سجلوا عندكم

الياس خليل… فيلسوف الشعر

Views: 583

أنطوان يزبك

 

يقول أفلاطون:” من مدحك بما ليس فيك من الجميل ، وهو راض عنك ، ذمّك بما ليس فيك من القبح وهو ساخط عليك”

 

وأنا أصغي الى الأستاذ الدكتور الياس خليل شارحا أفلاطون بسهولة العارف ودقّة العالم، انجلت غشاوة الفطرة الصفيقة عن عينيّ وسقطت آخر قلاع الجهل الذميم الّذي سدّ على جيلنا سبل المعرفة وأعاق دروبنا في عزّ أيام الحرب والتّعنّت البشري،أيام مرعبة وسوداء، كنّا نتمنّى أن تنجلي حينها الغمامة المربدة ونستشفّ الخيط الأبيض من الأسود!…

 وأنا أصغي الى الأستاذ الدكتورالياس خليل، الّذي يعرّفه المجتمع وجمهورالنّاس بلقب “الشاعر” وهو في حقيقته أكثر من شاعر ناظم أبيات، أدركت أهميّة أن يكون العقل مصدر الشرع الأعلى، وتبلور في يقيني أن الشعر لا يطفو وحيدا في محيط الوجود،من دون معرفة ، وعمق تأمّل ونظرة شاملة الى الإنسان والكون والوجود تحت عين الخالق الأعظم !

المعرفة المتجاوزة للتقليد وعناء المراوحة في وحول راكدة .تلك المعرفة الأصيلة التي وجدتها في شخص هذا الإنسان وتعابيره ،هي معرفة نابعة من قلب طاهر؛معرفة تضيء الطريق  المظلم ،معرفة أراد الشاعر والأستاذ ومعتلي المنابر أن يكتسبها من عيون المدارك العلويّة،وليدة مصادر روحيّة لاهوتيّة نقيّة ،سلسة بمعنى أنّه بمقدور الجميع اكتناه معانيها، متجلّية فذّة، فلسفيّة بامتياز، فالشعروحده لا يشتدّ عماده في عالم الشاعرـالفيلسوف الياس خليل  من دون ادراك واجب الوجود، والشاعر يمتح من ينبوع الله طلبا للالهام أو لوحي فيقذفه مباشرة في قلبه كما حصل مع القديس أوغسطينوس ذات سهرة في البستان ،فبالنّسبة له، لايكون الشعر شعرا حقيقيا ينطق بالجمال ما لم يتمحورحول ايمان صادق،عفيف، نابع من طوباوية هادئة ترتسم على وجه الياس خليل الملائكي الهادئ، الرضي والرصين، بيد أنّه في سريرته يكتنف ثورة هائلة، ثورة ليست من حديد ونار، بل من تعاليم قديسين أطهار وتجليّات ربيّة، قديسون عبروا الزمن مجتمعين، لكيما يتكوكبوا في قصائده العابرة للأزمنة وكأنّها حناجر فتيّة في كورس الكنيسة !

الياس خليل حاضر كما الرّائي على قمّة جبل، ففي خضمّ حفلات البؤس البشري المتنامي، وعزف سيمفونيات الجنّ في محضرالجنون وحروب أبالسة السياسة، قال الياس خليل هذه القصيدة في واحدة من أزمات تشكيل الحكومة الّتي ألمّت بلبنان في بداية الثورة الّتي محقت كلّ معالم الوطن ودكّت بنيانه، وصارت أكثر من مجرّد قصيدة عابرة بل نبوءة :

حرام يكون تشكيل الوزاره

خلاف وحصحصه وقسمه وتجاره

التقاتل عا الحصص مش عالمبادي

بيرضى محمّد .. بيزعل بشاره

رجالات السياسه بكل نادي

دعايه للوجوه المستعاره

بيطلّوا قبالنا متل الأعادي

وأحبّا بالفساد وبالإداره

عا محل جيابنا مدّو الأيادي

أيادي صحابها لصوص المغاره

وتمادوا بسرقة الدوله زياده

لأنّو بيحسبوا السرقه شطاره

نهبوا الرزق من زادك وزادي

وياما للدول عملو زياره

وحملوا بإيدهن كيس الشحاده

وعلينا هبّطوا سقف العماره

وشياطين المصارف عن إراده

حجزوا الأرصده باره وباره

ولغيوا الفايده ونالوا الإفاده

ونحنا كلّنا دفعنا الخساره

وشباب الآمنوا بنعمة بلادي

ما لقيوا بشجرة الدوله عفاره

الشباب الفكّروا يلاقوا قياده

ما لقيوا رجال ببلاد الحضاره

الشباب الفكّروا ينالو السعاده

عندما تحرّكوا دخلوا النظاره

الشباب الفتّشوا دور العباده

ما شافوا المسلمين ولا النصارى

وبعد ما تخصصوا وإخدوا شهاده

الزعيم الما فتح إلهن بوابو

فتح قدّامهن باب السفاره

هذه القصيدة تغني عن كل شرح، وتعطي صورة واضحة لأجيال قادمة في حال أرادت أن تفهم وتعتبر وتأخذ أمثولة عن ضياع بلد بأسره!…

وفي رغبة دائمة في استمرار الحياة والحب والفرح يقول الياس خليل في قصيدة معبّرة ومبهجة؛

“إلى كل شاعر غزل تقدّم في العمر”:

يا جبين عالي بشعرك تقوّى

موسم خيالك عاطفه سوّى

ألله عطانا من البدايه جوز

عينين تا نقشع جنس حوّا

خلّد حضورك بالنصر والفوز

وعيش بصباحك كلما ضوّى

الشاعر عا غصن العمر حبّة لوز

اللّوزه بيبس قشرها وبيكون

قلبها مبيّض من جوّا

*

يا ملوِّن بشعرك سما لبنان

إبداعك بيجتاحنا بفنّو

نفخت الزهور عطور بالبستان

وطيور قلبك زغردو وغنّو

زرتك تا إشبع من حلا القصدان

وخابو ظنوني بعكس ما تمنّو

سمّعتني ورجّعتني جوعان

ورح ضل حدّك ميِّت من الجوع

الشعر الحلو ما بينشبع منّو

*

بَعْدَك كريم وشاعر بتنحب

عصافير نحنا وإنت بيدرحب

سبحان الله الوزّع الأعمار

تهنّى بحياتك والشكر للرَّب

كلّلك منافع متل زيت الغار

خلّيك شب , الشب ما بينضَّب

ما بقبل تقلّي صرت ختيار

يا ريت فيي كون متلك شب

يقول “اللورد بايرون”: “انّ الله لم يخلق هذه الأرض،الّا لذلك الانسان الجميل الرقيق ألا وهو المرأة”.

في قصيدة عن”المرأة”  يقدّم الشاعر الياس خليل خلاصة ما تجسّده المرأة في أفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، بالاضافة الى ما يكتنزه الوعي وما يخزّنه اللاوعي في تكوين الشخصيّة البشريّة، والحال ليس علينا، اذن،سوى أن نقرأ ونتأمّل بدورنا في هذه الأبيات؛عظمة الخالق في ما وضعه بحكمته اللامتناهية، في الطبيعة البشرّية عموما والطبيعة الأنثويّة خصوصا، وفوق المعنى المتفوّق نستمتع بحلاوة الكلام والشعر العندليبي المتهافت من أفواه أجواق الملائكة في تسابيح مشنّفة: 

المرا ألله بمواهِبها غَناها .. ورفع من قدرها ومن مستواها

ومنحها العاطفه والجاذبيّه .. وكسر من ضلعنا ریشه و براها

وبمشوار السعاده العائليّه .. اعتبرها أمّ و العيله هَداها

وجمع فيها الصفات التربويه .. وشغلها بطفل عم ينمى بحشاها

وسكب رقّه ونعومه وأنثويّه .. وجعلها أخت ما بتترك أخاها

وأمَرها تكون بالرّوح الغنيّه .. زوجه البيت ما بيعمر بلاها

وخلَقها بنت للمَربی وفيّه .. برصانة أمّها بتغمر اباها

وعطاها العمر بالجدّه الهنيّه .. وزرع أحفادها نجوم بسماها

ومرَق ألله على الشّمس البهيّه .. وعسَل مقطوف من شهدو سقاها

وجبل من وَهجها أجمل صبيّه .. شقرا وعلّق الكلّ بحلاها

و سِهر عا جبال لبنان النديّه .. و بحُسن الخَلق والخُلقَه تباهی

وعجَن من سبلِة القمح الطريّه .. سمرا شارِب الخمره اصطفاها

و عصر ضمّة زنابق مریمیّه .. وحصر كل الثقافه والنّباهه

وصنع إلنا عروس الشاعريّه .. بيضا وعا النّظر دلدق صباها

وسحب بوبّو العيون العاطفيّه .. وسرق من ليلها يقظة غفاها

ورسم عبده عالوحه مرمريّه .. شهيّه نكهة القهوه بلُماها

المرا عالأرض من ألله هدیه .. زمان الأمس شعّلها وطفاها

دفنها طيّبه بالجاهليّه .. وصارت جاريه لمّا اشتراها

وسباها ونزّل عليها الخطيّه .. وحرَمها من الطّهاره والنّزاهه

وجَبَرها تكون مريم مجدلیّه .. وعِمل قلبو حجر حتّى رَماها

المرا بالحب ليلى العامريّه .. بمحبّة قَيسها تخلّد وفاها

المرا بالفَخر جاندارك الضحيّه .. حرقِت حالها بنار الوجاهَه

المرا زنوبيا الحرّه الفتيّه .. كانت تدمر كبيرِه بحِماها

المرا عين كليوباترا الأبيّه .. عقل أنطونيو داخ بهَواها

المرا غاندي العظيمه الواقعيّه .. سيوف الهند عم تطلب رضاها

و يا آدم ما بقى تِحتَك فيّي .. و كفاك تقابل الجَد بفكاهه

و كفاك تعد حوّا جهنميّه .. ليل نهار عم بتسبّ حوّا

و ليل نهار عم تركض وراها

وعن الحب الأوّل والحب المتجدد، تأتي هذه القصيدة الأهزوجة مثل ايقاع راقص ريّان ونضر، لتحتفل “بالمحبوب” وتنعش فؤادنا بالشعر الجميل المرتبط بالفرح وزهوة الشباب الخالدة في القلوب مهما تقدّم الوقت وانقضى الزّمن!:

بيتك يا صدر المحلي .. عا المفرق كان

رح إسأل أول نحله .. وين العنوان

 

قلبي العاشق ما تخلّى .. عن حب جديد

بيتحلّى و بيتسلّى .. بأحلى مواعيد

وما بطلب عمري الولّى .. يرجع ويزيد

لكن بطلب من الله .. يزيد النسوان

 

ياما حبّيت ليالي .. ولوّعت قلوب

وبعدو بيخطر عا بالي .. أول محبوب

وكان الرمان الغالي .. يهديني حبوب

وهلق عم داوي حالي .. بدبس الرمان

الابحار مع الشّاعر الياس خليل،نزهة صيفيّة على ضوء القمر، عناقيد من عنب الآلهة يستخرج منه نكتارشاف وهواء عليل منقذ من الاختناق، الشعر معه ليس كلاما يتصادى بين الأودية  فحسب ، بل نفحة قياميّة محيية وسط حريق دماغي كبير يسعى الى امتصاص أوكسجين العقول وتجفيف نجيع القلوب واخفات نبض الصدور، لكن مع الشعر الحقيقي تتبدّد كل معالم الظلمة وتفرّأشباح الوحوش الى وديان سحيقة!!….

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *