شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده: إهدن القادوميات والدروب

Views: 256

 جان توما

انطلقُ من خمسةَ عشرَ يومًا قضاها عبدالله شحاده في الأسر، إذ كلَّ يومٍ كان يعدِلُ دهرًا، ذلك أنّ النفسَ، في شقاوةِ عيشِها وفي هناءتِه، هي مقياسُ الزمن!يقولُ عبدالله شحاده في الليلِ الأوّلِ من عام 1962 من قاووشِهِ [والقاووشُ كلمةٌ تركيةٌ معناها السجنُ الكبيرُ (ص37)]، هذا ليلٌ يسوّدُ بياضُ الجبالِ، ويشوّهُ معالمَ الأوديةِ، ويخفي جمالَ لبنانَ وراءَ حجابِ الظلامِ المدلهِم، ويجلبِبُ الطبيعةَ الزاهرةَ بِكَفَنِهِ الأسودِ الحالكِ، وهي تحلُمُ بالربيعِ الجميلِ” ( ص27). على أيِّ جمالِ بلدةٍ طبيعيٍّ يتكلّمُ ؟

ماذا يقصدُ بقولِهِ، وهو في عتمةِ الأسرِ:” منحدراتُ هذا الجبلِ الناسكِ”؟(ص27). من هذا النُسكِ، جاءهُ اليقينُ بالحقِّ، إذ من خلفِ وجعِ ظُلمِهِ، ” أطللتُ على الشمسِ والنوِر والحياةِ في ظلالِ الأرزِ الهاجعِ” (ص30)،. وبالتالي،  “كيف ضمَّ القاووشُ بين جدرانِهِ الناسكَ البتولَ، نَجِيَّ الكوخِ الأخضرِ(…) الذي غنّى لبنانَهُ الحبيبَ أجملَ قصائدِهِ (…) فَعَندَلَتْهَا مع البلابلِ أغاريدُ هزَّتْ الفجرَ والأيكَ والجداولَ، ورددتْهَا الضفافُ الغيارى ترانيمَ اختلاجاتٍ، نامَ المساءِ على أنغامِ أراجيحِها العائماتِ؟(ص40).

كأنَّ ملامحَ إهدن كانَتْ مِحبرتُهُ يومَ طَلِبَ مفرداتٍ لتصويرِ المنحنى المقابلِ من الحياةِ الجميلة. يبدو أنَّ إهدنَ ليسَتْ عندَهُ مجردَ ضبابٍ يتصاعدُ، ودروبٍ وقادومياتٍ، وسماءٍ على سماءٍ، بل هي أملٌ على أملٍ، ونورُ يقذِفُهُ اللهُ في الصدوِر لتحيا.

لقد وضعَ الشاعُر الجريحُ معجمًا للطبيعةِ خاصّا به. صحيحٌ أنّه رَسَمَ إهدنَ بالكلماتِ، وصحيحٌ أنَّ مفرداتِهِ ستجدُهَا في رؤى الشعراءِ، وفي كتاباتِ النثريين، وهذا ما نسميه في الأدبِ: التناصّ، وهو فتحُ الخِزانةِ اللغويّةِ أو الأدبيّةِ، وفقَ الذائقةِ الفنّيةِ، لسكبِ الصورِ الشعريّةِ في كلماتٍ ومفرداتٍ. عبدالله شحاده استلَّ مفرداتِهِ من المسرى الأدبيّ العام، ومن التراثِ المحلّي، ومن طبيعةِ إهدنَ التي لا تبخُلْ على زائريها باللوحاتِ الجماليّةِ التي نأمل أن لا يطغى عليها الباطونُ، وأن تبقى عزرالَ الشمالِ، وقصيدةَ لبنانَ وديوانَه.

هذا معجمُ عبدالله شحاده اللفظيُّ استلَّهُ من هذه البيئةِ الإهدنيّة : أزهاري، أشعاري، بوح أسراري، فرّد الأمل، قصائد الغزل، واشتاقت القُبل، زنابق الربى، ملعب الصبا،ـ والطيب والزهر، والكأس والوتر، والشعر والذِّكَر، والبلبل الشادي، في منحنى الوادي، روعة السنا، زينة الدّنى، قد طابت المنى، نيسان حيّاك، والرّوض ناجاك، يا طيب ريّاك، يا بنت أحلامي، يا زهو أيامي، تبسّم الخلود، وصفّق الوجود، وجُنَّتِ الورود. ( ص275- 276).

هذه المفرداتُ ليست في بلدة إهدن، ولا في طبيعتِها، إذ انتقلَ الشاعرُ من إهدنَ- الأرض، إلى إهدنَ التي رأى فيها البلداتِ والقرى والدساكرَ مختصرةً في محيّاها، وفي طلّتها، وفي “ملتقى ميراي”، ابنتِه. لقد أَنْسَنَ عبدالله شحاده إهدنَ، وجعلها كابنتِه وبيتِه ورفيقتِه ومستقبلِه الآتي. لقد راهنَ عبدالله شحاده على إهدنَ الوليدةِ، ابنتِه، التي بقيت في عينيه طفلةً، تلهو بقصائدِهِ وأقلامِهِ لتلِدَهُ من جديد، بعد مرورِ أكثرَ من 120 سنة على ولادتِهِ، منذ عام 1910، و22 سنة على وفاتِهِ، عام 1985. ميراي، هي هذه الإهدنُ التي نزَلَتْ عينيهِ وقلبِهِ وشراينيهِ. هو من قالَ فيها: الصبح ُإن بدا/ والطيرُ إن بدا/ والفجرُ والندى.

هذه مفرداتٌ تراثيّةٌ، بنى عليها شحاده رؤياه، وقد وردَتْ أيضّا في التراث، كما من ألحانِ الرحابنة وغناءِ فيروز في أغنية اذكريني: اذكريني كلّما الفجر بدا/ واذكري الأيامَ ليل السهر/ اذكريني كلّما الطير شدا / وحكى للغاب ضوء القمر/. كما وردَ النصُّ نفسه أيضًا في أغنيةٍ مصريّةٍ : والصبح ُبدا والطيرُ شدا: غناء عبد الغني السيد وكلمات إمام الصفطاوي، فلا عَجَبَ إنْ سمَّى نفسَهُ:  الطائرُ السجينُ ( ص55)، وركَّزَ على أنَّ  الفجرَ والأملَ توأمان ( ص56).

إهدن عندَهُ اكتملَتْ في “ملتقى ميراي”، تأكيدًا من كلَّ شاعرٍ أنَّ إهدنَ، أو الأرضَ، أو الوطنَ، هي الأم، الحبيبة، البنت، لذا كان عبدالله شحاده يتنقّلً في شعرِهِ بينَ زيتونِ الكورةِ وتفاحِ إهدنَ وثمارِهَا، لتنعمَ عائلَتَهُ بعطايا الأرضِ والطبيعةِ. هذه الطبيعةُ قال فيها الكتّابُ الكثيرَ، ومنهم أبو منصور الثعالبيّ في كتابه : ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، عن جمال ” تلك الْبِلَاد الشاميّة، وفيهَا عُيُونٌ عذبةٌ، وأشجارٌ كَثِيرَة ٌتشْتَملُ على كلِّ الثمراتِ، لَا سِيمَا التفاحِ اللبنانيِّ، فَإِنِّ اللبنانيَّ مِنْهُ، مَوْصُوفٌ بِحُسْنِ اللَّوْنِ، وَطيبِ الرَّائِحَةِ، ولذاذةِ الطّعْمِ ، يحمل مِنْهُ فى الْقرَابَاتِ إِلَى الْآفَاق، وَهَؤُلَاء الأبدال يتقوتونَ مِنْهَا(…) وَلَا يفترونَ آنَاءَ اللَّيْلِ، وأطرافَ النَّهَارِ عَن ذكرِ اللهِ وعبادتِهِ، وَلَا عَن اسْمِهِ، وَالْخلْوَةِ بمناجاتِهِ إِلَى أنْ يتنقلوا إِلَى جوارِهِ فطوبى لَهُم، وَحُسْنَ مآبْ”.

ألا نقرأُ هنا، ملامحَ تشبه ريفنا، وملامح إهدنَ السماء، ووداي قنوبين، وبساتينَ الرزقِ فيها. حَسْبُ عبدالله شحاده اليومَ أنّه ُلم يَعُدْ إلى إهدنَ – المكان، لأنّهُ لم يغادرْ إهدنْ- الزمان.

***

١-مداخلة في ندوة: إهدن في عيون عبدالله شحاده شاعر الكورة الخضراء: الجمعة الواقع فيه 29 تموز 2022-

ضمن فعاليات الأسبوع الثقافيّ الذي نظمته جمعية ” ريشة عطر” الثقافية، في إهدن- دير مار سركيس وباخوس

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *