عازف المشاهد

Views: 293

د. قصي الحسين

 (أستاذ في الجامعة اللبنانية)

 

 الأضواء الكاشفة ل “عقل العويط”، التي كانت تشع له، على بدن البلاد الشاسع. على بدن الوطن المقهور، المعذب المدمى كصليب من لحم، هي التي هيأت له الرؤيا. رؤيا “البلاد”، -معلقة العصر- التي تسقط كل الصور الرسمية، وتعلق مكانها، جدارية، من تيجان  مصنوعة من الأشواك، ومن عيدان أقفاص الحساسين، ومن مسامير “أعظم وطن معذب على الأرض”.

” أهو حبر لا يندلق لا يصير كتابا؟/ كلعنة نحو من يضرج الحبر من يضرج لبنان./ ثم الحبر لا يندلق لا يستفيق لا يبصر الكتاب، واللعنة لا تستجاب. أجبال في الليل أجبال في بيت لبنان لا تهتدي بأقدارها لا تهتدي بلبنان؟/ هذة ليست بلادي. هذة ليست البلاد.”

 يأخذنا عقل العويط -شاعرا- إلى الجذور البعيدة المتشبثة بالتراب و بالصخر على صدرها. يأخذنا إلى الضوء في قعر المغارة. يأخذنا إلى اللغة العنيدة، التي تقاوم المقصلة. ليعبر عن مسيرة وطن مفجوع في “برهة أمونيوم” ثقيلة. ثقل “البرهة النووية”.

” صوت لبنان سمع في  العلية في بيروت في رامة لبنان نوح وبكاء وعويل كثير على قول أرميا. بلاد تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم غير موجودين.”

لغة تستدعي شريطا مضيئا من الذكريات، التي درست البلاد، دون أن تتخلى عن النظر إلى المستقبل ودرب الأحلام، التي لا يزال “عقل” يراهن عليها. لا يزال يقول: إن بوسعها أن تتحقق، مهما كان الزمن رديئا. مهما كان البحر عاتيا. مهما كانت العواصف، لها قدرة إقتلاع الشجرة والشراع.

“ليس لك أهل ولا حد ليس لك ليل ليس لك نهار وألوذ بك لأنك ملاذ العقل. لأنك مولاي تغني عن كل مولى وأنزفك لئلا أكتمل لئلا أختنقك بفيض، أعي معناك مثلما الرشد يظل يعي وظيفة الجوهر لزوم تعميم المعنى.”

 يسلم “عقل العويط” نفسه في “البلاد”، لشريط الذكريات. لجريانه القوي الدافق كنبع ينبح في الأعماق. ك”أفقا” يلد نهرا إبراهيميا، ويلد “إسماعيل الذبيح” في آن.

“أكتب أكتب:  هذا ملاك يعرف بجناحيه ترنيمة التمرد في الجبال . هذا ملاك يحلق بجناحيه يحلق بالموسقى من أجل أن تكون السماء أقل جحودا بموسيقى البلاد. كيف لجنازة أن تقام ولا موسيقى؟ كيف لأكف لسواعد أن ترفع تابوتا يشهق بصاحبه بمقبرته في البلاد؟.”

يقوم عقل العويط، في جداريته، في معلقته، “البلاد”، بقفزة جنونية في العتمة المهلكة. وداخل عالم من “الليولوليد”، في بلاد أخرى. لكن ذكرياته الدافقة، كأنهار هذا “اللبنان”، هي الأكثر حميمية. هي الأكثر قهرا ودفئا وإشراقا وموتا. لأنه يتبع كيمياء مسحورة بينه وبين معذبته، الكيمياء. دون أن تخذله تلك “الكيمياء” البتة.

” شجرة مجروحة كيف أداوي ثمارها/ إذا تساقطت من شجرة البلاد؟/ وظلالها،/ إذا تلتزم منطق الظلال،/ أيجوز أن أتغاضى أن أسلم بأنها دفينة الظلال؟/ ماذا يرتجى من شاعر إذا تغاضى إذا سلم؟/ ومن عصفور في قفص البلاد ماذا يرتجى/ سوى أن ينحر قضبان القفص بمنقاره بجناحيه/ وسوى أن ينتحر من أجل أن يخلص البلاد من قفص البلاد؟”

قصيدة “البلاد”، هذة المعلقة الطهرانية، هذة الجدارية التي تمحو في جدار البهو الرسمي،  أي بهو رسمي، كل الصور التي علقت عليه زورا، إنما هي تختصر كل هذا الشغف التاريخي، بينه وبين البلاد الممدة كقتيل. والتي إحدودب منها الظهر، حتى إرتفع مثل قوس النصر. سيجعل “عقل العويط” منها، تميمة للداخلين والخارجين معا، من بوابة التاريخ. يمحوهم بها.

 “حيث يهبون من ينابيع الدموع من المقابر من التوابيت المقفرة بثيابهم الأنيقة/ لمعرفة ما طرأ على الزمان والمكان في غياباتهم القسرية/ والشهود السريون العلنيون/ والورقة الرابحة.”

لا يتوقف الزمن في “ديوان البلاد” لعقل العويط، ، لأنه في مسيرة شاقة. يتحسس الظلم الوحيد في قدر لبنان. قدره: هو أنه يقضي نصف حياته، يأسف على النصف الآخر. يتابع قصصه كثرثرة النهر، يرويها، لأنه لا بد أن يرويه “نهر عقل”. يعرج على الجوانب الإنسانية، وعلى الأوجاع التاريخية واليومية، كأن لا فرق بين النقوش على بدنه، وبين النقوش على بدن جميع صخور لبنان. على بدن جميع صخور نهر الكلب.

” هكذا قال مولاي العقل لبنان عرشي بيروت مسكني./ دود الأعداء لا يموت ونارهم لا./ هكذا قال مولاي العقل لن أبادلك يا لبنان بكرسي رئاسة في بعبدا في واشنطن في باريس في بيجينغ في موسكو. ولا بحلف مع إيران، ولا بآخر مع سوريا، ولا بثالث مع الخليج، ولا برابع مع إسرائيل، ولا بخامس مع الغرب، ولا بسادس مع الشرق، ولا بسابع مع بنوك العالم، ولا بثامن مع نساء الأرض الفاتنات، ولا بتاسع مع المطهر القديم، مع جهنم القديمة، ولا بعاشر مع السماء.”

لا يكترث عقل العويط، إذا ما كانت قصيدة البلاد، تثير كل تلك العاصفة في الكوكب، من الغبار الأرضي، والغبار الرسمي، والغبار السياسي، والغبار الشعري. فهو قد إعتاد الولادات اليومية من رحم غبار اللغة، التي ضربت أوتاد خيمة الشعر، وهزت أطنابها ذات زلزال قوي، هز جذور الكيان. ضرب جذوعه. أتلف ثماره. رماها، عفنة قبل النضوج، للسوس والديدان.

“إلى الرغيف مغموسا بالضحكة/ باللبنة البلدية ويقظة اللذة/ بالزيت والزيتون بالصعتر/ وحيث/ عصفور لا بد أن يدعوه نداء الغصن/ خفقات الجناح.”

أحيانا كثيرة، ترى عقل العويط، يضوئ على المفاجأة. يتصفح البلاد ككتاب، جمع حروفه من جبل جرفه النهر عنوة إلى الصحراء لينعشها. وما أدرك طريقه إلى طبيعته. إلى البحر. حتى اليوم.

” هل من يميتني من أجل أن أنضم إلى موت البلاد؟/ هل من يحييني من أجل أن أوهم نفسي بإحياء البلاد؟./ وهل/ هل من يحررني من حب البلاد إياها؟”

 صور فوتوغرافية كثيرة لعالم مجنون، يستعيدها عقل العويط إلى حقل الذكريات. يتناوب عليها. يجسها “كآس يجس عليلا”. يتذكر الحوادث الشاكية. يتذكر الحوادث الباكية. ثم يقول في نفسه، حين يمضغ الهجاء، حروفه، من وجبة كريهة المذاق:  كيف يتسنى للمرء أن يأكل هذة النفاية، وينسى أمه في اللحظة القاسية.

“وعلى قول أشعيا سيشمت السرو سينكسر قضيب المتسلطين، ستنكسر عصا المنافقين وأرز لبنان بالجحيم سيشمت.”

لغة عقل العويط، التي يقلبها على النار دوما، حتى تلذع ألسنة قرائه، تتفوق على الأبجدية التي قتلتها عفونتها، وعفونة التاريخ حين قتلتها. ولهذا يريد لنا أن نكون سعداء، حين يكتب لنا. حين يحملنا، على “قلب ظهر المجن” لكل الراسيات مثل الصخور على صدرنا. حين يعيدنا إلى الديار. إلى البلاد، فيقول على لسانها، قولا جديدا. أشياء كثيرة جدا، لا تستطيع أن تقولها الأبجدية الميتة.

“في زمن اللامعقول/ في هذا الليل/ لن أجد نديما يساهر/ كما طعاما يتقاسمني مع الثعالب/ مع القمر/ مع النجوم/ مع الفقراء/ لن أجد موضعا أو جمرة/ لن أجد حطبا أتدثر به/ وقتا ينتظرني/ وغدا لن أعثر على صباح/ على نهار/ ولا على فرن/ على فتات الخبز للعصافير/ وغدا/ لن أجد سببا لإنتظار الغد/ لإنتظار الليل/ وغدا لن أضطر للإنضمام إليك/ لأعيشك/ أيتها البلاد.”

 عقل العويط، يطيح البلاد ب”البلاد”، ولو من داخل زنزانة اللغة السجينة، منذ الدهر العتيق. يريد أن يحمل إلينا “بهجته”، وهو يزرع “البلاد” ببذور لغة معقمة، لا يخالطها العفن. وتراه يصيح علينا: أنا في السجن. بهجتي فارغة. وحزني يومي آلي، لأنني أقاوم شبك زنزانتي المعدني.

” أنا موطنك مقبرتك/ أنت في رأسي/ أنا أقيم.”

 في متحف عقل العويط، باللغتين: العربية والفرنسية،سنقف طويلا، أمام البلاد. نردد مع محمود درويش الذي قضى إنتحابا وإنتحار أمام أبوابها: “تلك صورتها! وهذا إنتحار العاشق”.

” كنسيم ترقصين/ عندما يعبر خاطر صنوبرة /حنجرة عصفور.”

 قصيدة “البلاد” لعقل العويط، برهة إكتشاف المسحور في بدن لبنان. في بدن الشاعر. في بدن القارئ. في أبداننا جميعا.

” الحبر كلمات. الحبر يصير  يتضرج كلمات قصائد وكلمات.”

صفاء الروح، والثقة بالنفس، تغذيان الجمال الساكن في القصيدة المتمورة.

“جميعهم فساق جماعة غادرين. جعلوا بيت لبنان رجما جعلوا المدن بلاقع. لا ترفعوا الرايات البيض. لا تطلبوا من شمس أن تغادر. لا تحلوا الحكومة الموقتة. لا تتراجعوا عن القصور عن السرايات. لا تفتحوا سبيلا للتفاوض. لا تعفوا عن اللصوص.”

 نواة من الشعر الصلد. من الشعر الصرف. من الشعر الصعب. من الشعر الصلب، هي مكون قصيدة البلاد لعقل العويط. لثمرة هذة الفاكهة الحروفية. لثمرة هذا التشكيل الحروفي الفني، التي ينبغي لها، أن تحافظ على سرها، كثمرة ناضرة. ناظرة. وأن تبقى سرا على جدار البهو السياسي الرسمي  تمحوه عارا يلازمنا،  وتظل تتجلى.

الشعراء الشعراء/ يا عبء الهجس يا عبء الحميا/ حين سرقة الحكمة من مخطوطاتهم/ من الأفئدة/ حين الهجوم على الحكمة/ بعنف القوة العارية/ لا بالغفلة/ لتخريب مسعاك بغية الحياة والحرية.”

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *