الكرملين في مهب التغييرات القيادية (1)، من خروتشيف إلى غورباتشيف

Views: 153

 د. إيلي جرجي الياس

 

*الحلقة الخامسة من سلسلة  القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة:

 

بفضل دهائه المطلق، وثباته المدهش، ورصانته الصريحة، وقدراته السياسية الذكية، وخياراته الاستراتيجية المذهلة، أمّن الزعيم السوفياتيّ ليونيد بريجنيف، للاتّحاد السوفياتي، مرحلة مديدة من الاستقرار والتقدّم والإنتاجية، وهوامش واسعة من المناورة والتفوّق في القضايا الدولية والعالمية، إلّا أنّ ثمانينات القرن العشرين حوّلت الكرملين إلى حلبة صراع بين القادة، فبات في مهب التغييرات القيادية المتسارعة والخطيرة…

مسار معقّد على مستوى القيادة السوفياتية العليا، ثم القيادة الروسية العليا، تداخلت فيه عوامل سياسية وعسكرية واستخبارية، ممّا فاقم أزمة الحكم في الاتّحاد السوفياتي، خصوصاً بعد وفاة الزعيم الخبير بريجنيف!! “استطاع الزعيم السوفياتيّ ليونيد بريجنيف، الذي تولّى القيادة العليا في تشرين الأوّل 1964،  خلفاً للزعيم نيكيتا خروتشيف، أن يثبّت سلطته المطلقة والكاملة طوال فترة حكمه، مستعيناً بالاستخبارات السوفياتية العنيدة والعنيفة بقيادة الزعيم يوري أندروبوف، ولكنّ هيبة بريجنيف المتمثلة بقدرة سياسية جبّارة وقوّة استخبارية صارمة، حتّمت بعد فترة حكم طويلة نسبياً، صراعاً طويلاً على السلطة، بدأ في أيّام بريجنيف الأخيرة!! كانون الثاني 1982.

كان آندروبوف في سن ال68. ربما كان أنهى حياته المهنية على رأس الكا جي بي لولا أن القدر شاء أن يموت فجأة ميخائيل سوسلوف الرجل الثاني في النظام، قبل ليونيد بريجنيف الذي كان مريضاً وواهناً أيضاً.

قاتل بريجنيف المستضعف جسدياً عندئذ بشراسة من أجل ترقية تلميذه كونستانتان تشيرنانكو – بالرغم من افتقاره الواضح للجاذبية. فاصطدم بركني النظام أوستينوف (الجيش) وغروميكو (الشؤون الخارجية) اللذين يعرفان آندروبوف جيداً ويعتبرانه الأكثر قدرة على إنقاذ البلاد من الوضع الشاق الذي غرقت فيه بسبب الركود. بدأ مسار الخلافة جدياً.

أصبح يوري آندروبوف يشغل منصب الرجل الثاني إلى جانب الزعيم الأكبر الذي أعاقة المرض أكثر فأكثر. أثناء الإجتماع الأول للسكرتاريا المنعقد بغياب الزعيم الأكبر في تموز 1982، احتل المعلم السابق للكا جي بي من دون تردد مقعد رئيس الجلسة ودوره – من دون أن يجرؤ تشيرنانكو على الإعتراض. من الواضح أن اللعبة قد انتهت.

 

يوم الجمعة في 12 تشرين الثاني 1982، انتخب آندروبوف أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفياتي. إنّها مرحلة الإصلاحات الضرورية في المنظومة السوفياتية الشيوعية، وتفعيل الحركة الاقتصادية والمسيرة الإنتاجية، والكلّ ينادي بذلك، وسط صراع سلطويّ هائل وسريع، بعد فترة توازن سياسيّ وثبات استخباريّ أمّنها بريجنيف، فآندروبوف الذي أحسّ أنّه سيغادر الكرملين باكراّ، رغب بأن يتولى تلميذه المخلص ميخائيل غورباتشيف تطبيق أفكاره، ووراثته سياسياً وقيادياً، إلّا أنّ ظلّ تشيرنانكو، تلميذ بريجنيف الوفيّ، لا يزال حاضراً على مستوى القيادة العليا!! يوم الخميس 9 شباط 1984 الساعة 17، توفي آندروبوف بدوره، قبل أوانه.

صعق الذين آمنوا به أمثال ميخائيل غورباتشيف. نجح، في مساء اليوم نفسه، أنصار بريجنيف في البروليتبيرو بتسمية كونستانتان تشارنينكو نزولاً عند اقتراح رئيس الحكومة المسن نيكولاي تيخونوف لكي يترأس لجنة مراسم الجنازة. قضي الأمر. في اليوم التالي عيّن البوليتبيرو الموسع وبالإجماع تشيرنانكو خلفاً للمتوفى. لقد نسوا آندروبوف. توفي كونستانتان تشارنينكو يوم 10 آذار 1985، بعدما ساءت حالته الصحية كثيراً في الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر شباط 1985، بسبب التهاب الكبد المزمن وتأثيراته على القلب، وقد أطلّ زمن غورباتشيف: من وريث بريجنيف السياسيّ إلى وريث آندروبوف السياسيّ!! في 11 آذار 1985، انتخب ميخائيل غورباتشيف أميناً عاماً للجنة المركزية. متحملاً هذه المسؤولية الصعبة، تعهد السكرتير السابع بأن يعمل المستحيل لكي يخدم بإخلاص الحزب والشعب والقضية الكبرى التي ناضل لينين من أجلها. يُعزى إلى غورباتشيف إطلاقة مسارّ البريسترويكا – إعادة الهيكلة – أي برنامج الإصلاحات الاقتصادية الشامل، تحت غطاء الانفتاح والشفافية، ولكن ما أعاق تنفيذ هذا المسار غياب الخطط المستقبلية الواضحة، والرؤية الدقيقة للتطورات الاجتماعية، لقد أُطلقت البريسترويكا بعد أن أدركت الادارة أواخر عصر بريجنيف، أنّ السلطة في أزمة، غير أن ما قام به غورباتشيف طوال هذه السنين الخمس لم يؤدِ إلا إلى تعميق الأزمة.

سوف يلحظ المؤرخون، الذين سينكبون مستقبلاً على دراسة مرحلة غورباتشيف بعد أن يكون الزبد قد انحسر عن أعماق ما حدث، سوف يلحظون بصورة أفضل ما كان لغورباتشيف – دون وعي أو إرادة، على ما يبدو لي – من إسهام أساسي في الآلية التي دفعت بالنسق السوفياتي نحو الهاوية.

وعلى السؤال: لماذا التزم غورباتشيف بالبريسترويكا لا نجد إلا جواباً واحداً: تأجيل انهيار النظام السوفياتي إلى أبعد حد ممكن. مسار شاق ومعقّد من محاولة الإصلاح في خضمّ بحر هائل من التحديات والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية، في غياب حضور سياسيّ وتاريخيّ صلب، افتقد إليه الزعيم غورباتشيف، ولعلّ التشبيه الحذر والغامض للمستشار الألمانيّ هلموت كول بين شخصيتين متباعدتين زمنياً وسياسياً: ميخائيل غورباتشيف وجوزف غوبلز، فيه شيء من الصحّة والواقعية، فالاعتماد على الدعاية وتضخيم الأحداث، قد يخفي الوقائع المريرة، ولكن لفترة قليلة نسبياً من الزمن!!” من مقالتي العلمية: الحرب الباردة تمتدّ والمواجهات الاستخباريّة تشتدّ (1975-1990)، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 86، نيسان 2021، ص 130، 131.

***

* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *