أزمة الوعي الأوروبي (1680- 1715) يوم رأت الفلسفة أن على العالم السير بحسب نظام جديد

Views: 438

وفيق غريزي

كان معظم الفرنسيين يفكرون مثل “بوسوييه”، وفجأة اصبحوا يفكرون مثل “فولتير”. إنها الثورة…

 بين سنة 1680 وسنة 1715، كانت الافكار الأكثر تناقضا تتجابه، والنظام الكلاسيكي، الذي استرجع قواه بعد عصر النهضة، كان يبدو ابديا. وعلى الرغم من ذلك وبعد العام 1680، اصبح كل شيء يتحرك، لقد بدا وكأن ريحا خارجية تهب على النظام الرسمي، فقد اصبحت لبعض العقول الجرأة على الادعاء بان الفلاسفة الحديثين يوازون الاقدمين، وأنه يجب أن يتغلب التقدم على التقليد. 

كان ذلك العصر عصرا مفصليا، حيث امسى المرء يناقش في الثورات وفي حقيقة النصوص المقدّسة وفي الاسرار، وراح احرار التفكير يحاربون التقليد، ويتكلمون على الحق الطبيعي ويحلمون بعصر من السعادة المبنية على العقل وعلى العلم. إن هذا الغليان المذهل للافكار وللرجال هو ما يعرضه ويحلله  بول هازار  في كتابه “ازمة الوعي الاوروبي”، الذي اصبح كلاسيكيا، وهو إن صح القول، يعيد كتابة تاريخ اصول اوروبا المعاصرة.

 

الثابت والمتحرك 

كانت امنية العصر الكلاسيكي الثبات على الحال نفسها وتجنّب أي تغيير قد يعرِّض هذا التوازن العجائبي للتدمير. إن الفضول الذي يعتور النفس القلقة خطر ومجنون، اذ أن الرحالة الذي يسعى حتى آخر المسكونة لا يجد ابدًا إلا ما يحمله معه، أي حالته الانسانية، وعندما يجد شيئا آخر يكون قد اضاع ذاته، فليركزها على العكس من ذلك، وليستعملها حسب قول المؤلف بول هازار في المسائل الأزلية التي تحل بالهرب منها. وكما قال مسيناك: “الدليل الأول للعقل منظم تنظيما جيدا هو كونه يستطيع التوقف والبقاء مع ذاته في وقت واحد”، واكتشف الفيلسوف الفرنسي باسكال أن مصيبة الناس كلها تأتي من أمر واحد هو عدم معرفة المرء البقاء مستريحا في غرفة ما. إن العقل الكلاسيكي في قوته يحب الثبات، انه يريد أن يكون الثبات بعينه.

 بعد عصر النهضة وعصر الاصلاح، جاء عصر التأمل والحركة. كان القرن السابع عشر عصر انتصار الاسفار، وهو نوع أدبي حدوده غير واضحة المعالم، ملائم وعملي، يسمح للمرء أن يكسب فيه كل شيء، كالمقالات ومصنفات المتاحف، وقصص الغرام. ويؤكد المؤلف أن اوروبا لم تتوقف ابدا عن العمل لاكتشاف العالم واستغلاله، فهذا القرن اكمل المهمة التي ورثها من القرن السادس عشر، ومنذ سنة 1619 ظهر كاتب غامض يدعى برجرون وسنة1736 توماس كامبانيلا، راحا يدرسان ما يأتي: بما أن اكتشاف الكرة الارضية قد ناقض بعض المعطيات التي ارتكزت عليها الفلسفة القديمة، فيجب أن يؤدي ذلك الى تصور جديد للاشياء. بيد أن البلدان التي دخلت في افق الاروبيين بعد استعمارها، امست تشكل مادة للاحاديث العلمية، بحيث أن ديانة بعض الشعوب (في مصر القدية مثلا) كانت متماسكة جدا ونبيلة، وابعد من ذلك كانت حضارتهم جميلة جدا، فمن حافظ على حقوق الفكر والثقافة بعد أن طغت البربرية على العالم، هم العرب. 

 

العقلانيون

بما أن مجهولا اسمه العقل شرع بالدخول منذ سنوات، وبالقوة، الى معاهد الجامعات الاوروبية، وبما انه يريد امتحان ارسطو وطرده، مستعينا ببعض الظرفاء الذين لقبوا انفسهم بالغاسيديين والديكارتيين والمالبرانشيين، وهم اناس عديمو الاخلاق حسب رأي بيرنيه، وفي هذا المجال يقول المؤلف: “كان ذلك صحيحا، فالعقل العدواني بدأ بالتدخل، كان يريد أن يتفحص ليس فقط ارسطو، ولكن كل من كان قد فكّر وكل من كان قد كتب.. كان يدعي انه سيضرب عرض الحائط بكل الاغلاط السابقة وسيبدأ الحياة من جديد”. لم يكن العقل مجهولا لأنه كان دائما يستدعى. وفي كل الاوقات، ولكنه الآن بات يبدو بوجه جديد، وثمة سؤال يطرح نفسه: هل العقل هو المقدرة التي يفترض أن يتميز بها الانسان عن البهائم، والتي من الواضح أنه بواسطتها يتخطى البهائم بكثير؟ والمؤلف يجيب على هذا السوال باعتقاده أن ذلك حاصل من دون شك، ولكن بشرط أن تمتد امكانات هذه المقدرة المتفوقة من دون أن يحدها شيء، وحتى المسارات القصوى. وكان العقلانيون يهرعون لنداء العقل نشطاء ومتحمسين ومستبسلين.

إن العقل المندفع لم يعد يتوقف، فهو لا يعترف بقيمة او تقليد او اي سلطة، وهو يعلن بأنه لا يوجد اي ضرر من أن يرفض كل شيء كي يفحص كل شيء. ومن العقلانيين سبينوزا الذي يصنف بين البناة، البناة المتعالين. لقد كان يعترض بحماسة ضد الفكرة التي ربما هدمها من دون أن يعيد بناءها. ففي كتابه “الاخلاق” يقدم افخم قصر من المفاهيم اختلطت قببه مع السماء. ويرى المؤلف، أن سبينوزا كان يعرض تصاميمه ونظرياته واستنتاجاته، ثم يشرح ذلك بعلة الذات وهو يخفي جوهره ووجوده أو ما تستطيع طبيعة أن تدرك الا بوصفها موجودة. ويعني الجوهر ما يتصوره العقل في الجوهر مكونا للذات. ويقول المؤلف هازار: “يوجد جوهر واحد مكون من موجود، موجود من الله، ولا شيء يمكن أن يكون او أن نتصوره من دون الله، الله فكر. والانسان في روحه وجسده، هو شكل الكائن، وبوصفه كائنا، يميل الى الاستمرار في كينونته، بالجهد الذي يسمى الارادة.

الحقيقة الاجتماعية

إذا كان هناك رجل اكد استقلالية الاخلاق والدين بشكل اكثر وضوحا وقوة من جميع سابقيه، فهو بيار بايل،  لقد عاد الى الموضوع مرارا. 

إن خلقية مستقلة هي اسمى من اخلاق دينية، لأن الأولى من وجهة نظر المؤلف لا تنتظر مكافآت ولا عقوبات، ولا تحاسب الا نفسها، بينما الثانية، بما انها تخالف جهنم وترجو الجنة، ليست ابدا بعيدة عن النفعية. وزايد “توليند” بأن الالحاد الأبغض هو اقل خطرا على الدولة وعلى المجتمع البشري، من المعتقدات الباطلة المتوحشة والبربرية التي تملأ الدول الاكثر ازدهارا بالانقسامات وبحركات العصيان، والتي تلحق الضرر في اكبر الممالك، وغالبا ما تزعزعها، والتي تبعد الابناء عن ابائهم والاصدقاء عن اصدقائهم، وتفسخ وحدة الاشياء التي يجب أن تكون موصولة باوثق الروابط. لكل الباحثين المسيحيين في علم الاخلاق يعتبرون الرد على ذلك بان هذه العقائد التي يجري السعي لاحيائها كانت المسيحية قد طوتها منذ 1700 عام. اذ ذلك، حسب اعتقاد المؤلف، ظهرت خلقية حديثة جدا، هي خلقية الناس الشرفاء، وهي لا تألف الاقتباس من مصادر العصور القديمة،التي كانت تفضلها على اي حال، على المسيحية، لكنها، يقول الموًلف هازار: “كانت تستند خاصة الى العقل، الى عقل كان قد تحضر ولم يعد قاسيا او متزمتا كما في الماضي، ولا يحافظ على اي شيء تقريبا من قساوته القديمة”. يجب نسيان زمن كان يكفي أن يكون المرء فيه قاسيا ليكون ذا فضيلة، وذلك لأن التهذيب، والاخلاق، وعلم الشهوات تشكِّل جزءا من الحرارة الحاضرة. اما بالنسبة الى بعض الاعمال الخبيثة، فيجب أن تستمر طالما يستمر العالم، ولكن على الاوروبيين أن يستحسنوا ما يسميه الرقيقون لذة وهو ما سماه الناس الافظاظ والقساة رذيلة. 

هذه الخلقية لم تكن تستبعد اللذة، ولا حتى الشهوة، شرط أن تكون معتدلة، وموجّهة. ومع ذلك لم تكن تستطيع أن تدعي أن لها قوة الالزام، بل اقل من ذلك ايضا. إن لها قيمة عامة، ولفهمها وممارستها كان يجب أن يدعى الفرد أنها خلقية ارستقراطية، تركيبة ضعيفة، حل وسط، لا هيمنة، ولكن تكيف.

   ويتساءل هازار، هل الخير الاجتماعي، هو محض فضيلة؟ هل تنجح الجماعة التي تنجز واجبها القاطع، بان تزدهر او أن تعيش فقط؟ ذلك ما يشك به ” جون لوك”. ولكن ايضا ما كان يضعه موضع الشك ايضا ذو روح سيئة، وفاسق ازعجه الاخلاقيون الذين كانوا يدعون انهم لا يجدون في قلب الانسان الا مروءة وحسن التفات وغيرية.

 

اوروبا ارض النزاعات والغيرة

إن اوروبا بنظر المؤلف هي ارض النزاعات والغيرة والحسد، والمرارة، والخشونة، واللاتين يزدرون الالمان “تلك الاجساد الغليظة، والسمات الفجة، والاذهان الثقيلة”. والالمان يزدرون اللاتين “التعبين الفاسدين”، واللاتين يتخاصمون في ما بينهم، وكأنهم يتعذبون عندما يفرض عليهم الاعتراف بمزايا امة مجاورة، فالعيوب هي التي تخطر دوما على اذهانهم.

ولكن يقول المؤلف: “قد ترسم حركة الفكر الحديث كما يلي: انطلاقا من عصر النهضة، ثمة حاجة للابتكار، وشغف للاكتشاف، وحاجة ملحة لنقد ظاهرة لدرجة يستطيع الاوروبيون معها مشاهدة السمات السائدة لوعي اوروبا”. وانطلاقا من وسط القرن السابع عشر تقريبا هناك توقف موقّت، وتوازن مفارق يتحقق بين العناصر المتواجهة، وتوفيق يتم بين القوى المتخاصمة. وهذا النجاح، المذهل تماما يعتبره المؤلف انتج الكلاسيكية. وهي فضيلة السكينة، وقوة ساكنة، ومثال الاطمئنان النفسي بلغة اناس يعرفون الاهواء والشكوك، كباقي البشر، ولكنهم يتطلعون الى نظام مخلص، بعد اضطرابات الزمن الماضي، من دون أن يعني ذلك أن روح النقد قد ابطلت. بعد ذلك طرأ تغيير، لامست نتائجه عصرنا الراهن، قد حصل في السنوات التي كان فيها عباقرة يدعون، قد باشروا بفحص ضمير كامل من اجل تحرير الحقئق التي تهيمن على الحياة منذ حين. ولكي نردد قول احدهم (لايبنتز) باسطين على العالم الاخلاقي ما كان يقوله عن العالم السياسي: “لقد بدا نظام جديد للامور في السنوات المنتهية من القرن السابع عشر”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *