ميخائيل غورباتشوف… آخر عمالقة الاتحاد السوفياتي

Views: 384

المحامي معوض رياض الحجل

رَحلَ ميخائيل غورباتشوف (2 اذار 1931 – 30 اب 2022) بعد صراعٍ مع المرض عن عمر يناهز الواحد وتسعين عاما. لن نُعيد نشر سيرة حياتهِ وصولا الى رئاستهِ لاتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية بل سنكتفي بنشر جزءٍ من خطابهِ الأخير لمواطني الاتحاد السوفياتي قبل مُغادرتهِ السلطة نهائيا في أواخر العام 1991.

خطاب غورباتشوف التاريخي في 25 كانون الاول 1991 يصلح أن يكون خطاب وداع لكل رئيس جمهورية قبل تركهِ منصبهِ لاتصافهِ بالموضوعية بعيدا عن الشعبوية. اذ أن قراءة دقيقة للخطاب تسمحُ لنا بفهم مُعمق لفترة حكم غورباشوف والهواجس والمخاوف التي رافقته خلال تلك الفترة من تاريخ الاتحاد السوفياتي، اذ اعتقد غورباتشوف، كونهُ من المُخضرمين سياسيا، أنهُ سيكون المُخلص والمُنقذ والمُطور لنظام حكم قديم عمرهُ اكثر من سبعين عاما، فاذ بهِ يصطدم بالعديد والعديد من العقبات والتحديات التي تراكمت تباعا وأدت بشكلٍ او بآخر الى انهيار الاتحاد السوفياتي بدل تطورهِ وتحسنهِ.

 

 تضمن الخطاب اضاءة على الخطوات الجبارة التي قام بها غورباتشوف على المستوى الداخلي والعالمي وخاصة لناحية وقف سباق التسلح وإنهاء الحرب الباردة. كما تضمنَ الخطاب نقدا لاذعا للمُخادعين الذين استعملوهُ ككبش فداء للوصول الى اهدافهم الخبيثة:

لا لـ “تجزئة البلاد وتفكيك الدولة”

“مواطني الاعزاء، وأبناء وطني، نظرا الى الوضع الذي نجم عن تأسيس(كومنولث الدول المُستقلة)، فإنني اعلنُ أنتهاء عملي رئيسا لاتحاد الجمهوريات السوفياتية، وقد اتخذتُ هذا القرار لأسباب مبدئية.

لقد ساندتُ بقوة الاستقلال الذاتي والاستقلال لشعوبنا، واعلان السيادة لجمهورياتهم، وكذلك الحفاظ على دولة الاتحاد وسلامة اراضي بلادنا، غير أن الأحداث اتخذت مسارا آخر، وهيمنت السياسة الرامية الى تجزئة البلاد وتفكيك الدولة، وذلك ما لا اقبلهُ.

لم يحدث اي تغير في مبادئي بعد الاجتماع في مدينة “الما اتا”، والقرارات التي اتخذت فيه.

 

اعتقدُ أن قرارا بهذه الضخامة كان يجب أن يكون تعبيرا عن ارادة الشعب السوفياتي الحرة، ومع ذلك، فأنني سأبذل قصارى الجهد للتأكد من أن الاتفاقيات التي وقعت هناك ستفضي الى وئام حقيقي في المُجتمع، وتمهد الطريق للخروج من الأزمة واستمرار عملية الإصلاح.

وبتوجيه خطابي الأخير هذا بصفتي رئيسا لاتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، فإنني اعتقد أن علي أن اعرضُ لكم تقييمي للمسار الذي اتبعناه منذ عام 1985، ويبدو ذلك اكثر إلحاحا بالنظر الى ما نسمعهُ من تقييمات مُتضاربة، وسطحية ومُتحيزة.

لقد قُدر لي أن اجد نفسي رئيسا للدولة بعد أن اتضحَ بصورة تامة أن ثمة خطأ ما في البلاد، فقد توافرت لدينا ثروة ضخمة من الأرض والنفط والغاز، وغيرها من الموارد، ولم يكن لدينا داع للشكوى عند الحديث عن الذكاء والموهبة، غير أن مُستوى المعيشة كان ادنى مما نشهدهُ في الدول المُتقدمة، كما أننا نزدادُ تخلفا عن الركب يوما بعد يوم.

 

النظام البيروقراطي المُتسلط

والسبب واضح تماما: لقد كان المُجتمع يُعاني الاختناق في قبضة النظام البيروقراطي المُتسلط، وقد اوشك على الانهيار بعد أن سُخرَ على نحوٍ تام لخدمة الايديولوجيا مع تحمل اعباء سباق التسلح المهولة. وقد اخفقت مُحاولات الإصلاح الجزئية،على كثرتها، واحدة إثر أخرى، وكانت البلاد تتحرك نحو المجهول، ومن المُستحيل استمرار هذا الوضع، ومن ثم كان كل شيء يحتاج الى تغيير جذري. ولهذا السبب، فإنني لم أندم يوما على أنني لم استفد من منصبي امينا عاما للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، للاستمرار في الرئاسة عدة سنوات أخرى، فقد كنت أرى ذلك عملا غير اخلاقي وغير مسؤول. ادركتُ أن الشروع في الإصلاح على هذا المستوى الضخم، وفي مجتمع مثل مجتمعنا، كان امرا عسيرا، بل محفوفا بالاخطار، بيد أنني ما زلتُ اعتقد حتى اليوم أن المُبادرة بالاصلاحات الديموقراطية التي بدأت في ربيع العام 1985 كانت هي الخطوة الصحيحة تاريخيا.

 

الإنصاف في الحكم على ما حدث

 غير أنهُ قد تبين لي أن عملية تجديد اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، وإحداث تغييرات اساسية في المجتمع الدولي، هي اكثر تعقيدا مما توقعنا، الا أن من الضروري توخي الإنصاف في الحكم على ما حدث:

-لقد استعاد المجتمع حريتهُ، وانعتق سياسيا وروحيا، وكان هذا هو الانجاز الاعظم، وما زلنا لا نقدره حق قدره، لأنهُ ما زال علينا أن نتعلم كيف نستخدم حريتنا، وعلى الرغم من ذلك كله فإن لهذا الإنجاز اهميتهُ التاريخية.

-وقد قُضي على النظام الشمولي الذي كان على مدى سنين عديدة يحول دون تحقيق الازدهار والنجاح في بلادنا.

-حققنا تقدما ضخما على طريق الإصلاح الديموقراطي، وغدت حرية الصحافة، والحريات الدينية، ومؤسسات الحكم التمثيلية، ونظام التعددية الحزبية، واقعا حيا امامنا، وكذلك فقد اقرت حقوق الأنسأن بوصفها من الأمور الجوهرية كليا.

-اننا نتحرك نحو اقتصاد مُختلط، مع قبول جميع أنواع الملكية، بحسب أنها شرعية بالقدر نفسه، ونتيجة لاستصلاح الأراضي بدأت طبقة الفلاحين بالانتعاش، وتنامت الزراعة، ووزعت ملايين الفدادين من الأراضي على المُقيمين في الأرياف وعلى اهالي البلدات، وتحقق الاعتراف القانوني بالحرية الاقتصادية للمُصنعين، ونشهدُ الآن تنامي المشاريع التجارية الخاصة، والمشاركات، والخصخصة.

-ومن المهم أن نتذكر أن استحداث اقتصاد السوق إنما كان يتوخى منفعة الناس، وفي هذه الأيام العصيبة يجب بذل كل جهد ممكن لتأمين شبكة للضمان الاجتماعي، وبخاصة للاطفال والمُسنين ، فنحن نعيش في عالمٍ جديد.

 

-لقد انتهت الحرب الباردة، واوقف سباق التسلح، مثلما اوقفت في الاتحاد السوفياتي عملية العسكرة المجنونة التي شوهت اقتصادنا، وضميرنا الوطني، ومنظومتنا الاخلاقية. وقد انتهى التهديد بحربٍ عالمية.

-واود أن اؤكد مرة اخرى أنني قد بذلتُ كل ما بوسعي لضمان بقاء الاسلحة النووية تحت السيطرة المُحكمة.

-وقد انفتحنا على العالم، ورفضنا التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى، واستخدام قواتنا العسكرية خارج اراضينا، ومن ثم فقد حظينا بالثقة، والتضامن، والاحترام.

-وقد غدونا احد الاركان الاساسية لإعادة بناء المدينة المعاصرة على اساس ديموقراطية سليمة .

-كما أن شعوبنا وأممنا قد اكتسبت الحرية الحقيقية لاختيار نوع الحكم الذي يناسبها، من خلال ممارسة حق تقرير المصير، وافضت مساعينا لإجراء الإصلاحات الديموقراطية في دولتنا المُتعددة القوميات الى أن اصبحنا قاب قوسين او ادنى من إبرام اتفاقية اتحادية جديدة.

-تطلبت هذه التغييرات كلها تركيز الجهود الى الحد الاقصى، وأنجزت على الرغم من المعارضة الشرسة والمقاومة المتعاظمة التي ابدتها القوى المُتشبثة بمخلفات الماضي الرجعية البالية، سواء في مؤسسات الحزب والدولة السابقة، او البيروقراطية الاقتصادية، كما تجلت المعارضة في عاداتنا، وفي تحيزاتنا الايديولوجية، وتقاليد التواكل النفسي والخمول، واصطدمت بما يعتمل في نفوسنا من تعصب وانحطاط في ثقافتنا السياسية وتخوف من التغيير، وهو ما اهدر كثيرا من الوقت، فانهار النظام القديم قبل أن يبدا النظام الجديد عمله، وزاد من حدة الازمة في مجتمعنا.

أنني ادرك مدى السخط ازاء المصاعب الراهنة، ومشاعر النقد التي يوجهها الناس للسلطات على جميع المُستويات، ولسجلي العملي، ولكن دعوني اؤكد مرة اخرى أن إحداث تغيير أساسي في بلد بهذا الاتساع وهذا الارث الضخم لا بد أن يكون امرا عسيرا ومُتقطعا ومؤلما”,

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *