القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة!! الكرملين والحروب الباردة (20)

Views: 268

د. إيلي جرجي الياس

لا فرصة لحرب عالمية ثالثة نووية بالكامل تقضي على الكرة الأرضية في لحظات معدودة. فلتكن الحروب الباردة تعويضاً عن تلك الحرب العالمية الثالثة المستحيلة الحدوث وإلا دمار العالم…

عرف التاريخ الحديث والمُعاصر ثلاث حروب باردة متتالية، بين المعسكرين المتواجهين: الغربيّ أي شمال الأطلسي بقيادة دائمة لواشنطن، والشرقيّ بقيادة سوفياتية ثمّ روسية –  صينية مشتركة، ضمن آليات عسكرية واستخبارية معقّدة تزداد ضراوة مع تطوّر أجيال الحروب المتعاقبة:

– الحرب الباردة الأولى 1947-1991.

– الحرب الباردة الثانية 2000-2020.

– الحرب الباردة الثالثة، والتي انطلقت بعد انحسار زمن الكورونا كوفيد 19.

 

بعدما كان فلاديمير بوتين، كمسؤول في الاستخبارات السوفياتية كي جي بي، شاهداً على أحداث وتداعيات الحرب الباردة الأولى، ها هو، رئيساً للاتّحاد الروسيّ بدءاً 1 كانون الثاني 2000، نجم الحربين الباردتين الثانية والثالثة!! “امتدت الحرب الباردة الأولى أربعين عاماً تقريباً، واعتمدت على الجيلين الثالث والرابع من الحروب، حيث الذكاء الأمنيّ والدهاء الاستخباريّ حاضران بقوة رجالاً وعدةً وعتاداً، ولعلّ أهمّ رمز لها هو جدار برلين بامتياز. وقد أعقبتها مرحلة انتقالية حادّة استغلّها الأميركيون لتعزيز سيطرتهم ونفوذهم، والروس لاستعادة قواهم وحضورهم، في تسعينات القرن العشرين، وسط مجال واسع من الجهود المشتركة والمفاوضات المضنية.

ولكن منذ مطلع الألفية الثالثة، ومع استلام الرئيس الجريء فلاديمير بوتين دفّة القيادة العليا في روسيا، وهو الخبير في الشؤون الاستخبارية والعنيد في التصدي للسياسات التوسعية الأميركية، انبثقت الحرب الباردة الثانية مختلفةً بالكامل عن تلك الأولى، حيث الحدّة العلنية غائبة، ولكن الصراع الاستخباريّ المخفيّ يعتمد على مفاهيم الجيلين الخامس والسادس من الحروب، حيث التكنولوجيا الإلكترونية تتألق بشكل متصاعدٍ ومثيرٍ في آن: نمط من التغييرات المجتمعية لم تعتد عليه الشعوب حيث كل الإمكانيات متاحة والسبل مباحة.

 

وظهر خلف الروس، من حذّر منه نابليون الأول قبل قرنين: العملاق الاقتصاديّ الصينيّ، حيث بات للاقتصاد الأولوية الكاملة والمطلقة. التراجع في الدور السياسيّ الروسيّ، زمن الرئيس الروسي يوريس يالتسن، آن له أن ينتهي!! انكفأت موسكو عن الملعب الدولي؛ وفقدت القدرة على التأثير في مجرى الأحداث إلى حدٍ كبير وللدلالة على ذلك فإن القوات الأميركية قصفت كوسوفو عام 1999، رغم اعتراض موسكو ودون أن تكترث واشنطن بموقفها (وكوسوفو تعتبر من الحصون السلافية، تربطها، إضافة إلى عموم يوغسلافيا السابقة، علاقات تاريخية مع موسكو). شعر بوتين وكان يهيء نفسه لتولي المسؤولية، بأن استعادة روسيا لدورها على الساحة الدولية أصبح أكثر من ضروري، فأعلن في حزيران عام 2000، عناوين السياسة الخارجية لبلاده، أو ما عرف حينها بمبدأ بوتين الذي يتضمن الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، لا يخضع لقوة عظمى واحدة، ويكون لروسيا دور أساسي فيه.

لقد سبّب انهيار الاتحاد السوفياتي لروسيا الطموحة إلى التقدم والتطور، إحراجاً كبيراً ومجالاً من الأزمات الخطيرة، وكان إداء الرئيس بوريس يالتسن هروباً إلى الأمام وتفادياً للمواجهة، أما الرئيس فلاديمير بوتين فخطّط ونفّذ وأقدم على التصدّي للتمرّد الأميركيّ والغربيّ، بقصد إعادة روسيا إلى ساحات المجد متألقةً وجريئة.

 

لقد جمع المجد من أطرافه، في روسيا تقليد معتمد ومتوارث منذ أيام القياصرة بين السلطة ورأس المال، وبين الأمن والاقتصاد والسياسة. وتحولت روسيا في ظل الديموقراطية، ذات النفحة الأوتوقراطية التي اعتمدها بوتين، إلى قطب اقتصادي قوي، أبعدت عنها التهديدات الأمنية المباشرة، وجنبها الخوض في الملفات الخطرة الخاصة بالعراق وأفغانستان، وجعلتها تعتمد سياسة المصالح، بعيداً عن الأحلاف الجامدة والعقائدية، فمصلحة شركاتها وتجارتها مع الخارج، هي مصلحة الدولة.

تمكّن الرئيس فلاديمير بوتين منذ بداية عهده، بمفاصل الدولة الروسية، وطوّر القدرات الروسية في كلّ المجالات، استعداداً لتأمين توازن استراتيجيّ مع الأميركيين على الساحة الدولية. 

تبدو القيادة الروسية، بعد سنة 2000، مصرّة على استعادة دور روسيا التاريخيّ، وعلى وراثة مكانة الاتحاد السوفياتي في تأمين توازن عالميّ استراتيجيّ بمواجهة الولايات المتحدة الأميركية. بعد وصول الرئيس فلاديمير بوتين ومن بعده ديمتري مدفيديف إلى السلطة في روسيا، بدأت العلاقات الأميركية الروسية تأخذ منحى آخر، من خلال محاولة استعادة روسيا لمكانتها الدولية وتعزيزها في مواجهة الهيمنة الأميركية، وانعكاس ذلك على طبيعة العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة سلباً وإيجاباً. لقد حاولت روسيا الوصول مرة أخرى إلى قمة الهرم الدولي وأخذ مكانتها السابقة. وقد اتضح ذلك بشكل جلي في مجموعة من المعطيات الدولية، لعل من أبرزها الحرب الروسية الجورجية، وموقف روسيا من الربيع العربي في منطقة الشرق الأوسط وسلوكها في الأمم المتحدة.

إن الأزمة السورية الراهنة باتت مرتبطة مباشرة بمسألة الصراع الأميركي- الروسي، ودخلت مرحلة التدويل الفعلي، وباتت ميدان صراع حقيقي بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وروسيا وحلفائها من جهة ثانية، مع ما يرافق ذلك من تقارب وتباعد وتناقض وتشابك بسبب كثرة المتغيرات المؤثرة في هذا الصراع. ولن تتراجع روسيا الجديدة بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، قبل تحقيق الجزء الرئيسيّ من أهدافها الاستراتيجية، وقبل إنجاز انتصارات سياسية نوعية.

لم يكن التحدّي الروسيّ الجريء مع فلاديمير بوتين والنخبة الجديدة الحاكمة سهلاً أبداً، ليس لأن الاتحاد السوفياتي انهار بشكلٍ غير متوقع وغير مدروس فحسب، بل لعلّ فترة حكم بوريس يالتسن لروسيا أكثر إيلاماً على المستوى العام من فترة حكم ميخائيل غورباتشيف للاتحاد السوفياتي، أو قل أنّ الرجلين وجهان لعملة واحدة… إلا أنّ يالتسن أحسن اختيار الوريث!! فكان إرث الرجلين قاسياً لدرجة اعتبر أنّ الانجازات الروسية زمن بوتين جاءت مضاعفة، لتعيد بريق المجد إلى الزمن الروسيّ المعاصر المستمدّ من تاريخ عريق.” من مقالتي العلمية: الحرب الباردة تمتدّ والمواجهات الاستخباريّة تشتدّ (1975-1990)، الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 86، نيسان 2021، ص 142، 143، 144.

 

***

* د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *