يوسف إبراهيم الشويري… ظاهرة طبية رائدة

Views: 143

المحامي معوض رياض الحجل

إن دراسة السيرة الحياتية والمهنية لاي فرد مبدع تستوجب البحث المعمق والموضوعي عن أسرار نبوغهِ ونجاحهِ الباهر، والكشف عن كافةِ مواهبهِ الطبية، العلمية، الثقافية والاجتماعية، والغور في ظروف حياتهِ التي عاشها مكافحاً لخير أخيه الإنسان، والأثر البنّاء غير المسبوق الذي خلّفهُ في نفوس السواد الأعظم من أبناء زمانه. إن أبرز ما يجمع سيرة الكبار في مختلف المجالات العلمية، هو الجهد والاندفاع والنشاط الفكري الجبّار الذي قام بهِ صاحبها خلال مسيرته الاحترافية المديدة، والأثر الطيّب الذي تركهُ جراء دعمهِ ومؤازرته عموم الناس من دون تفرقة بينهم على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي أو أثني أو مناطقي. 

إن الإضاءة ولو بشكلٍ مقتضب وموضوعي على  مختلف جوانب حياة الدكتور اللبناني الألمعي يوسف إبراهيم الشويري، وإبراز محطات الإشعاع في مجالهِ الطبي، ودراساتهِ البحثية المتطورة في مجال السل الرئوي وسبل مداواته، منذ اكثر من مئة وخمسة وعشرين عاماً، إنما هي بادرة وطنية، أكاديمية وعلمية، تنطوي على فوائد تاريخية وتثقيفية، اجتماعية، طبية، نقدية وروحية لا تحصى.
ظاهرة طبية

كل الشكر والتقدير للدكتور جورج هارون، مؤلف كتاب «الدكتور يوسف الشويري ظاهرة طبية من بلادي» لنقلهِ بموضوعية، من خلال الوثائق، الشهادات، الشواهد، والحقائق، والأبحاث، القيمة العلمية لنتاج الطبيب الأنطلياسي النابغة، والدور الريادي الذي أضطلع بهِ طوال حياتهِ أي بين عامي 1874 – 1957، والتميز في عبقرتيه الطبية، وعمق تشخيصه، وأطروحته المشهورة حول داء السل، في بيروت في العام 1896.


ولد الدكتور يوسف الشويري عام 1874 في بلدة أنطلياس المتنية الساحلية العريقة، في عهد رستم باشا المتصرف الثالث على لبنان (1873-1883)، وقد قضى طفولته وفتوته حتى رحيلهِ في العام 1957 بين أشجار بساتين الليمون الذائعة الصيت، وفي السهل الذي عرف قديماً بسهل أنطلياس، الممتد آنذاك من نهر الكلب وصولاً إلى نهر بيروت باحثاً بين أحضان الطبيعة الخضراء عن علاج أو دواء لمختلف العلل المستعصية.

تأهل من السيدة جوليا ابنة الشيخ عبس بليبل، فرزقوا بخمسة أولاد، المحامي الراحل روبير والمرحوم الأستاذ إبراهيم أحد رؤساء مجلس الخدمة المدنية الذي تأسس في عهد الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب، وثلاث بنات، كلوتيد ولودي ولطيفة. 

عاش الدكتور الشويري حياته الاجتماعية مربياً أبناءه وبناتهُ على عقيدة الايمان والرجاء والتواضع، مواظباً على حضور القداديس أيام الآحاد والأعياد، مُمارساً الشعائر الدينية في كنيسة مار الياس أنطلياس للرهبنة الأنطونية. 

تنقلات الدكتور يوسف الشويري الدورية لزيارة وتفقد مرضاه ومداواتهم كانت تتم إما باستخدامه عربة برأسين من الخيل أو ممتطياً حصانه. 

كل شيء في يوميات الدكتور يوسف الشويري كان مدروسًا بدقةٍ متناهية. تناول وجبات الأكل في أوقات محددة، ونومهِ بصورةٍ نظامية، وكذلك نهوضهِ باكراً لممارسة مهنة الطب ولمعالجة مرضاه. 

 

ارث علمي وثقافي كبير

على الصعيد المهني، فقد حَملَ في ذهنهِ وقلبهِ لواء ارث علمي وثقافي كبير لأسرة لبنانية متأصلة عشقت مهنة الطب، والثقافة المنوعة من خلال قراءة عميقة لأبحاث ابن سينا، ابن بطلان، ابن الكتبي البغدادي، وابن البيطار. وقد طالما دُعي جده الطبيب يوسف الشويري إلى معالجة الولاة، والوزراء، والصدر الأعظم، الذي منحهُ لقب الأفندية بعد إنقاذ حياتهِ من مرض خطير.
تخرّجَ الدكتور الشويري، من معهد الحكمة في بيروت، ومن كلية الطب الفرنسية، بإدارة الاباء اليسوعيين، وبإشراف أبرز الدكاترة أمثال بنوا بويّه، هيبوليت دوبران، اتيان فلافار، هنري نيغر، موريس هاش. 

نالَ الدكتور الشويري عام 1897، دبلوم الدولة الفرنسية في الطب، ودكتوراه، وعيّن نظراً لنباغتهِ وهمته طبيباً لقضاء المتن، متقدماً على 43 طبيباً آخرين على امتداد قضاء المتن كله. وأستمرَ بكل عزم واندفاع، وبالرغم من كل الويلات والأوبئة والجوع، في ممارسة رسالتهِ الإنسانية كطبيب القضاء أثناء الحرب الكبرى (1914 – 1918). (Xanax Online)
عالج الدكتور الشويري بكل براعة مختلف حالات انهيار الأعصاب والاكتئاب من خلال استخدامهِ نبتة لبنانية اسمها حشيشة مار يوحنا (St. John Wort)، وقاوم الارق بحشيشة الهر (Valeriane) وزهرة الآلام  (Passiflore)، يخلطهما ليطرد بقطراتهما الارهاب. 

كافح الدكتور الشويري خلال الحرب الكبرى الأمراض الخطرة والمعدية، كالجدري، الطاعون، التيفوس، السل والكوليرا، واستحصل من مختلف الدول الأوروبية على الأمصال اللازمة لمعالجة المرضى ولم يكن يتقاضى أي بدل أتعاب من الفقراء والمعدومين، وأمّن للكثيرين منهم الدواء والمداواة من دون مقابل. ويُروى أن أحد أمراء آل أبي اللمع، أتاه مع نجلهِ الوحيد، المصاب بمرض الخانوق، وطلب منهُ أن يداوي ولده مقابل منحهِ نصف البستان الذي يملكه.  داواه ضد مرض الخانوق، ونجح في إعادة العافية التامة اليه. ففرح الأمير اللمعي، وعاد مبدياً أمنيته الصادقة في تنفيذ وعده، وتسجيل الأرض… فقبل الشويري ثمن اللقاح وأتعاب المعاينة، قائلا لهُ: «إن ابنك أحق مني بها». 

ومن أبرز شعاراتهِ: «اصنع الخير بلا مقابل»، «يجب أن نشهد للحقيقة على الدوام»، «أهم ما في الحياة الاستقامة»، «ما تقوله نفذه ليحترمك الغير»، «الصيت الحسن خير من المال المجموع».

 

كان الدكتور الشويري سباقاً بين أبناء جيلهِ وزملائهِ في مهنة الطب، حيث عرض بإسهاب توصياته للتغلب على مرض السل وأسبابه ونتائجه وقد شملت أطروحته «مساهمة في دراسة السل الرئوي في بيروت»، 1896، وعنوانها بالفرنسية، أصلا: «Contribution a l’etude de la tuberculose pulmonaire a Beyrouth»: العديد من النصائح الطبية والصحية أبرزها:
– الحذر من الرطوبة.
– تحاشي التواجد في الأمكنة الضيقة المغلقة.
– تأمين كل شروط النظافة، داخل المنازل، وخارجها.
– منع اكل اللحوم النيئة.

–  عدم إرهاق النفس والجسد بالهموم.
– عدم الأفراط في تناول المسكرات.
– عدم الإسراف في السهر.
– الحرص على تغذية كافية دائمة.

–  البعد عن التدخين.
– تحاشي الصدمات المصيرية الناتجة من عامل اقتصادي، أو عائلي، أو غيره…

وبدت غايته صريحة: نظافة الأنسان، من خلال حماية البيئة، والحياة. وكان سباقاً حين عرض توصياته للتغلب على السل وأسبابه ونتائجه، وحين تجسدت في شخصيته ملامح شخصيات عديدة، فهو الأب، والمعلم، والإداري، والطبيب، والوطني، والصديق، والنظيف الكف، والعفيف، والباحث الأكاديمي، والمغامر الإنساني الذي يؤنس المرضى، ويرافقهم، ويحوطهم بمناخ الفرح، والأمان، ولو في لحظات الألم واليأس.

إلى جانب تفرغهِ لإجراء دراسة ميدانية شاملة في أسباب انتشار مرض السل الخطير في أرجاء المنازل والأسواق والمدارس والمسارح…، وبالإضافة إلى توصياتهِ وإرشاداته في السبل السليمة للوقاية العامة والخاصة لكبح انتشار هذا الوباء الخطير في حينهِ، قام الدكتور الشويري بالتأكد شخصياً ومراقبة مختلف العوارض والأوجاع التي يصاب بها الأشخاص المصابين بهذا الوباء. وقد تنقل من دون تعب أو ملل أو كلل إلى عيادات مستشفى كلية الطب الفرنسية ليعاين عن كثب ويدرس بنفسهِ ويُشخص بعمق أوضاع المرضى الذين يعالجون من قبل أساتذته، مشاركاً في عمليات التشخيص والمراقبة والمعالجة. 

بالإضافة إلى نشاطهِ الطبي المميز، أهتم الدكتور الشويري، في ظل الانتداب الفرنسي على لبنان، بخدمة أبناء بلدة أنطلياس والنقاش من الناحية الإنمائية والاجتماعية حيث ساهم في إدارة الشأن البلدي كرئيساً للبلدية تارة وعضوا تارة أخرى وذلك منذ تأسيس أول مجلس بلدي في أنطلياس العام 1925 برئاسة المرحوم خليل فرح طعمه.

تقاعد الدكتور الشويري عن ممارسة مهنة الطب ابتداء من منتصف أربعينات القرن الماضي لحين رحيلهِ العام 1957 عن عمر يقارب الــ 83 عاماً تاركاً أرثاً ثقافياً وعلمياً وأنسانياً لا نظير لهُ يتباهى بهِ اللبنانيون عموماً وأبناء بلدة أنطلياس والنقاش خصوصاً.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *