قمر مشغرة 

Views: 416

سلمان زين الدين

 

*”النهار (الورقية) في 13 تموز 2022 

 

ذات لقاء ضمّني إلى الصديقين العزيزين، الشاعر الكبير #جورج شكور والأديب الأريب جورج طرابلسي، أطلق الأوّل على الثاني لقب “قمر مشغرة” في إشارة إلى تحدّره من تلك البلدة الجميلة التي تسند ظهرها إلى الجبل، ويشغر الماء منه ليجري داخل المحالّ والبيوت، ويُحيل إلى الآية القرآنية الجميلة عن الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار. وأطلقت عليه بدوري لقب “بدر وادي التيم” لتَحَدُّري من تلك المنطقة العزيزة، وللتلازم بين قمر مشغرة وبدر وادي التيم في الرائعة الفيروزية الجميلة. لم يكن الأمر مجرّد شطحة شعرية من تلك التي يتقنها الشعراء، ولا محض مبالغة مستحبّة من المبالغات التي يجنحون إليها. فجورج طرابلسي، صاحب الوجه الطليق والحضور الأنيق والكلام الرشيق، يُشِعُّ على من حوله أُنسًا ولطفًا وتهذيبًا، وهي مزايا يعرفها عارفوه وذوو القربى منه، ما يجعل الشطح مبرّرًا، والمبالغة مقبولة.

الناقد الأديب سلمان زين الدين ومُعِدّ كتاب “علّمتنا الحياة” جورج طرابلسي خلال تقديمهما نسخة من الكتاب إلى شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أحد أبرز المشاركين في الكتاب

 

المفارق أن جورج طرابلسي، على امتلاكه هذه المزايا التي تجعله جديرًا بالضوء والنجومية، يؤثر العمل في الظل، ويدفع بالآخرين إلى الضوء، حتى إذا ما تحقّقوا وارتقوا في معارج الإبداع، يكون هو قد تحقّق، انطلاقًا من إيمانه بوحدة الوجود وتكامل الموجودات. لعل هذا ما يفسّر تحويله صفحة “الأنوار” الثقافية، لعشرات السنوات، إلى منبر مفتوح لعشرات بل مئات الأشخاص ممّن أدركتهم حرفة الكتابة، على اختلاف مستوياتهم، تاركًا لغربال الزمن أن يميّز بين الزبد الذي يذهب جُفاءً وبين ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. يتوارى جورج طرابلسي خلف كتّابه، ويُطلق لهم عِنان التعبير عن أنفسهم، فيغنم كثيرون منهم الضوء والشهرة، ويعود كثيرون من الغنيمة بالإياب. وجورج طرابلسي هو هو، يؤثر الإقامة في الظل، لا يتغيّر ولا يتحوّل. وهو ما يفعله اليوم في موقع “ألف ـ لام” مع الأديبة الصديقة كلود أبو شقرا.

لم يقتصر الدور الذي يؤثره طرابلسي على الجريدة الورقية والموقع الالكتروني وحسب، بل يتعدّاهما إلى الكتاب؛ فيصدر كتابه التحفة “علّمتنا الحياة” (منشورات شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة الثقافي)، ويفتح صفحاته لـ 365 شخصية لبنانية، مختلفة المواقع والتجارب والأعمار، تقول كلٌّ منها ما علّمتها الحياة، في خلاصة مكثّفة. تتراوح، في الشكل، بين جملة واحدة، في الحدّ الأدنى، وصفحة واحدة، في الحدّ الأقصى. وتتراوح، في المضمون، بين درس واحد، في الحدّ الأدنى، وبضعة دروس، في الحدّ الأقصى. ويكتفي جورج بدور الفكرة والإعداد. يقيم في الظل كعادته، ويضع الآخرين تحت الضوء. إنه نكران للذات بات عملة نادرة في زمن التهافت على الضوء حتى ولو أدّى إلى الاحتراق.

كلود أبو شقرا وجورج طرابلسي  

 

في “علّمتنا الحياة”، نقع على مدرسة واحدة هي الحياة، ومئات الطلاب هم المشاركون في الكتاب، وآلاف الدروس المتناثرة على صفحاته. نحن إزاء مئات التجارب المختلفة في الطول والعمق، تعكس مجتمعة “اختبارات الوجدان اللبناني في عمق تفكّره أمام واقعه، انطلاقًا من ماضيه وتاليًا تطلّعاته نحو الآفاق الجديدة التي يمكن أن يحملها المستقبل”، في هذه اللحظة التاريخية، على حد تعبير الدكتورة ناتالي الخوري غريب في مقدمة الكتاب، ما يجعل قراءته محفوفة بالمتعة والفائدة، ولن يعود قارئه من الغنيمة بالإياب. على أن للقارئ مطلق الحرية في تحديد موضع القراءة وموضوعها، فيستطيع أن يقرأ الكتاب من أي صفحة يختار وفي أي توقيت يريد، ولا يمكن أن يخرج من هذه العملية خاوي الوفاض. بذلك، يقدّم طرابلسي وليمة فكرية متنوّعة، تحتشد فيها الطيّبات، وعلى الرَّحب والسَّعة. ويعلّمنا درسًا في التواضع والظل والخَفَر الجميل، في زمن يتهافت فيه الناس على الضوء حتى ولو احترقوا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *