فاتح المُدرِّس وسيمفونيّة الفنّ التشكيليّ السوريّ

Views: 192

د. أحمد حلواني*

 

تتداخل الكثير من الشوائب المُقلقة في الحديث عن الفنّ التشكيليّ وأبعاده المُمتعة في الحياة العربيّة المُعاصِرة، وقد تداخَلَ الفنّ التشكيليّ مع الزخرفة وتمّ الاهتمام بها لأنّ الرسم، ولاسيّما رسْم الأشخاص في المُجتمع المُسلم يُخشى منه مُقاربته لعبادة الأصنام، إلّا أنّ المخيال الفنّيّ عند الإنسان العربيّ وفق تكوينه الإنسانيّ بقي مُنفتحاً على إبداعاتٍ منوّعة في تطوير فنّ الزخرفة ورسوم الطبيعة بجميع حالاتها مع المجالات التعبيريّة الأخرى في مخياله الإبداعيّ الواسع.

زاد هذا الإبداع بحُكم التقارُب الذي أَحدثه التطوُّر التقني في التواصُل العَوْلَمي، ما أدّى إلى دخول جميع ميادين الفنون التشكيليّة في الحياة الفنيّة العربيّة وفق جميع ما يدور بالذات الفنيّة من تعبيراتٍ كامنة تُخرجها موهبةُ الفنّان وفق رؤياه ومِخياله. وبهذا دَخلت أنواع الفنّ من نحْتٍ وعمارة وسينما ورواية وأدب ورقص وموسيقى وغناء إضافة إلى الزخرفة الفسيفسائيّة.

وفي هذا المجال نتوقّف عند أحد أعلام الفنّ التشكيلي في سورية بحُكم كونها قلب العروبة النابض وفق ما اشتهرت به لدى جميع المواطنين العرب منذ أوائل القرن العشرين الماضي.

في توقّفنا عند فاتح المُدرِّس في سيمفونيّاته اللَّونيّة والشعريّة بمضمونها الفكري، نقصد اختياراً هادفاً يُمثِّل توجُّه الفنّانين التشكيليّين السوريّين بخاصّة وغالب الفنّانين العرب في أهدافهم الوطنيّة والاجتماعيّة من حيث تعلّقهم بوطنهم والتحفيز على ضمان سيادته بالوحدة والعمل على تطوّره وتحسين أوضاع مواطنيه بالحريّة والعيش الكريم والمُشاركة الإنسانيّة في ظلّ النظام العالَمي الجديد.

يقول فاتح المُدرِّس عن بداياته: “رسمتُ امرأةً عارية، فراحت ابنة عمّتي لتشي بي إلى أمّها ولتقوم أمّي بتمزيق ما رسمت. في تلك اللّحظة أدركتُ ما عليّ فعله في الحياة؟ إنّه الرسم”.

كان هذا الاختيار الوجودي لفاتح مبنيّاً على الرغبة الممنوعة وعلى ثنائيّة الموت والفتنة. إنّه سفر إلى الرغبة والاستحضار.

وُلد فاتح المُدرِّس سنة 1922 في حلب عاصمة الشمال السوري والمدينة ذات التاريخ العريق، وكان رحيله في حزيران/ يونيو صيف 1999.

مرّت تجربته الفنيّة بحباكة مشغولة بعناية متعمّقاً فيها بتقاطعاتِ الإبداعات العربيّة والغربيّة بحُكم دراسته التاريخ العربي من جهة، وتأثّره بالسرياليّة الغربيّة من جهة أخرى. فحمل في دواخله تكويناً تاريخيّاً سوريّاً – عربيّاً – مع حسٍّ جماليّ واضح مُحاوِلاً البحث عن الحلقات المفقودة في الانقطاعات التسلسليّة في التاريخ، مع اختلاط الواقع عنده في صيغته التعبيريّة مع الخيال.

على الرّغم من دراسته في أكاديميّة الفنون في روما ومن بعدها في باريس، فقد ظلّ هاجسه لازماً له في تأكيد هويّته السوريّة العربيّة وجذورها الحضاريّةمُعتمداً على موهبة وبحث جمالي فيه الكثير من المُغامرات ضمن مَيادين الفنون التشكيليّة التي درسها وخرائطها مُحاوِلاً تأسيس لغة تشكيليّة جديدة تعتمد التجريد واختزال الأشكال التعبيريّة بعلاماتٍ وألوانٍ سيمفونيّة تترك للمشاهد مجالَ البحث عن تفاصيلها وغاياتها ضمن ما يحمله من همومٍ ومطامح، وهو ما جَعَلَ أعماله تقترب من العفويّة الصادقة والمُعبّرة عن واقع المجتمع الشامي الذي يعيشه وحوَّل المُشاهد إلى مُشارِكٍ وفاعِل.

وفي هذا يقول: “ثمّة طاقة خَفيّة تدفعني فجأة إلى الرسم، ولكنْ بالمراس والملاحظة أدركتُ أنّ العمل المهمّ وقتٌ يحدّده العقل. وهكذا أحسّ أمام القماشة البيضاء أنّ جميع صور العالَم تكدّست فوق رأسي، فأقف عاجزاً، ثمّ أمهِّد للأمر بأن أَكنس بمكنسة لا مرئيّة كلّ الشوائب لأنّها هي التي تشوّه طهارة العمل”.

في ندوة بعنوان “الطريق إلى الوحدة العربيّة” شاركنا بها سويّاً مع نخب عربيّة من غالب الأقطار العربيّة قال لي: إنّ همّه العمل من أجل تشكيل هويّة تشكيليّة للفنّ العربي. مُستشعِراً أنّ صَوْغ مستقبل الفنّ العربي يُسهِم في فتْح طريق أوسع نحو إقامة وحدة عربيّة مدروسة.

لقد شكلّت تجربة المُدرِّس توازُناً عسيراً في التشكيل العربي بين مُختلف تجاربه وتوزّعاته فكانت تجربة تجريديّة وتشخيصيّة ممزوجة بين الشعر والقصّة والرسم التشكيلي مترافقة مع إرادة قويّة لا تعرف الكَلل ولا المَلل على الرّغم من الهزائم والنكبات التي عاصَرت، ومازالت، جيله وتيّاراته؛ وفي ذلك يقول:

“ينتابني شعور بفقدان السمع فأغيب عن ضوضاء الشارع، وأشعر أنّ الضوء حولي أخذ يخفت وتحوَّل لَوناً رمادياً وأنّني في نفق طويل، وفجأة يتراءى لي ضوء من بعيد فتأخذ الخطوط شكلها حينئذ أسمع صوتاً من داخلي يقول: قف! انتهى العمل”.

وللحسّ المأسويّ في تجربته مجالٌ كبير، وفيها باستمرار صورة والدته الفلاّحة الحلبيّة من الشمال السوري حيث تفتّحت عيناه على فسحة الأرض المزروعة، وحيث كانت أبرز علامات القصّة السوريّة في تلك المرحلة من عذابات ومُعاناة معيشيّة جرّاء حروب وانقلابات عسكريّة متعدّدة وحرمان من الحريّة السياسيّة والشخصيّة، من دون أن يشكّل ذلك لديه حالةَ إحباط، حيث كان مُستمرّاً في جميع أعماله في تحمُّل دَورٍ بارز في الإرادة المَخفيّة.

ونستطيع القول: إنّ فاتح في ما قدّمه من فنون عبر أعماله وكتاباته ودروسه لطلّابه، كان من أبرز رموز المدرسة التعبيريّة العربيّة، فكانت أعماله تنضج بالأمل الصعب وتتدلّى من ذاكرةٍ غيبيّة وبعيدة في آن معاً يؤطّرها بريشته الناعمة وألوانها التي تحملها عيناه من الطبيعة التي وُلد فيها وعاش، وفي ذلك يقول بيار أبي عاصي:

“ترشح منها دماء تمّوز وتزهر في زواياها شقائق النعمان، تسكنها سهول وهضاب، عرائس ترابيّة وبيوت من الصلصال الأبيض الشاحب أو من الطين تعلوها قباب خرافيّة وجدران متشقّقة كالأرض غَسَلَها المطر وتناوبت عليها الفصول، فيها تتناسخ طقوسٌ غامضة وتُقام جنازات صامته كأنّنا به كما يحضر الديكور يبنيه ركناً وراء ركن ويعدّ العدّة للحظة الرحيل حتّى إذا ما جاء الوقت فتَحَ باباً في لوحته ودَخلها مرّةً أخرى”.

هكذا كان فاتح المُدرِّس وقد التحق بأساطيره وعاد إلى الأرض التي كان يهجس بها قرابة ستّين عاماً. ثلاثة كُتب وعدد كبير من الدراسات والمقالات في نشْرِ مفاهيم الحداثة في الفنّ التشكيلي إضافة إلى رسومه وحواراته مع نُخبٍ من اتّجاهاتٍ مُتبايِنة كما حواره مع أدونيس حيث اتَّفقا في دَور الفنّ واختلَفا في الفكر.

وفي استعراضنا لأعمال فاتح عبر سيمفونيّاته لا ننسى أو نتجاوز الفنّانين السوريّين الذين برزوا عبر أعمالهم التشكيليّة الكبيرة أمثال لؤي كيّالي وممدوح قشلان ومحمود حمّاد ونذير نبعة ونصير شورى وإلياس زيّات ونعيم وأدهم إسماعيل وغسّان السباعي ومروان قصّاب باشي وغازي الخالدي وخالد المزّ وغيرهم الكثير، ممّا يؤكّد أهمّيّة إيجاد متاحف للفنّ التشكيلي بمختلف مَيادينه في المُدن العربيّة جمعاء، إضافة إلى المَعارض.

***

*أستاذ جامعي وكاتب سوري

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة افق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *