الكرملين في مهب التغييرات القيادية (2) من غورباتشيف إلى بوتين

Views: 148

د. إيلي جرجي الياس

 

*الحلقة السادسة من سلسلة القيادات الروسيّة والسوفياتيّة ١٩٠٠-٢٠٢٢، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة: 

 

على وقع التغييرات القيادية المتسارعة خلال ثمانينات القرن العشرين، ومجموعة من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية: المترابطة والمتواصلة، سينهار الاتّحاد السوفياتي، وسينشأ الاتّحاد الروسيّ، مع مجموعة من الجمهوريات الجديدة… ولن يكون من السهل تحديد وتصويب العلاقات السياسية والديبلوماسية، بين روسيا وهذه الجمهوريات، أو بين هذه الجمهوريات فيما بينها…

لن يستطيع الزعيم السوفياتيّ الأخير ميخائيل غورباتشيف كبح الأزمات الخطيرة وتطبيق الإصلاحات المطلوبة، ولن يتمكّن الرئيس الروسيّ الأوّل بوريس يالتسن من إعادة روسيا إلى مسار المجد والازدهار، ولن تستكين الأمور إلّا مع القائد الجريء الآتي من عالم الاستخبارات، فلاديمير بوتين!! “وتستمرّ مسيرة الخلافات القيادية طويلاً، فغورباتشيف نفسه لن يكون بمعزل عن محاولة انقلاب غامضة واستثنائية، عكست أزمة القيادة لدى غورباتشيف بين الإبقاء على السيطرة السوفياتية المطلقة من جهّة وتجسيد الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية من جهّة أخرى، عاد غورباتشيف إلى موسكو في طائرة الرئيس الروسي. وتمت إدانة كل من كريوتشكوف ولوكيانوف وإيازوف وشركائهم.

 يالتسن المنتصر الكبير في انتفاضة التاريخ المدهشة هذه حظّر بقسوة وجود الحزب الشيوعي على الأراضي الروسية. وحصلت جمهوريات البلطيق وأوكرانيا وكزاخستان على استقلالها. وبعد فترة قصيرة، استقال غورباتشيف واختفى الإتحاد السوفياتي. هل كان هذا الإختفاء سيحصل بهذه السرعة لو لم تدبر حفنة من الحزبيين المحدودين في 19 آب 1991 الإنقلاب الأسخف في التاريخ الحديث؟ وحتى يالتسن لن ينقذ نفسه من تداعيات المرض والحراك المعارض، بعد سلسلة شاقّة من المشاكل الصحية للرئيس والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة والحادّة على مستوى الدولة والاتحاد، إلّا بفضل توجّه ذكيّ، وذلك بالاعتماد على وفاء وإقدام القائد الروسيّ السياسيّ الجريء فلاديمير بوتين في تأمين استمرارية السلطة!!

 

 في 9 آب 1999، راهن بوريس يالتسن بكل ما لديه. فعيّن رئيس وزراء جديداً مكلفاً بتجنب الكارثة في الإنتخابات التشريعية، في نهاية السنة. لم يخف الرئيس في مداخلة تلفزيونية أنه اختار تلميذه الجديد بسبب مؤهلاته ليخلفه في الإنتخابات الرئاسية المقبلة…. هذا الرجل إسمه فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، هو رابع رئيس حكومة معيّن خلال 17 شهراً. 

شهد التاريخ تسارعاً صاعقاً. اليوم الأول الرمزي من كانون الثاني 2000، تم تعيين بوتين رئيساً بالوكالة لروسيا، وكأنه يدشن بمفرده الألفية القادمة. كانت هذه ضربة معلّم من قبل بوريس يالتسن. كان المعلقون والمحللون جازمين: إن بوتين يجسد الأمل بإخراج البلاد من الركود الذي تغرق فيه منذ عشر سنوات، لأنه شاب وكفؤ وجدي ونزيه ووطني: وأمامه كل الفرص للفوز بالإنتخابات التي حددت في 26 آذار. وبما أن حزبه حصل على الأكثرية في الدوما، كان يستعد لحكم روسيا إذ يملك حقاً كل السلطات، ولوقت طويل. 

إنقلاب في الوضع من الصعب تصديقه. كانت إلتفاتة مذهلة من القدر. الزعيم الصغير لشارع باسكوف أصبح من دون جهد أول قيصر في القرن الواحد والعشرين. فمن البديهي أن ينص أول قرار رئاسي يتخذه على تأمين الحصانة للرجل الذي رفعه إلى هذا العرش. وهكذا عود إلى بدء، تصبح روسيا تحت قيادة سياسية ثابتة وقوية وعنيدة، تتمثّل بالرئيس فلاديمير بوتين، كما كان ليونيد بريجنيف على رأس الاتحاد السوفياتي، وبين القائدين الكثير من القواسم المشتركة!! لقد أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أسرار ومفاتيح اللعبة الرئاسية، بعد مراقبة طويلة لمجرى الأحداث على مستوى القيادتين السوفياتية والروسية، فتمتّع بقوّة وحضور جوزف ستالين، وحنكة ليونيد بريجنيف، ودهاء يوري آندروبوف، ورغبة ميخائيل غورباتشيف بالإصلاح الشامل في الدولة، ودماثة خلق بوريس يالتسن….

 

يكن هذا الأمر سهلاً أبداً، وهذا سرّ نجاح فلاديمير بوتين!! إلّا أنّ الأعوام الأخيرة من التجربة السوفياتية، في ثمانينات القرن العشرين تحديداً، خصوصاً على ضوء مرض ليونيد بريجنيف، والتغييرات المتسارعة في النخبة الرئاسية والقيادية السوفياتية، جعلت الحرب الباردة بين الجبّارين الأميركي والسوفياتي تستعر، قبل نهاية هذه الحرب الباردة مع سقوط المنظومة السوفياتية بشكل كامل لاحقاً، ومن ثمّ لتعود هذه الحرب مرّةً أخرى، ولكن بصيغة متجددة مع مطلع الألفية الثالثة، في الصراع الروسيّ – الأميركيّ الذي استعاد وهجه، على ما عرف بالحرب الباردة الثانية!!” من مقالتي العلمية: الحرب الباردة تمتدّ والمواجهات الاستخباريّة تشتدّ (1975-1990)، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 86، نيسان 2021، ص 131، 132.

***

* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *