كنت أفتّش عنكَ…ووجدتُك في الشّخروب

Views: 288

إيمان ريدان

 

المشهد الأوّل

الدّرب طويل ومتعرّج. يرتفع تباعًا حتّى يكاد يصل إلى الغيوم، ثمّ يتهيّب عباءة صنّين فيتوقّف، إجلالا. عند تلك الصّخرة بالذات، قريبٍ من تلك الصّومعة، إلى جوار شجيرات تفّاح أحمر، أو على مرمى حجر من المنزل الشّتويّ الّذي كتب فيه مرّة “سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر..”

هناك حيث النّقاء، كان اللّقاء وناسك الشّخروب، الّذي انتظر سنوات، ليلتئم الشّمل من جديد..

أهي عشرون سنة..ثلاثون…أربعون … أم أكثر! منذ أن رمتني تلك الأفكار إلى بيادر من جمال وخير وحبّ.

كان حبلَ نجاة مُدّ من حكيم إلى تائهة صغيرة، حينها، وقعَت في هوّة سحيقة من هذيان وجوديّ.

مقلقةٌ هي تلك الأفكار الّتي لا تستكين، فتخترع الأسئلة المحيّرة، في حين أنّ الجواب المطمئن الوحيد قد يكون في الإيمان المحبّ لكلّ الوجود.

 

المشهد الثّاني

ما همّ، لنعد إلى الحاضر الزّاهي، وكيف تتكلّم الأمكنة بكلّ هذا الكلام غير المباح من قبل.

مكتبُه، حيث ولادةُ عشرات الكتب ( بعد عودته  من المهجر)،  ووضعه آلاف المقالات، وحيث إشراق الأفكار والفلسفة. وسريرُه الّذي حضن أحلامه وتأمّلاته في عالم يفصح له، قبل إغماضة الجفنين مساء، عن معارف جديدة، وتعاطف شغوف مع الفقراء والمهمّشين والمعذّبين والمظلومين في الأرض..

كلّ ذلك كان مكشوفَ الحجب بالأمس، وكأنّ أبواب الأسرار قد فتحت فعاد النّاسك يتلو عليّ صلواته.

  غسلني البكاء بحنوّ عميق وشفيف، إذ وجدت نفسي… بعد غربة طويلة.

 

المشهد الثّالث

إلى ساحة عرض فيلم “تسعون” للمخرج الرّاحل مارون بغدادي، والسّاحة زاوية من حقل على مدخل الصّومعة. حضر الكثير من المحبّين، مستدفئين حضورًا طاغيًا لسيّد المكان المتحوّل والزّمان الجاري.

لحظات، وأطلّ ميخائيل نعيمه في عقده التّسعين، يتكلّم كما لا يتكلّم احد. يبتسم، يتأمّل قليلًا، يمشي بثبات وشموخ، يصمت، ثم تخرج الأفكار بتناغم وعفويّة وتلقائيّة مستندة إلى فكر ثابت، محورُه الانسجام مع الكون ومخلوقاته.

يعرّفنا نعيمه على بيته هنا في الشّخروب، وكيف أعاد إعماره، شبه متأكّد، لو عاد والده من العالم الثّاني لما عرفه، وهكذا يقول : الكون متغيّر لا يهدأ. أبوه، سليم الطّويّة، نقيّ القلب، وأمّه حنونة، هما غير متعلّمين، وكان حلم والدته أن ترى في البيت، أقلامًا وأوراقًا وكتبًا، وهكذا كان. ولكنّ “ميشا” العائد من أميركا والمتعطّش إلى الوحدة والتّأمّل والكتابة بهدوء، كان ينسى أن يأكل، وتمتدّ ساعات الكتابة في غرفته حتّى بعد الظّهر، فتفتح والدته باب مكتبه، عاتبةً: يا بنيّ، تمنيّت أن تكون متعلّما ولكن، ارحم نفسك.

نشاهد على الشّاشة الكبيرة، المنصوبة هنا على أقدام صنّين، الرّبيع والثلج معًا في بسكنتا. يقول المصوّر حسن نعماني(مصوّر الفيلم عام 1978)، وقد غزا الشّيب مفرقه فزاده انتقاء للكلام: إنّ التّصوير تمّ في حوالى عشرة أيام، شهدنا خلالها ويا للعجيبة أكثر من فصل في آن واحد”.

يعترض نعيمه على تسمية ” وادي الجماجم”، وهو يصف لنا مبهورًا هذا الوادي الجميل  بجباله ومسارب مياهه، إنّه وادٍ للحياة، أمّا هذا المدى المحيط بنا، والّذي نعتقده خطأ فراغًا، فهو ممتلئ بروح الكون والأسرار المنكشفة للمريدين. كلّ ما يشغل هذا الفراغ لا يعدو كونه كمشة نجوم أو غبار منثور في الفضاء.

وفي مناجاته لرفيق دربه وصديقه جبران، وقد رفعها من متحفه في بشرّي، متأمّلا رسوماته وكتبه، يتحدّث نعيمه بشغف عن تلك الصّداقة والتّوافق في الأفكار بشأن الحياة والموت والتقّمّص، متسائلًا عن حكمة الحياة في تقصير عمر جبران إلى ما دون الأربعين وإطالة عمره إلى ما فوق التّسعين.ولكنّه يعلّل ذلك، أنّ عمله في هذه الدورة من الحياة ربّما لم ينته بعد. وإذ يتأمّل أن يجمعهما لقاء في حياة ثانية كما السّابقة، يعلن متيقّنًا بأن لا موت في العالم بل حياة متجدّدة، من دون أن نعرف إلى أين ننتقل بعد كلّ حياة.

أمّا نظرته إلى المدينة، فكانت من شرفة منزله في الزّلقا، متحدّثا عن المدن، وكيف أنّه لا يجب أن يزيد عدد سكّانها عن الخمسة آلاف نسمة، إذ إنّ الاكتظاظ فيها يجلب إليها شتّى أنواع الشّرور والتّلوّث والضّجيج، في حين أنّ الرّيف القريب من الطّبيعة مجبول دائمًا على الفطرة، والطّيبة والتّواضع، بخاصّة وأنّه عاش في المدن الكبرى، نيويورك مثلًا، وقد شبّهها في كتابه “زاد المعاد” بمدينة الآلات والأزمات. وقال: صحيح أنّه يعتزل أحيانًا النّاس إنّما ليفهمهم ويحبّهم أكثر…

وقد يكون أنّ أجمل ما نستخلصه من محطّة منزل ابنة أخته في بيروت، عدا عن حواره الخفيف الظّلّ مع حفيدة أخيه سهى، هو الإطلالة على المحيط الأخضر النّادر، معجبًا بشجر النّخيل إذ يتمايل مع الهواء المقبل من جهة البحر.

وإذ تلتقط الكاميرا مشاهد البيوت المدمّرة بفعل الحرب، والنّفايات حول المكان، يتأسّف نعيمه على ما فعلته الحرب العبثيّة، متسائلًا عن الحكمة من هذه الفظاعات وأثمانها، مختارًا تجاهل السّوداويّة والبشاعة، ومتأمّلًا فقط في الجمال والإيجابيّة..

 

…مشهد أخير

صورة نعيمة، والكاميرا تدور حوله، ترصد عينيه وحركات جفونه في العتمة، فنراه يمسح زاوية جبينه بلطف، وكأنّه يُريح بيده الحانية عصف الأفكار الّتي استخلصها من تجارب السّنين وحكمتها، وقد زرعها على الورق والمسامع، فنبتت، كما قال مرّة، في قلوب القرّاء.

إنّها عجيبة ميخائيل نعيمه، كيف يُبعث في كلّ مرّة نحتاج إلى الحكماء والعارفين والقادة الّذين يمسكون بيدنا إلى عالم صافٍ، لا مكان فيه للبغضاء والأحقاد، إنّما لحبّ غير محدود .

رافقَنا الفيلسوفُ في كلامه المشجّع والمحبّ في طريق العودة من الشّخروب إلى عالمنا ذي الإيقاع السّريع والصّارم، ولكنّ “تسعون” وقبلها “سبعون” وما بينهما “كرم على درب”، و”زاد المعاد” و”البيادر” و”اليوم الأخير” و”مرداد” وقبلهم “الغربال”ووو ….عبقٌ من كلّ ذلك، كان يدوزن الإيقاع الجديد لحياتنا الأرضيّة.

 أيّها العارف الجميل، كنت أفتّش عنك ووجدتك… في كلّ مكان.

 *(تمّ تصوير فيلم” تسعون” في العام 1978، وبعد فقده، تمّ العثور عليه في مختبر LTC الفرنسيّ. عُرض مرّتين فقط في المركز الثّقافيّ الفرنسيّ في عامَي 1981 و 2021)

بادر” نادي لكلّ النّاس”و “العمل للأمل”، لعرضه في المناطق بتشجيع من عائلة ميخائيل نعيمه

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *