“سرفيسين ع الكولا”  (قصص قصيرة من بيروت) جديد حسين صولي عن دار نلسن

Views: 870

صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “سرفيسين ع الكولا ” (قصص قصيرة من بيروت)  للكاتب حسين صولي. في ما يلي المقدمة ومختارات من الكتاب. 

 

المقدمة

سرفيسين ع الكولا

من المتعارف عليه ان العديد من أسماء المناطق والشوارع في مدينة بيروت، يعود ارتباطها بشخص، أو حدث، أو صرح، أو معلم أو ما شابه، وهي عديدة، أغلبها واضح الدلالة في سبب التسمية.

يتداولها الناس وتصبح كالعرف، قمة صيغة ثابتة حتى لو انتفى وجودها ولم تعد قائمة. مثل رأس النبع بئر حسن، الخندق الغميق، أبو طالب، صاحب دكان السمانة في آخر شارع الحمراء الذي أكتسب شهرة وأصبح عنوانًا للدلالة حتى بعد رحيله وتقاسم الورثة العقار وإزالة المبنى. لا يزال الاسم متداولًا ومستعملًا خاصةً في النقليات العمومية، مجرد ان توقف سيارة اجرة سرفيس وتخبر السائق (حمرا على أبو طالب) يعلم ان طلبية التوصيل هي إلى آخر شارع الحمراء.

مستديرة الكولا التي مرت بعدة تغيرات ولا زالت تحمل اسم معمل شركة الكولا الذي تم بناؤه عام 1955 لتصنيع المشروبات الغازية في منطقة وطى المصيطبة. وقد تعرّض المعمل للحرق على أيدي متظاهرين غاضبين احتجاجاً على الدعم الأميركي لإسرائيل خلال حرب الأيام الستة في حزيران 1967، ومن ثم احتلته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحوّلته إلى ثكنة عسكرية ودمّرته الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال اجتياح لبنان عام 1982. بعد عدة سنوات أزيل الركام وتحوّل العقار إلى موقف للسيارات وبيع فيما بعد إلى شركة مقاولات قامت بتنفيذ مشروع سكني من عدة أبنية على العقار.

مع بداية نشوب الحرب الأهلية اللبنانية وإقفال الوسط التجاري نتيجة المعارك والاقتتال هناك، اختارت نقابة اتحاد السائقين العموميين في لبنان الساحة المحاذية لمستديرة الكولا، لتكون مرآباً بديلاً عن ساحة رياض الصلح وساحة الشهداء، لنقل الركاب من وإلى المناطق والاحياء في بيروت الغربية والى مناطق وقرى الجبل والجنوب والبقاع، مما ادى إلى ازدهار منطقة مستديرة الكولا ومحيطها تجاريًا وزحمة.

في منتصف السبعينات تم الغاء مستديرة الكولا وانشاء جسر (سليم سلام) من ضمن مخطط مسبق، يربط منطقة برج ابي حيدر عبر النفق القادم من جهة وسط بيروت التجاري وجسر فؤاد شهاب ومنطقة زقاق البلاط إلى المدينة الرياضية والسفارة الكويتية والمطار، لتخفيف حدة الازدحام. جسر سليم سلام الذي اصبح معروفًا بجسر الكولا خفف الزحمة قليلا الا انه لم يلغِ دور محلة الكولا في ربط المناطق ببعضها وبالتالي لا زالت تنبض بالحياة.

بالرغم من عدم توفّر شبكة مواصلات وخطة نقل عام في بيروت مثل سائر المدن الحديثة، بقيت سيارة الاجرة (السرفيس) حسب التعريف المتداول هي صلة الوصل والأكثر استخداماً مع حافلات النقل المشترك القليلة العدد التي كان يطلق عليها لقب (جحش الدولة) وحافلات بعض الشركات الخاصة والفانات التي كثرت وانتشرت بعد انتهاء الحرب.

كانت اكثرية سيارات السرفيس من نوع مرسيدس 180 و190 نظرًا لمتانتها ورخص قطع غيارها. يعمل السائق على خطوط معينة ليقلّ معه عدة ركاب في الاتجاه المقصود، عبر دفع بدل محدد عن الراكب ومن دون عداد تسعير، خلافًا للتاكسي من حيث التعرفة التي تشمل اجرة خمس ركاب.

سرفيسين ع الكولا، يقترحها بعض الأحيان الراكب على السائق ليغريه في حال كان أتجاه السائق إلى موقع آخر، لينقذه من الانتظار الطويل.

سرفيسين ع الكولا، جزء من سيرة ذاتية وذكريات كنت قد بدأت بكتابة ونشر أجزاء منها على السوشيل ميديا بعد الرحيل والهجرة.

لا زالت الكولا تتنفّس وتربط شرايين المدينة ببعضها، بينما سرفيسين ع الكولا يربط الزمان بالذاكرة بالمكان في بيروت.

شهيق، زفير

على مسافة 4.8 كلم يمتد كورنيش المنارة الروشة حتى الرملة البيضاء، حيث تتكئ بيروت عليه لتطلّ على البحر الابيض المتوسط، على شكل ثلاثة اضلع تحد رأس بيروت، من عين المريسة محاذياً لمستوى سطح البحر حيث يسمى بجادة باريس ويعرف بكورنيش المنارة (نسبةً للمنارة آخر شارع بلس التي شُيّدت خلال الحكم العثماني عام 1850 وكانت تعمل على الكاز، ليعاد بعد مئة عام تقريباً في عهد الرئيس كميل شمعون إعادة تأهيلها ويصبح ارتفاعها 78 متراً، قبل ان تحاصرها المباني تدريجيًا ولاحقًا الابراج في فترة النهوض العمراني بعد انتهاء الحرب لتحجب ضوءها عن بعض الجهات إلى البحر، لتتوقف عن العمل ويبنى بديل عنها منارة جديدة على الصخور عند مستوى البحر عند منعطف ملعب النهضة). ليرتفع تدريجياً بجرف صخري حوالي 40 متراً مقابل صخرة الروشة (ويسمى بجادة شارل ديغول ويعرف بكورنيش الروشة ليعود وينخفض تدريجياً ويلامس مستوى سطح البحر عند شاطئ الرملة البيضاء ويسمى بجادة رفيق الحريري ويعرف بكورنيش الرملة البيضاء.

منذ إنشائه خلال فترة (الإنتداب) الأستعمار الفرنسي لبلاد الشام بعد تلاشي وجود الدولة العثمانية وإعلان دولة لبنان الكبير، وإن تغيّر بعض الشيء من شكله إلا أنه حافظ على روحيته، حاضناً ومتنفساً لسكان المدينة بجميع فئاتها وإثنياتها.

حتى العام 1980 كانت حدوده شمالاً تبدأ من أمام السفارة الأميركية ومسبح الجمل، بعد ان أُضيفت له وصلة، وتمدد حتى مسجد عين المريسة وبيت الحرفي اللبناني، وهذه الوصلة كانت خرائطها مصمّمة ومقرّرة من أيام عهد بشارة الخوري، مثلما أخبرني زميل المدرسة ابراهيم الحوت نقلاً عن والده الذي ولد وتربى في عين المريسة ونشأ وتزوج وأسس عائلة وتقاعد من مصلحة سكة الحديد، الا انه حظي بمشاهدة هذه الوصلة منفّذة، والتي كان يسمع بها منذ ان كان عمره 12 عاماً.

يتميز الكورنيش برصيفه الواسع المحاذي للبحر، ملاصقاً الصخور والأمواج في المنطقة الممتدة بين مبنى المحترف اللبناني حتى ملعب النهضة، الملاصق للنادي الرياضي، حيث بنى الجاسوس المعروف بـ”أبو الريش” كوخه على الرصيف المحاذي وكان ينظّم السير ويعتمر قبعة عليها ريش والوان مزركشة، وكان يلقى تعاطفاً من المارة حتى وصل الامر ان يجري احد الصحافيين معه مقابلة لواحدة من الصحف اللبنانية، إلى ان دخل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت عام 1982، فخلع ثياب التهريج وارتدى بدلة جيش الدفاع برتبة ضابط وانهى مهمته المخابراتية. ملعب النهضة الذي بقي مهملاً وشهد تمارين ومباريات ايام ما كان يسمى الزمن الجميل، ليتحول إلى معسكر لسراي الدفاع السوري التابعة لرفعت الأسد خلال الحرب الأهلية حتى الاجتياح الإسرائيلي، وإلى مربض مدفع ميدان (أبو عبده) الشهير خلال حرب التحرير في الربع الساعة الاخير من الجزء الأول من مسلسل الحرب الأهلية اللبنانية، قبل دخول اتفاق الطائف والجمهورية الثانية.

هذا الملعب الذي بقي مهملاً وكان محط انظار الرئيس الراحل رفيق الحريري من ضمن خطته ومشاريعه الاعمارية، لبناء فندق تحت اسم “قصر المؤتمرات”، ولاجل ذلك استفاد الصيادين عند كوع المنارة حيث مسمكة ابو منير، من بناء رصيف للميناء، كان مخططاً مرسى للقوارب السياحية لمشروع قصر المؤتمرات الذي أُسقِط من برنامج التنفيذ بسبب المناكفات السياسية والمالية في عهد حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي.

هذا الرصيف الواسع يحمي رواده درابزين حديد عبارة عن ماسورتين لون ازرق على طول 5 امتار يفصل بينهما فراغ، تحمل عن الجوانب بقائمة حديد مسطّحة على شكل مثلّث مبروم الزوايا، عاش فترة الستينات وفترة الحرب وبعدها حتى مطلع الألفية الثانية، ليبدل بآخر من الالمنيوم المقوى وبارتفاع والتواء إلى الوراء يحمي الرواد من السقوط في البحر، بالإضافة إلى المقاعد الحجرية ومستديرات زرعت فيها اشجار النخيل الإفرنجي بعد اندثار أشجار الزيزفون التي كانت تظلّل المارة جراء الاهمال والاحوال الجوية والمناخية.

رصيف كورنيش المنارة

على مدار الـ24 ساعة يبقى الكورنيش ينبض بالحياة، بين الفجر والصباح يعجّ بالرياضيين الذين يمارسون رياضة الجري والهرولة، صغارا وكبارا، هواة ومحترفون، يجمعهم عشق لهذه الرياضة ومع الايام تكونت صداقات، ومن دون تخطيط ومعرفة وكلفة، صاروا يلتقون عند السادسة صباحًا في المساحة الواسعة من الرصيف المقابل لتمثال عبد الناصر والهارد روك كافية (جيران بالصدفة) في عين المريسة، ليمارسوا تمارين سويدية، وهي مفتوحة لأي شخص كان، لينصرفوا بعدها كل إلى بيته وعمله.

مع الوقت ومع تكرار زيارة الكورنيش يصبح لديك شبه معرفة بالوجوه التي ترتاده والأوقات التي تكون هناك، رواد الصباح غير رواد النهار ورواد النهار غير رواد المساء ورواد المساء غير رواد منتصف الليل وما بعده، إلا عزّ الدين شيخ العدائين الذي كنت تجده في الصباح الباكر وفي المساء يمارس رياض الهرولة، وكان يتميز بحيويته ونشاطه وصوته المرتفع اثناء جريه ورده التحية للرواد، يرتدي قميصاً مطبوعاً على ظهره عزّ الدين شيخ العدائين 91، عدد السنين من عمره التي يتباهى بها، بقي علماً من أعلام الكورنيش حتى وفاته منتصف التسعينيات.

لم نكن نعرف الكورنيش ونحن اطفال إلا عبر الأهل بواسطة السيارة، التي كان يركنها والدي إلى جانب الرصيف الواسع، وكنا نفرح إذا كان بائع دواليب الهواء متواجداً، ليشتري لي ولشقيقتي لكلّ منا واحداً، وهو عبارة عن قصبة رفيعة بطول 60 سنتم يعلوها دولاب ورق مصنوع من بقايا الكتب والمجلات ومزينة بأوراق ملوّنة، ثمنها ربع ليرة وفي حال كانت مع علم لبناني تصبح نصف ليرة، ناخذها ونتسابق من يجعل الدولاب يدور اكثر، وغالبًا ما كان ينتهي المشوار بالجلوس على احد المقاعد ومراقبة البحر والبواخر الداخلة والخارجة من ميناء بيروت المزدهر وقتها، مع تناول قطعة (كيك) بالزبيب، وبون جوس الهرم، يشتريها لنا من سيارات لبيع المرطبات وبعض الحلويات، وهي عبارة عن شاحنة صغيرة الحجم ماركة هوندا كان يلفت نظري حجم اطاراتها الصغيرة نسبة لحجمها. أو نقصد مدينة الملاهي الوحيدة في بيروت بعد الحمام العسكري جانب ملعب النجمة ومقهى الروضة، والتي كانت تتميز بالدولاب الكبير الذي يحمل سلات تتسع الواحدة لاربعة ركاب تدور وترتفع تدريجياً لتشاهد ملعب النجمة والمقاهي والمسابح المحيطة لتصل إلى ذروة الارتفاع بمستوى مطعم دبيبو الذي يبعد قليلا على اطراف صخرة الروشة، ومن ثم تعود تدريجيًا إلى الهبوط إلى الارض حيث تختلط اصوات الالعاب الكهربائية مع صراخ رواد دويخة العروس وموسيقى أغاني عبد الحليم حافظ.

مع انتهاء حرب السنتين ومعارك منطقة الفنادق اصبح الكورنيش المتنفّس الوحيد لسكان بيروت الغربية.

بدأت معالم الكورنيش تتغيّر رويداً رويداً نتيجة الاهمال والفوضى الناتجة من المعارك في خطوط التماس وانحلال مؤسسات الدولة، إلا انه بقي ينبض بالحياة ولا يخيب قاصديه، وشهد القسم المقابل منه لصخرة الروشة قيام “سوق تجاري” شعبي من قبل صغار تجار الأسواق التجارية في وسط بيروت الذين هجروا من محالهم، حيث كان يُرسم خط فصل بيروت إلى شطرين، شرقية وغربية، بدأ بشكل بسطات على الرصيف والسيارات الراكنة إلى جنبه، ليتحوّل إلى محلات أًقيمت على جانبي الرصيف وتُرِك ممر للزبائن في الوسط، بُني من الصفيح والخشب مع ابواب وتمديدات كهربائية عشوائية وغير شرعية، مما حجب رؤية صخرة الروشة التي اشتهرت كمكان لانتحار العشاق، مع أن عملية الانتحار كانت تتمّ من فوق درابزين الكورنيش المقابل لها، وترك القيّمون على السوق المستحدث، منفذاً مطلّاً عليها للمارة والمتسوقين للمشاهدة أو لأخذ صورة تذكارية من قبل المصوّرين الذين كانوا يتواجدون هناك، وينادون على بضاعتهم (فوري فوري) مقابل 3 ليرات لبنانية للصورة بواسطة كاميرا بولارويد أو 5 ليرات لبنانية مقابل صورة يدمجها في صورتين بطريقة بدائية وغير مطابقة للمقاييس، ويجعل الشخص واقفاً أو جالساً على الصخرة في الصورة.

بقي هذا السوق ينبض بالحياة حوالي 7 سنوات، وكان مقصدًا لأبناء المناطق الشعبية المجاورة، وتنوعت مبيعاته ما بين الملبوسات المحلية والاحذية والاقمشة والادوات الكهربائية، والألعاب، إلا أن المميز فيه كان ظاهرة بيع الكاسيتات التي حلّت مكان بكرات اللف والأسطوانات، طبعاً دون ضوابط ومعايير قوانين حقوق النشر والانتاج. مهنة جديدة ولدت مع حرب السنتين، رأسمالها جهاز نسخ كاسيتات، تنسخ عن الأصلي وتباع بأقل من سعر القيمة، رفوف تستفّ عليها الكاسيتات مع بعض صور للفنانين وستيريو يردح على اعلى ما فيه من قوة صوت لمغني الموسم، وقد تطورت هذه المهنة وانتشرت واصبحت تباع على عربات نقالة، تجوب الشوارع، (ديلفري واصل لعندك) لا زلت اذكر حين كنت في مدرسة الحكمة، كيف كان يختلط صوت عازار حبيب بأغنية “ع خدك حبّة لولو”، مع شرح استاذ الرياضيات غسان ابي نادر عن الـparabole والـiperbole ونضيع ما بين الأوف وعلوم الجبر والرياضيات والخوارزمي.

انتهت الحياة في سوق الروشة في العام 1982 مع انتهاء مهمة “أبو الريش” ودخول الجيش الإسرائيلي غرب بيروت، تقول الروايات ان دبابة ميركافا مرّت فوق محلات الصفيح وسوّتها بالارض، وازالت السوق من الوجود.

مع عودة الدولة مؤقتًا عام 1983، أعادت تأهيل الكورنيش من الروشة إلى الرملة البيضاء، بتبليطه، واقامت درابزين حماية للمتنزّهين على نفس مبدأ القديم مع قوائم اسمنتية وأعادت زرع اشجار نخيل للزينة نوع واشنطونيا. ما بين “كوع” دبيبو نسبةً لمطعم دبيبو المطل على البحر وصخرة الروشة، حيث صُوّرت مشاهد معظم الافلام السينمائية المصرية في الستينات واوائل السبعينات والنيو كافيه التي حلّت مكان مطعم الترامواي الذي بقي حتى منتصف الحرب الأهلية موجوداً، وهو عبارة عن ثلاث حافلات لتراموي بيروت الذي خدم سكان بيروت منذ أواخر ايام السلطان عبد الحميد وتطوّر مع (الانتداب) الفرنسي ليتقاعد ايام عز الدولة اللبنانية في منتصف الستينات ويحلّ محلّه الاوتوبيس (الكاروسا) التابع لمصلحة النقل المشترك، والذي كان يعرف بـ”جحش الدولة”.

عاد كورنيش الروشة إلى حياته الطبيعية، وبقي منفذاً ومنتزهاً خاصةً إلى المساحة الكبيرة التي تفصله عن البحر ما يعرف بميّة الدالية والصوانة والمغارتين وكانت كلها مقصداً لأهالي بيروت من ذوي الدخل المحدود، مع بداية فصل الربيع الذي كان يفتتحه اكراد بيروت في اقامة تجمع للاحتفال بعيد النيروز، والصيف حيث تقصده العائلات البيروتية للسباحة أو الصيد أو التنزّه. رويدًا رويدًا تمدّدت ايدي حيتان المال وهي تغطي طول الساحل اللبناني، بالاعتداء على الاملاك أو المشاعات العامة، ان كان بالبناء وحجب رؤية البحر أو في استملاك الشاطئ، لا سيما مشروع فندق الموفنبيك الذي تملّك مقهى الغلاييني، وحل مكانه وتمدد حتى مياه البحر حيث كانت تسمى الصوانة المشهورة في بركها الثلاث الطبيعية في الصخر.

زائر جديد انضمّ إلى قائمة رواد الكورنيش عام 1983، كنا نشاهد كل يوم صباحا اثناء التوجه إلى المدرسة بواسطة الحافلة، مجموعة من الجنود الفرنسيين، من القوات المتعددة الجنسية التي عادت، بعد دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت الغربية ومجازر صبرا وشاتيلا، يقومون بتمرين الجري والهرولة، إلا ان حادث تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة، تسبب بإقفال الكورنيش لأسابيع عدّة، ليعاد فتحه للسيارات على المسلك الغربي ذهاباً وإيابًا، من عين المريسة حتى “كوع” المنارة، بعد اقامة شريط شائك، وكنا نشاهد جنود “المارينز” في حالة استنفار دائم، اثناء مرور حافلة المدرسة من هناك.

بعد التطوّرات السياسية والعسكرية عام 1984 وانتفاضة 6 شباط وسقوط السلطة، أُعيد تقسيم العاصمة بيروت إلى شطرين، شرقي تحت نفوذ الأحزاب المسيحية، القوات اللبنانية وما تبقى من حزب الكتائب والجيش اللبناني التابع للسلطة، والغربي تحت نفوذ الأحزاب الإسلامية، الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل والمرابطون، بالإضافة إلى اللواء السادس الذي انشق صوْرياً عن القيادة التابعة للسلطة، وانسحبت القوات المتعددة الجنسية من لبنان.

عادت الحياة تدريجياً إلى الكورنيش بشكل مختلف عن السابق. في البدايات كان القسم الممتد من جامع عبد الناصر حتى مسبح الجامعة الأميركية يشهد قنصاً من المرفأ مع اشتداد المعارك على خطوط التماس، لتتوقف مع تثبيت الخط الاخضر الفاصل بين شطري العاصمة.

ظاهرة فانات الاكسبرس بدأت تنتشر على امتداد الكورنيش، فان فولكسفاغن، لبيع النسكافية والشاي والمشروبات الغازية والبزورات، مع وضع كراسي للزبائن على جانب الرصيف، واصبح لكل فان زبائنه وقاصديه، اشهرهم كان فان ابو حسن وهو من اكراد زقاق البلاط، كان يعمل مع اولاده على مدار الـ24 ساعة تميز بالخدمة والمعاملة الحسنة للزبائن. كان يركن سيارته مقابل سكن اساتذة الجامعة الأميركية، غالباً ما كنا مجموعة من الأصدقاء والزملاء في معهد الفنون نلتقي عنده بعد الظهر أو المساء لشرب النسكافيه والتحادث والاستمتاع في المدى المفتوح إلى البحر ومراقبة البواخر الداخلة والخارجة من والى مرفأ بيروت، نسترق النظر إلى جبل صنين المطل على بيروت، هذه الجلسات كانت تطول وتطول، نتناقش خلالها في اوضاع البلد والتحليلات والمستقبل وأمور الدراسة والحياة. مرتان فقط اضطررنا إلى اخلاء المكان والهروب، الأولى حين كنت ماراً مع وليد فتوني على دراجته النارية قاصدين منزل عباس في الروشة ليستوقفنا احد الأصدقاء عند ابو حسن. يومها كان الأحد بعد الظهر والكورنيش مليء بالمارة والعائلات التي تتنزه، وقفنا نتحدث ولفت نظرنا مرور رفّ سمك على طول عشرات الامتار وكانها تتسابق. وتقفز بمسيرها فوق الماء، كانت هذه المرة الوحيدة التي شاهدنا بدهشة هذه النوعية من الاسماك، ليقطع هذا المشهد قذيفة يتيمة أضلّت طريقها من خطوط التماس وسقطت في المياه على بعد حوالي 30 متر (هذه من احدى المرات الأربعة التي نجوت فيها خلال الحرب) وبلحظة واحدة ومن دون تنسيق ركضنا انا ووليد باتجاه دراجته وفي الوقت عينه جميع رواد الكورنيش وكأنهم صف واحد افقي طويل باتجاه سياراتهم، ركبنا الدراجة وعبرنا بها فوق الوسطية التي تفصل بين ذهاب واياب السيارات ومن ثم إلى الشارع المؤدي إلى المدخل البحري للجامعة الأميركية، ولجأنا إلى مدخل بناية لننتظر حتى تهدأ الامور.

المرة ثانية كانت صباحاً، مع عدنان صديق الطفولة، كنا نجلس نشرب الشاي ونستمتع بمنظر البحر ونستريح، بعد ان انهينا تمرين الركض من البيت حتى عين المريسة، وفجأةً من دون سابق انذار، تتوقف سيارة دفع رباعي تابعة للحزب التقدمي الاشتراكي على متنها مدفع مضاد 23 وبدأ بالرمي من فوق رأسينا باتجاه البحر، حيث كان زورق للقوات اللبنانية يقترب من الشاطئ بمحاذاة باخرة شحن مغادرة مرفأ بيروت. لم نعرف كيف قمنا وركضنا للاختباء خلف شجر النخيل في الوسطية بين الشارعين ومن ثم ركضنا باتجاه عين المريسة، بعد ان نسينا التعب. ابو حسن، بقي يعمل حتى العام 88 ليبيع الفان ويهاجر إلى ألمانيا مثل اكثرية الاكراد الذين لجأوا إلى ألمانيا وسويسرا والدانمارك.

ليس هناك من رقيب أو حسيب لفانات الاكسبرس المتوقفة. شروط النظافة غير محددة ومتوفرة. بقرب سيارة الاكسبرس هناك سلة نفايات لفضلات التحضير والزجاجات الفارغة وأحيانًا بدل السلة أو المستوعب، صندوق كروزات الدخان أو صندوق مياه الصحة يفي بالغرض، وعلى الطريقة اللبنانية يقوم صاحب الفان بكنّس مخلفات الزبائن وجمعها ورميها إلى البحر، لإعادة التدوير، ولتعود تستهلكها الاسماك في البحر والجرذان على الصخور.

ازداد عدد الباعة الجوّالين الذين تميزوا بالطريقة أو المواد أو حتى الشخصية التي يتمتعوا فيها، لا سيما بائع العطور الذي كان يجوب الكورنيش من الصباح إلى المساء، قصير القامة عريض في أواخر الستينات من العمر، يحمل كيس نايلون يحمل فيه بعض علب زجاجات العطور وباليد الأخرى زجاجتان أو ثلاث عيِنات لما يبيع وينده على بضاعته، بارفان بارفان، مع الشدة على حرف الفاء ليعود ويمرر بينهما أرفان، لتصبح بارفان ارفان بارفان ارفان. ربما القرف من جور الحياة على هذا الرجل الذي كان من المفترض ان يتنعم بحياته بعد وصوله إلى سنّ التقاعد، ومن الباعة المتجولين المميزين ايضاً، ابو وسيم بائع الترمس، شاب متوسط العمر يعتمر قبعةً صوفية مع شوارب عريضة ويبتسم دائماً، فيه شبه من الكومبارس في مسلسلات دريد لحام، ربما كان يعمل موظفاً بسيطاً في إحدى المؤسسات وخسر عمله بسبب الحرب، فأصبح يبيع الترمس، ومن معداته تعرف بأنه دخيل على الصنعة، إلا انه كان يتمتع بروح مرحة وطريقة مختلفة عن الباعة في عرض المنتوج. عربة أبو وسيم كانت عبارة عن “عرباية” اطفال قديمة يضع عليها اكواريوم سمك زجاجي مملوء بالترمس مغطى بصدر معدني عليه مرطبان ملح وماعون اوراق للتعبئة، وعلى الجانبين مكتوب، “ترمس ابو وسيم”، صوته كان يسبقه تسمعه من بعيد ينادي: “يا حرام على اللي ما اكل من هالترمسات الطيبين يا حرام. يا حرام على اللي دبح مرته بالسفنجة وحكموا عليه عشرين سنة بالغرام يا حرام” ترررررررمس يمدها ويعاود مرة ثانية ترررررر لتظن انه سيقفلها بمس، إلا انه يقفل في الثانية بغلي لتصبح ترررررررغلي. هناك نوع آخر من الباعة الجوالين يمكن وضعهم ضمن خانة الموسميين، تتغير سلعتهم طبقاً لحصاد الموسم بدءاً من اللوز الأخضر والجنارك في الربيع ليدخل الصيف وتتحول موادهم المباعة إلى الذرة أو الصبار وجوز الهند، والكستناء والفول المسلوق شتاءً، العامل المشترك بين اغلبيتهم رفع علم لبناني على العربات ولوكس البريموس للاضاءة، ليلاً.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *