كيد النساء وعوسج الشعراء

Views: 1140

سمر الخوري

 

“ما تِـلعَـبـي بِـالـنَّـار أحـلالِـك

بِـتْـخَـيِّـب الـنِّـيـران آمالِـك

مَ تْـمـارِسـي كَـيْـدِك عَـلـى الـحَـبِّـك

وْلا تُـزرَعـي بْـأرض الـوَعِـر حَـبِّــك

الـعَوسَــج بِـيـاكُـل كِـلِّ أغلالِـك”

الصحافـي شـربل زغيب

 

***

“لا تلعب بالنار…النار بتحرق صابيعك”

أغنية كنا نسمعها منذ الطفولة. تزور مخيلاتنا في الحلم، وفي اليقظة. وكنا نتخيل النار غولا من غيلان الجاهلية.

واللعب بالنار تعيين وتضمين في آن. تقوده دلالتان.

الدلالة الأولى حمل النار في اليد. والنار من العناصر الأربعة تشوي فخارة الإنسان، وتحولها إلى رماد لا يصلح لشيء.

أما الدلالة الثانية فهي النار رمز الخطر. والخطر خطران:مادي ومعنوي. ولعل الخطر المعنوي هو الأشد والأقسى.

وقد تعيدنا مشهدية اللعب بالنار  إلى نار بروميثيوس الذي سرق النار ،كما تقول الأسطورة، من الآلهة وأهداها للبشر. فكان عقابه أبديا.

والشاعر الصحافي شربل زغيب يحذر حبيبته البروميثيوسية من اللعب بالنار. والنار عنده رمز عواطفه المتأججة، نار حبه التي لت تكوي القلوب والأكباد، وتنتقل من الأجداد إلى الأحفاد.

ويوضح الشاعر عاقبة اللعب. إنها الخيبة.فكيف تخيب آمالها؟

أيكون الشاعر خائفا من عدم تلبية طموحاتها ؟وما هي هذه الآمال؟

أيكون عجز الشاعر امتناعا لسبب أخلاقي أم جسدي؟

أسئلة برسم المجهول. ضبابية هي كالعلاقة بين الشاعر وأنثاه. فمن تكون هذه اللاعبة بنار عواطف الشاعر؟ولماذا هي المتضررة لا هو؟

أيكون هو بمنجاة من النار المضرمة؟

اللعب بالنار كما يعلنه الشاعر هو الخداع . وقد يكون التظاهر بالحب، أو ممارسة الألاعيب، في العلاقة بين رجل وامرأة. إنه كيد النساء-وكيدهن عظيم-كما يرد في الحديث النبوي الشريف.

تحمل القصيدة ، على قصرها الكثير من التناص. وهو تناص أدبي يعيدنا إلى الأغنية التي ذكرتها، في مقدمة التعليق. وتناص أسطوري عن نار بروميثيوس. وآخر ديني يجمع بين الإسلام والمسيحية، من الحديث عن كيد النساء، إلى محاكاة لمثل الزارع في الأنجيل، حين يبذر الفلاح حبه في الأرض غير المحروثة، فينبت الشوك ويخنقه.

هو الشاعر التراث، ضمير الضاد والأبجدية. مثقف هو والثقافة زاد العصور، ومعجن العطور.

عودۃ الی البدء. قصيدۃ بلا عنوان. زادها العنفوان والشذا. قد يكون عنوانها اللعب بالنار، أو أحلالك. ولعل كلمة تحذير تفي بالغرض.فالشاعر يحذر المرأة من اللعب بالنار، لأن مصيرها الخيبة. وينبه من كيد النساء. ولكن كيدهن ليس بعظيم، ولن ينلن به التعظيم، خصوصا إذا مورس بحق الحبيب.

ويحضرنا في هذه الأبيات قول الشاعر العباسي أبي الطيب المتنبي:

فوضع الندى في موضع السيف بالعلى

مضر كوضع السيف في موضع الندى

ورمي المرأة بذار حبها في الأرض الوعر لن يفيدها، بل سيبتلعه العوسج والشوك.

إنه الهرب من الحب الأحادي الجانب، أو الحب غير المتكافئ. وكأن الشاعر يتحدث عن صدمة نفسية واجهها في حبه، حين عشق من لا تستحق، فكان نصيبه الخذلان.

والمحبة التي يزرعها الشاعر في الأرض الوعر، في القلوب الخالية من الحب، تعيدنا إلى الآية في الإنجيل، حول عدم إلقاء الدرر للخنازير، لأنها لن تعرف قيمتها الحقيقية.

وخارج إطار العنوان نقول: كيف يمكن النجاة من هذا التحيز للرجل؟ وهل صحيح أن المرأة أساس الشرور؟

قصيدة بلا عنوان، يكثر فيها النهي . والشاعر الرجل هو الناهي. ولكن نهيه محاولة للدفاع عن النفس، في مواجهة الأنثى  القادرة على  إذكاء الحرب، وممارسة الكيدية الأنثوية المعروفة. فقط لأنه أرض خصبة لحبها، وهو لا يستحق منها الجفاء.

مز جهة مقابلة، يسيطر على الأبيات حضور المرأة، وغياب الرجل. المرأة حاضرة في ضمير المخاطب أنت المتصل(٩ مرات) في حين أن الرجل يظهر خجولا في ضمير مستتر (حبك)، أي أحبك. وهو يغيّب نفسه، تاركا للنيران والعوسج أن يعاقبا المرأة على تصرفاتها التي لا تعجبه.

أمر آخر جدير بالملاحظة، وهو أن المرأة في أبيات الشاعر تتحول، بشكل لا واع، إذا أمكن التأويل وفقا للتحليل النفسي، إلى ضمير الشاعر. فهو يطلب من ذاته العاشقة ألا تلعب بالنار، وإلا فإن نيران جهنم ستكون بانتظارها. إنه يشعر بعقدة ذنب لأنه يهب حبه من لا يستحق(أو من لا يحق له) هذا الحب. وأرض الوعر هي أرض الخيانة، والعوسج هو ثمار الخطيئة. أما الغلال فهي ثمار الزواج. وما الخطأ غير المقصود في جمع غلة لتصبح “أغلال” بدلا من غلال إلا هفوة نفسية lapsus  تؤكد فكرتنا عن الزواج، أغلال الشاعر ، أي قيوده. وفعل الزراعة والحب صورتان للعمل الجنسي المرتبط بالخيانة التي نتيجتها الطرد من الجنة، إلى أرض الشقاء والتعب (أرض الوعر)

صديقي الشاعر الزغيبي، قد تقول لنا كما قال أبو نواس لشارحي شعره: والله ما قصدت هذا. ولكن متى كان الشاعر واعيا حالته النفسية؟ إنه دور المحلل النفسي في كشف المخبأ، داخل النفس، وفي بعث الدلالات الثانية التي يخفيها الشاعر،في لا وعيه، أو في عمق أعماق كبته والحرمان.

هذه قراءتي التأويلية لأبيات أطلقها الشاعر شربل زغيب، من أعماق ذاته. وقد تكون  انعكاسا لذاتي أنا، وللهوامات المسيطرة عليّ، ولعلني قد احتاج  أيضا إلى تحليل نفسي، فيصحّ فيّ قول ميخائيل نعيمة: مَن غربل الناس نخلوه.

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *