الرئيس بوتين يراقص حلف شمال الأطلسي على حافة حرب نوويّة مستحيلة

Views: 290

د. إيلي جرجي الياس

 

*الحلقة 41 والأخيرة من سلسلة القيادات الروسيّة والسوفياتيّة 1900-2022، رؤية تحليليّة واستراتيجيّة!! 

 

في خطوة استراتيجية، خلال شهر آذار 2022، بعد اندلاع الحرب الأوكرانيّة يوم 24 شباط 2022، أصدرت الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا، بياناً صريحاً، تؤكّد وتتعهّد فيه العمل على منع انتشار الأسلحة النووية في العالم، بما في ذلك بطبيعة الحال الحيلولة دون احتمال اندلاع حرب نوويّة شاملة، لأنّها مدمّرة بالكامل، ولا يمكن لأحد حسمها وكسبها. وقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بشكلٍ واضح، خلال شهر آب 2022، أنّ روسيا، كدولة طرف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ملتزمة بنصّ المعاهدة وروحها. وأنّ الروس أوفياء بالتزاماتهم كاملةً بموجب الاتفاقيات الثنائية مع الولايات المتحدة الأميركية، بشأن خفض الأسلحة النوويّة، وحتّى الحدّ منها. إلّا أنّ مخاطر نشوء مواجهة نوويّة تبقى قائمة على ضوء الدعم المطلق لأوكرانيا من قبل حلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتّحدة.

 

الحرب المستحيلة

يعلم القيصر فلاديمير بوتين أن الحرب النوويّة أي الحرب العالمية الثالثة مستحيلة الحدوث، استناداً إلى الخطوط الحمر الدوليّة، ومعايير الحروب العسكريّة وفقاً للجيلين الخامس والسادس… إلّا أنّ الحرب الأوكرانيّة بعد أشهر من اندلاعها، أثبتت كفاءة القيصر في أن يراقص جسد حلف شمال الأطلسي برأس الولايات المتّحدة الأميركية، على حافة تلك الحرب النوويّة المستحيلة… 

إنّه القيصر الذي لن يتكرّر…

 “لقد استطاعت الثورة البلشفية الروسية أن تحقّق إنجازاً مفصلياً في تاريخ روسيا، عبر وضع نهايةٍ حتميّة وحاسمة لحكم العائلة القيصرية الروسية…

وتتالى على الحكم سلسلة من القادة، ولكلّ منهم ميّزاته وأسلوبه في الحكم وإدارة شؤون الدولة…

ولعلّ أكثر القادة استفادةً من تجارب الماضي، عبر التاريخ الروسيّ، الرئيس الروسيّ الحاليّ فلاديمير بوتين متابعاً شاملاً ومحلّلاً بارعاً لكلّ تلك التجارب وتداعياتها السياسية…

 

ثلاثة كبار، طبعوا التاريخ السوفياتيّ – الروسيّ الحديث والمُعاصر، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى: الزعيم السوفياتيّ الشيوعيّ القدير والمستبدّ الخطير جوزف ستالين، الذي يخامره الشكّ والقلق من كلّ رجاله المخلصين أو الطموحين، لكنّه يدير ظهره للفوهرر أدولف هتلر بكلّ ثقة، فيتلقّى طعنات الغدر منه، إلّا أنّه سيتصدّى للهجوم ثمّ للاحتلال النازيّ بكل إرادة صلبة وصمود أسطوريّ، وسيكتب له الانتقام من النازيين فرصةً للتعويض عمّا ارتكب في الداخل من حماقات وإعدامات!! والزعيم السوفياتيّ الآخر ليونيد بريجنيف، المتألّق في الحكم والسلطة وإدارة مفاصل القرار في الدولة بحنكة عالية وحكمة واضحة، ولو أنّه حيّر الأقربين والأبعدين بقدرته على إدارة الملفّات المعقّدة بسلاسة!! والرئيس الروسيّ العظيم، فلاديمير بوتين، العائد بروسيا التاريخية إلى ساحات القرار الدوليّ، بإمكانيات واسعة ورؤية ساطعة ومستقبل واعد، بفضل مهارة سياسية عالية وقدرات استراتيجية استيعابية نوعية!!

 

وبين الثلاثة الكبار، من رسم الطريق كفلاديمير لينين، ومن تمّ التضحية بتعاليمه كليون تروتسكي، ومن أمّن المرحلة الانتقالية كنيكيتا خروتشيف، ومن لم يمهله الزمن الوقت الكافي كرجل الاستخبارات العنيد يوري أندروبوف، وخلفه كونستانتان تشارنينكو، ومن أضاع مجد الاتحاد السوفياتي عن قصد أو دون قصد، كميخائيل غورباتشيف، ومن مثله بدّد مجد روسيا، كبوريس يالتسن، إلّا أنّه أحسن في اللحظة التاريخية المنشودة، اختيار الوريث ليكون المنقذ الأكيد!! دون أن ننسى صديق بوتين الوفيّ، والرجل السياسيّ الهادئ، ديمتري ميدفيديف، رئيساً!!

عودة روسيا إلى الساحات الدولية

 نعم، لقد كان الرئيس بوتين أكثر المستفيدين من تجارب القادة السوفيات والروس السابقين… وإن كان منطق الحروب الباردة، قد غلب بعد الحرب العالمية الثانية المدمّرة، لأنّ أي حرب عالمية ثالثة لا يمكن أن تتمّ إلّا وتؤدّي إلى نهاية العالم المتحضّر، فالقدرات النووية لا حدود لها في مجال الدمار الشامل… ولكن، الرئيس الروسيّ العنيد فلاديمير بوتين ميّز الحرب الباردة الثانية 2000 – 2020، بجرأة سياسية غير اعتيادية، وإمكانيّات استراتيجية وعسكرية واستخبارية غير مسبوقة…

 

 لقد اتخذ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين القرار الحاسم: عودة روسيا الاتحادية بقوّة إلى الساحات الدولية، ولو اقتضى الموضوع مواجهةً استخبارية حادّة مع الأميركيين خلال الحرب الباردة الثانية، بعدما كاد المشروع الأميركيّ بإنهاك روسيا ينجح في الفترة الممتدّة بين ولاية الرئيس السوفياتيّ الأخير ميخائيل غورباتشيف والرئيس الروسيّ الأوّل بوريس يالتسن…

 

أحكم الرئيس فلاديمير بوتين قبضته الحديدية في الداخل، فأقصى مراكز القوى والمافيا الاقتصادية، وكلّ معارضة مدعومة من الغرب، وصولاً حتّى تجربة أليكسي نافالني… وعمل على حماية وصيانة المجال الحيويّ لروسيا: أعاد الشيشان إلى الحضن الروسيّ، ووضع حدّاً للطموحات الجورجية، وحاصر الأحلام الأوكرانية في مهدها فضمّ القرم – المنطقة الاستراتيجية – إلى روسيا، ووفّق بين أرمينيا وأذربيجان في سبيل المصلحة الروسية المطلقة، وتدخّل في سوريا فارضاً كلمته الفاصلة، على مسافة من الدهاء السياسيّ بين القدرات الإيرانية والطموحات السعودية والآمال التركية، وتفوّق حضوراً سياسياً واستخبارياً في البلقان، وبات الحاكم والحكيم والحكم، وكأنّه القيصر الروسيّ الجديد في مطلع الألفية الثالثة…” الدراسات الأمنية، مجلة فصلية محكمة، تصدر عن الأمن، العدد 91، تموز 2022، ص 96، 97. 

***

*د. إيلي جرجي الياس، كاتب، وباحث استراتيجيّ، وأستاذ جامعيّ.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *