها ليسَ عبادةً للنّارِ بل هو تَكريمٌ لذَوقِنا الجَماليّ، ولحلولِ الرّبيعِ في مسامِعِنا، والقلوب.

إنّ فَضلَ الموسيقى على تُراثِ الجماعةِ البشريّةِ أكبَرُ من أن يُقَدَّر، فلو ضاعَت أَلحانُها، ونُظُمُها، وترنيماتُها، لَفَقَدَ مجتمعُ الناسِ فرائدَ الفوائدِ، وضاعَت من ذاكرةِ الحضاراتِ ثروةٌ يُغتَرَفُ من دُرَرِها. وليس كثيراً الحُكمُ بأنّ تُراثَ المغنى الأصيل كادَ أن يُمحى، لو لم يظفَرْ بالحُفّاظِ الأُمَناءِ الذين يجبُ أن تُرفَعَ لهم آياتٌ في أَلواحِ المذهبِ التّطريبي، ومنهم ماجدة الرّومي التي تجرَّأَت على اقتحامِ ما لم يُستَكشَفْ من قبل، فرَمَقَتِ التّراثَ بنواظرِ الوِدّ، وأدرجَت أُصولَهُ في مواهبِها، وعَيَّشَت خِلالَهُ، وجدَّدَت أخبارَه، فأَمسَكَ رَمَقَهُ في الدّنيا، وبَرْهَنَ على أنّ البَعثَ ليسَ مستحيلاً.

لقد أكّدَت ماجدة الرّومي، في حفلِ ” جدّة “، كما في سائرِ طلّاتِها، على أنّ صَوتَها يجعلُ السُّمّاعَ يُقيمُونَ في عالَمِ الإرتياح، فأداؤُها البديعُ يَخطفُ ويُلهِب، ويوجِبُ سِحرَ التأثّر، لأنّ كَمَّهُ ليس ضجيجاً، فهو يفرضُ، بقدرتِهِ، وروعتِه، وعذوبتِهِ، وقفةً إدهاشيّةً تُطلَقُ من دونِ تَكَلُّفٍ أو تَصَنُّع، وكأنّ هذا الصّوتَ المُذهِلَ مقسومٌ له ألّا يَشهَدَ بَدرُ الجَمالِ فيهِ كُسوفاً.

في ” جدّة “، جعلَتنا ماجدة الرّومي، وبِسلطَنتِها الفيلهارمونيّة، نعترفُ بأنّ الغناءَ هو حِليةُ الفنّ، وليس صنفاً ضيِّقاً فيه. فعندما فَكَّ أداؤُها كيسَ المغنى عن خَتمِهِ، رشحَتِ الحلاوةُ، والرقّةُ، والسلاسةُ، والتأنّقُ، والطّلاقةُ، بِما استَنخَبَت ماجدة من أَنِيقِ الجواهرِ التي يوقَفُ منها على كلِّ خَفقة. وهذه، لا يُجيدُها سوى مَنْ كانت له، معها، إِلْفَة، لكنّ قِسطَ الكثيرينَ، فيها، مَنقوصُ الحُظوظ. إنّ ماجدة الرّومي تستخرجُ نجاحَها من ينابيعِ صَدرِها، فمع كلِّ نَبضَةٍ أَلفُ آه، من هنا، فإنّ شهرتَها  ليسَت صُدفة، فهي والجَيِّدُ من مزايا المغنى أُختانِ مُتحابَّتان، وصديقتانِ مُتَصافِيَتان، لذلك، بلغَت ساحلَ إعجابِ النّاسِ، وتقديرِهم، من دونِ عواصف.

إنّ صوتَ ماجدة الرّومي يُعلِنُ، في كلِّ وِقفةٍ لها، هزَّةً نوعيّةً تُعيدُ اليَقظَةَ الى وَعْيِنا، وبجرأة، بأنّ الكرامةَ الوطنيّةَ لا تُصانُ بالإستكانةِ، بل بسلوكيّاتِ المواجهة، أيّاً يَكُنْ نوعُها. فالوطنُ الذي ازدحمَ ضميرُهُ معها، هو غيرُ قابِلٍ للمساومة، وقَدَرُ رِجالِهِ في المواقِف، والإخلاصِ، لأنّ واجبَ الحُرِّ الثَّباتُ على الحقّ، والحقُّ قضيّة، والقضيّةُ لبنان. في نشيد ” يا بيروت “، ترجمَت ماجدة ما في نفسِها من وَفرٍ في الإباءِ، وعدَّةٍ لإيثارِ الحريّة، فأرسلَت سرايا عنفوانِها في مفاصلِ الحضورِ الذي لم يصطَبِرْ دَمعُهُ على التّصفيقِ بالأفئدَةِ لا بالأَكُفّ.    

ماجدة الرّومي، في ” جدّة “، كنتُ أَحسَبُ ” زِرياباً ” حاجِبَها، والإبداعيّةَ والصَّباحةَ وَصيفَتَيها. لقد أشعلَتِ النفوسَ والأذواقَ، بوَشيِ صوتِها الذي لم يَسبقْها إليهِ صائغ، والذي تغلغلَت رخامتُهُ في أعشارِ القلوب، ففرضَ متعةً لا شاكلَةَ لها، وسُدَّةَ نفوذٍ فنيّةً، لماجدة، لا يسمو الى اللّحاقِ بها كثيرٌ مِمَّن ذَوَّعَتِ الشّهرةُ أسماءَهم.  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *