عودة الأفواه إلى ألسنتها

Views: 33

مطانيوس ناعسي 

كثُرت المخاوف التي تنتاب اللغويّين والنّقّاد والأدباء العرب من ألّا تتمكّن اللغة العربيّة الفصيحة من مجاراة الرَّكب التّكنولوجيّ أسوة بغيرها من اللغات الحيّة، ومن حجز مكانها الطّبيعيّ بين اللغات العالميّة، ولاسيّما في ميدان التّرجمة الرّقميّة الفوريّة للنّصوص المكتوبة.

فالتّرجمة الرّقميّة الفوريّة للنّصوص المكتوبة من الإنكليزيّة إلى الفرنسيّة، وبالعكس، على سبيل المثال لا الحصر، قطعت شوطًا بعيدًا في هذا المجال، في حين ما زالت التّرجمة الرّقميّة الفوريّة للنّصوص المكتوبة من اللغة العربيّة وإليها في طور متأخِّر نسبيًّا.

يستعمل العربيّ الحاسوب في هذا العصر، ويُبحر بوساطته في الشّبكة العنكبوتيّة بحثًا عن معلومات، ويحتاج في أحيان كثيرة إلى ترجمة نصّ مكتوب من الفرنسيّة إلى العربيّة، أو بالعكس، بطريقة فوريَّة، فتأتي النّتيجة مُخيّبة للآمال، لكنّ هذا الوضع لن يلبث أن يتحسّن في المستقبل المنظور نظرًا إلى الجهود التي تُبذل على هذا الصّعيد.

وتعاني اللغة العربيّة الفصيحة في هذا العصر أيضًا إهمالًا غير مسبوق من قِبَلِ الجيل العربيّ الجديد، الذي يتّجه في غالبيّته إلى لغات بديلة، ليتواصل بوساطتها مع الآخَر من أبناء قومه والأقوام الأخرى عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ولاسيّما الإنترنت، وبوساطة “لغة الشات” المُستجدّة التي يعتمدها كثيرون من أبناء الجيل العربيّ الطّالع في كتابة رسائلهم، ويتبادلونها “باللغات العامّيّة”، وبالحرف اللّاتينيّ بدلًا من الحرف العربيّ، مستعينين بالأرقام لملء فراغ فارق عدد الحروف بين الأبجديّتين.

ويعود هذا الإهمال للّغة العربيّة الفصيحة إلى أسباب عديدة، أحدها استبدال “اللغات العامّيّة” باللغة العربيّة الفصيحة في المجتمعات العربيّة، إلى درجة باتت معها الفوارق بين تلك “اللغات” كبيرة إلى درجة يصعب معها تفاهم العرب، أبناء اللغة الواحدة الموحِّدة، بعضهم مع بعضهم الآخَر.

والجدير ذكره في هذا السّياق، أنَّ اللهجات ليست جديدة في المجتمعات العربيّة، أمّا الجديد فهو “لغة الشات” التي طرأت على الرّسائل الرّقميّة المكتوبة، وغيرها من الرّسائل المكتوبة التي تُرسَل بوساطة الوسائط التّكنولوجيّة، وهي أكثر خطورة من “اللغة الشّفويّة العامّيّة”، لأنَّها حلّت محلّ الرّسائل التّقليديّة التي ظلّت تُكتب في مُعظمها باللغة العربيّة الفصيحة حتّى الأمس القريب، فكانت مفهومة وواضحة وتبلغ المُرسَل إليه من دون أيّ لبس، ما لا يتوافر اليوم مع رسائل “الشات” التي يصل معنى الكثير منها مغلوطًا إلى المُتلقِّي.

مطانيوس ناعسي

 

ولكن قد تتمكّن التّكنولوجيا من إصلاح ما أسهمت التّكنولوجيا نفسها في إفساده، بمعنى آخَر: قد يكمن الدّواء في الدّاء، وذلك بأن تقدّم حلًّا تفرضه التّرجمة الفوريّة الرّقميّة على النّصوص المكتوبة بعامَّة، وتفرضه التّرجمة الفوريّة الشّفويّة المباشرة بخاصَّة، فتعيد بذلك للّغة العربيّة الفصيحة دورها الرّياديّ من منطلق الحاجة إلى لغة عربيّة جامعة لها أصولها وقواعدها لكي يتمكّن المترجمون المختصّون من تلقيم الحواسيب تلك الأصول والقواعد، ليصبح في الإمكان اعتمادها في برامج التّرجمات الفوريّة العالميّة بشقّيها، الكتابيّ والشّفويّ، وعندها سوف تعود اللغة العربيّة الفصيحة إلى الصّدارة من جديد كتابة وشفاهة، ما سيحتّم تراجع “اللغات المحكيّة” أمامها إلى حدّ كبير، لتبقى قيد الاستعمال الكلمات ذات الأصل العربيّ، والكلمات المُعرَّبة،والكلمات الأعجميَّة والدَّخيلة التي سيترجمها المترجمون بحكم الحاجة إليها، إلى جانبكلمات جديدة بلغة المنشإِ سَتَدْخُل المعاجم العربيّة شريطة أن تكون قد أصبحت عالميَّة الانتشار والاستعمال. ومع مرور الوقت سوف تنتفي الحاجة لدى الشّريحة الأكبر من العرب إلى تعلّم أيّة لغة أجنبيّة، أو، أقلّه، سوف تنتفي حاجة تلك الشّريحة إلى إتقان أيّة لغة أجنبيّة، والأمر نفسه سينسحب على شعوب الأرض، في حين ستلجأ مجموعات صغيرة من أبناء اللسان العربيّ إلى لغات أخرى بصورة كلِّيَّة، بدلًا من إتقان اللغة العربيّة الفصيحة والتّواصل من خلالها مع باقي شعوب العالم.

ولن يمرّ وقت طويل قبل أن يصبح الإنسان في عصر التّرجمة الفوريّة الشّفاهيّة المباشرة، وعندها سوف يبلغ التّطوّر في الموضوع المطروح أوجه، لتحلّ هذه التّرجمة محلّ تعلّم اللغات، كما حلّت الآلة الحاسبة محلّ العمليّات الحسابيّة اليدويّة، وحلّ الكومبيوتر محلّ الورقة والقلم، وحلّ البريد الإلكترونيّ محلّ البريد الورقيّ… إلى درجة شبه تامّة.

ويوم يبلغ الإنسان تلك المرحلة، تكون التّكنولوجيا، وبوساطة التّرجمة، قد رسّخت هُويّات شعوب العالم القوميّة، لتخالف بذلك أهداف بعض أربابها وغاياتهم، ولتقاوم، وإنْ عن غير قصد منها، تلك العولمة بالعولمة.

فإذا كانت اللغة طريقة تفكير كما يقولون، يجب ألّا تندثر، لكي لا تندثر معها حضارة فكريّة خاصّة بشعب معيّن، ففي اللغة الفرنسيّة مثلًا يتقدّم الفاعل على الفعل في حالات معيّنة، ما يشير، في جملة ما يشير، إلى طريقة متأنِّية في التّفكير، وكذلك في اللغة الإنكليزيّة، في حين أنَّ الفعل يتقدّم على الفاعل في الجملة العربيّة في حالاتها كلِّها، ولو حصل العكس يتحوّل الفاعل إلى مبتدإٍ، لميلٍ إلى الفعل أوَّلًا مردّه إلى فطرة العربيّ التّاريخيّة المعروفة وحمأته واندفاعه، أمَّا في اللغة الفارسيّة فيأتي الفعل دائمًا في نهاية جملتها، أي بعد الفاعل والمفعول والظّرف وحتّى شبه الجملة، ما يشير إلى حرص على تأخير الفعل قدر الإمكان.

ولئن عُدَّت اللغة الإنكليزيّة اليوم لغة عالميّة، وهي كذلك، وقد تبقى، إلّا أنَّ هذا لا يعني جواز اندثار اللغات الأخرى، حرصًا على الهُويّات الثقافيَّة للشّعوب أوَّلًا، وعلى تناغم وسائل تعبير تلك الشّعوب مع طرائق تفكيرها ثانيًا، فمهما بلغ العربيّ المُقيم في العالم العربيّ من درجة إتقانه اللغة الإنكليزيّة لن يصير إنكليزيًّا، بل سيبقى عربيًّا في تفكيره، ويُمسي إنكليزيًّا في وسيلة تعبيره فقط، ما يحتّم فوارق سلبيّة مهمّة في الشّخصيّة.

لذا، على سكّان العالم حفظ لغاتهم من التّفكّك والانحلال بشتّى الطّرق في انتظار عصر التّرجمة الفوريّة الشّفاهيّة المباشرة، وعلى العرب، كونهم يعانون حاليًّا ازدواجيّة خطيرة في وسيلة التّعبير الشّفويّة، كما الكتابيّة، أن يبذلوا جهودًا حثيثة ومُضنية داخل بيوتهم ومدارسهم ومجامعهم اللغويّة وجامعاتهم ومجتمعاتهم في سبيل تعزيز لغتهم الفصيحة الجامعة وتطويرها وتحديث معاجمها، وفي سبيل إجادتها كتابة وشفاهة ليستقبلوا الغد القريب وهم مستعدّون لتلك القفزة النوعيّة في الوسيلة التّفاهميّة الأكثر أهمِّيَّة وعملانيّة بين البشر حتّى الآن، اللغة.

قد يبدو هذا الكلام أضغاث أحلام في الوقت الحاضر، لكنّ الغَدَ لناظره قريب.

(لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا المقال كان موضوعي لنيل “الماستر” في اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة اللبنانيّة تحت عنوان: “موقع اللغة العربيّة بين اللغات العالميّة في عصر التّكنولوجيا والتّرجمة الفوريّة”، ووضعته كمشروع في أواخر شهر كانون الثّاني من العام 2016، لكنّني وجدت نفسي مضطّرًّا إلى صرف النّظر عنه، وإلى البحث عن موضوع آخَر، وفي أيّار 2016 صغته كمقال لأحفظ حقّي بالأفكار التي طرحتها فيه، وقبل أن أرسله إلى صحيفة الأنوار الغرّاء، وقعتُ، لحسن حظِّي، على “فيديو” تمّ نشره عبر “يوتيوب” بتاريخ 16-5-2016 يتكلّم على آخر ما توصّلت إليه التّكنولوجيا في ميدان التّرجمة الفوريّة الشّفاهيّة المباشرة، وإذ به يتطابق إلى حدٍّ بعيد مع أفكاري التي كنت قد طرحتها في مشروعي الأوّل الذي أعددته لنيل “الماستر”، ومع مقالي هذا، ليشكّل بذلك خير داعم لتلك الأفكار، وإليكم في ما يأتي الرّابط الذي تستطيعونمن خلاله مشاهدة “الفيديو” المذكور:https://www.youtube.com/watch?v=UW9z2mWNRro )

(https://thereader.com)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *