في مَخافر الوُصُول ومَعابر مُغادرة الوطن 

Views: 194

د. محمّد محمّد خطّابي*

عرف ميناء مدينة  الحسيمة  (شمالي المغرب) في الأيام الأخيرة  حركة غير عادية للمسافرين من أبناء وبنات جاليتنا المقيمين والمقيمات بالخارج كلّ حسب وجهته  ،كان الإكتظاظ على غير العادة بأفواج من العائدين الى بلدان إقامتهم  وعملهم فى الديار الاوربية والقادمين منها الى الوطن الغالي الحبيب …ما فتئت السيارات تتوارد  لتأخذ أماكنها فى  مدرجات المواقف المخصّصة للمسافرين من وإلى .

الزمن أواخر أيام شهر أغسطس 2022 لقد تصادف هذا التاريخ مع قرب  نهاية مواسم الصيف والعطل.. الحرارة لا تطاق تحت وهج أشعّة الشمس الملتهبة الحامية الوطيس..هناك مواقف خاصة للدخول الى الباخرة العملاقة التي ترسو على الميناء في شنوخ ، وهناك مواقف مخصّصة للخروج منها..الناس فى حيرة من أمرهم الأطفال الصّغار يصرخون ..والآباء يهرولون نحو مخافر الشرطة ومكاتب الجمارك لختم الجوازات وتنحية تسجيل السيارات الاجنبية من الحواسيب التي لا ترحم..يبدو ان الإجراءات تسير على خير ما يرام لدى رجال الشرطة والجمارك  على حدّ سواء ،إنهم يقفون ثم يتحركون..يجولون ويصولون وينظرون نظرات دقيقة نحو هذا وذاك …وهم يرتدون أردية سميكة شبيهة بمعاطف رجال الإطفاء. ..يحمل بعضهم أدوات حديدية دقيقة  لفسخ أجزاء واجهات السيارات التي يشكّون فى آمرها.. من لوالب وكمّاشات وملاقط ..السيارات مصطفّة امامهم وهم ينحنون على هذه ويتكئون على تلك ..وهناك من يعاين العجلات المطاطية والكراسي وواقيات التصادم الأمامية والخلفية..هذه العمليات قد تدوم دقائق معدودات، وقد تستغرق اوقاتاً طويلة.

 

يؤول مردّ هذه العمليات التفتيشبة الدقيقة الى التخوّف من تهريب جميع انواع المحظورات والممنوعات من مخدرات وسلع مهربة او أسلحة خفيفة او مفرقعات وهذا امر طبيعي وعمل قانوني روتيني  ..الامور تبدو عادية .. فبعض رجال الجمارك فى بلادنا السعيدة قليلوا الابتسام..ويفوز رجال الشرطة بقصب السّبق فى هذا المضمار فهم دائموا الابتسام ،وهذا شئ محمود ومريح وجميل يبعث الراحة النفسية والسكينة والهدوء في قلوب المسافرين الذين ما فتئ ينتظرهم عذاب السفر وأتعاب ومشاقّ قطع المسافات الطويلة امام الطرق السيّارة الاسفلتية القارية التي لا ترحم ولا تنتهي.

إنهم ينظرون الى المسافرين نظراتٍ ثاقبةً صارمة …افتحوا من فضلكم ابواب السيارات بما فيها مستودعات الحقائب… ينطلق التفتيش الدقيق..الكاميرات الخفية لا تتوقف عن تصوير عمليات تفتيش المواطنين وكأنّ بعضهم فعلاً مهربون او متواطئون فى التهريب ممّا يسبّب حرجاً مقلقاً للمسافرين …تفضّلوا كلّ شئ على ما يرام ..يقول الجمركي ويتقدم المواطنون بسيارتهم نحو مدخل الباخرة وكأنهم يدلفون الى غار مظلم أو يلجون الى مغارة معتمة..فالأضواء فى المرآب العملاق خافتة وباهتة تكاد تكون مظلمة …..على ظهر المركب الاسباني  العملاق  تبدو الامور فى هذه التواريخ من العام  وكأنها غير طبيعية.

 

ولن نذهب بعيداً فالمراكب التي غادرت ميناء الحسيمة فى تواريخ  نهاية عيد الأضحى  الفارط كانت شبيهة ببواخر الهجرات المنظمة وغير المنظمة التي كانت تتمّ خلال اندلاع الحروب أو عند ما تحطّ أوزارها..كانت هذه المراكب تبدو وكأنها تلك السفن التي تمخر بين الجزر المتناثرة في عباب المحيط الهادي الشاسع المترامي الاطراف..والتي تنهي الينا الاخبار انها غالباً ما تعاني  من وعثاء السفر وسط هذه المياه  المزبدة المتلاطمة وتنتهي بكوارث نظراً لحمولاتها التي تتجاوز ما يفوق طاقاتها الاستيعابية القانونية ..هكذا كانت تبدو حالة هذه المراكب غاصة بما لا يُحصىَ من  البشر من أطفال وشيوخ ونساء وشباب وصبايا ..من أجيال مختلفة متعاقبة ومن أعمار متفاوتة ومتباعدة ..كثير من المسافرين لابدّ انهم دفعوا الثمن القانوني للرحلة الا انهم ربما لم يجدوا المقاعد للجلوس فكانوا يستلقون ويتمدّدون فى كلّ مكان بالسفينة فى المقاهي وفى باحات الاستراحة والممرات وفى كل مكان بحيث يتعذر المشي بين الاجسام المستلقية على أرضية المركب الكبير…العاملون بالسفينة لا يقولون لهم شيئاً ،وكأنّ هذا التصرّف مباح ومسموح به ..ولا شكّ ان هذا المنظر يفسّر انّ السفينة  ربما حملت ازيد ممّا تتحمله طاقاتها الاستيعابية ..كان ذلك المنظر يقطع نياط الأفئدة ، مخلوقات آدمية من جميع الأعمار مستلقية على أرضية السفينة فى أوضاع مثيرة للشفقة والرحمة فى آن..آهٍ على تلك الاجيال الصاعدة من المواطنين الذين يهاجرون ويقطعون البحار والقفار قهراً وقسرًا لضمان لقمة عيشهم اليومي..تاركين آباءهم وعوائلهم وأقاربهم وراء البحر.

 

يتبادر الى الذهن فى تلك الهنيهة وانت تنظر اليهم او تصغي لأحاديثهم ومحاوراتهم السؤال التالي : ايّ مستقبل ينتظر هؤلاء .؟.سواء فى بلدان مهاجرهم أو في بلدانهم الاصلية …انها مسألة عويصة حقا يعاني منها المهاجرون الى مختلف أطراف المعمور ..  انك تشعر في بعض الأحيان وكأنّهم حديثوا النزول من برج بابل الأسطوري الذي بلبل الله ألسنة هؤلاء الذين تسلّقوه  وحاولوا  رمي الشمس بالسّهام والنبال والأقواس…!  آباء يتحدثون مع أبنائهم أو أبناء يتحدثوت الى آبائهم بلغات عديدة لا حصر لها فتسمع فى كل لحظة وحين لغواً مختلطاً بين الهولاندية، والفلامانية، والألمانية ، والفرنسية ،والاسبانية،والكتلانية ،والانجليزية والرّيفية (لغة ساكنة أهل الرّيف الواقع شماليّ المغرب)  وسواها  من اللغات التي لا نعرف مصدرها أوأصلها أو مواطنها ،أما (دارجتنا المغربية العامية ) فقد أصبحت تنثال على ألسنتهم في  ندرة وقلة وخصَاص .!

***

*كاتب من المغرب، عضوالاكاديمية الاسبانية الأمريكية للآداب والعلوم، بوغوتا كولومبيا .

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *