الحبر الأبيض في “بوهيمية” ميراي شحاده

Views: 767

د. ميرنا ريمون شويري

لا يتفق النقاد على تعبير الأدب النسوي، فالبعض يعتقد أنَّ صوت الرجل لا

يختلف عن صوت المرأة و البعض الآخر يؤكّد أنّ للمرأة صوتًا مختلفًا، فالمفكرة هيلين سيكسوس مثلًا تؤكّد “أنّ المرأة لا تستطيع أن تفصل جسدها عن (Cixous, 311) كتاباتها، و بأنها تكتب بحبرأبيض.”

والحبر الأبيض يشير إلى حليب الأمّ وطبيعة جسد المرأة. أعتقد بأنّ  بعض الأقلام النسوية لا تختلف أصواتها عن كتابات الرجل، ولكن الكثيرات يكتبن بتمرّد و لكن “بالحبر الأبيض”، ومنهنّ الشاعرة اللبنانية ميراي شحاده.

ترسم الشاعرة  شحاده في كتابتها البوهيمية ملامح قلمها الغجريّ الأنثوي الذي يفصلها عن مجتمعها الذكوري، وفي الوقت نفسه يشعر القارىء بأنّها لا تستطيع أن تتحرّر كليًّا منه. يحرّرها قلمها من الانتماء إلى أيّ وطن أو إنسان لتعيش في لغتها التي تساعدها أن تحمل حقيبتها، فتسافر في عالم السراب إلّا أنّها تبوح لقرّائها بأوجاعها بسبب ضبابية هويتها وتهميش المجتمع لها ربما هذا ما يجعلها غير قادرة على أن تنفصل نهائيًّا عن مجتمعها. وعندما تختار شحاده الشعر تضع نفسها على أرض متحرّكة لا يدوسها إلّا المهمّشون والمنبوذون من المجتمع إلّا أنّ القارىء يشعر بولادتها الوشيكة. في هذا السياق تطرح جوليا كريستيفا إشكالية أنّ المجتمع يهمّش أيّ شيء يهدّد استمراريته، لذلك المرأة المطلّقة تعتبر تهديدًا للمجتمع لأنّه يعتبرها مهدّدة للعائلة، والشعراء بالنسبة لها من ضمن هذه المجموعات وخاصّة الشاعرات.

تؤكّد كريستفا في مقالتها ثورة اللغة الشعرية على أنّ الشعر يتمرّد على العالم الرمزيالذي يرمز إلى قوانين الأب والبطريركية إذ يحاول أن يستبدله بفوضوية العالم السميائي أيْ مرحلة الأمومة. فكلّ إنسان بالنسبة لها يجب أن يقطع علاقته بأمّه (Kristeva, 11) وينتقل إلى المرحلة  الرمزية.

 وبعكس الحركات النسوية المتعصّبة تدعو كريستيفا المرأة ألّا ترفض العالم الرمزي symbolic،لأنّها بذلك ترفض المجتمع بل على العكس يجب أن تكون لها مكانة ودور في العالم الرمزي لكي تستطيع تغييره. إضافة إلى ذلك فإنّها تنتقد وجهة النظر النسوية بالنسبة للأمومة، فتقول كريستفا إنّ المرأة أقرب إلى البرية من الشمس التي هي علامة العالم الرمزي، وذلك لأّنها لاتستطيع أن تنفصل عن العالم السميائي و بما أنّ اللغة تنتمي إلى العالم الرمزي لأنّها تعتمد على المنطق فإنّها تهرب منها وإليها كما تنتمي دائمًا إلى عائلتها حتى ولو كانت بطريركية مهما كانت متمرّدة.

 

يرى القارئ أنّ شحاده كتبت كتابها في العالم السميائي إلّا أنّها لم تستطع أن تقطع علاقتها بالعالم الرمزي، وهكذا تحولت إلى غجرية تتنقل بين العالمين وحتى العنوان “بوهيمية” يشير إلى طبيعتها الغجرية وإلى انتمائها إلى عالم الشعر .. فنراها تفتّش عن دور لها، وهي تعرف مدى خطورتها:

أنا امرأةٌ يا صديقي

لم تتقنِ الطهو كباقي النساءِ

….

و لم تكترثْ لحلِّ

ألغازِ الفلكِ والحسابِ!

فلا يليق بها، حبيبي

سوى أن تكتبَ إليكَ الشعرّ

صبحًا ومساءً (27)

تعرّف شحاده دورها بطرق مختلفة عن الأدوار المعروفة في المجتمعات، فهي شاعرة تجسّد تمرّدها على كلّ التقاليد، وتمسّكها بالعالم السميائي يعكس رفضها لسلطة البطريركية، ولكن في الوقت نفسه نتلمّس عدم رفضها لقوانين العالم الرمزي، لأّنها لا ترفض ذكورية حبيبها:

” لن أعرفَ يومًا نشوةَ الاستقلالِ منكَ مولايَ!

هو الطاغيةُ، ولا أريدُ يومً الاحتفاءَ بجلائِه واستقلالي!” 112

و في حكايتي مع التفاصيل تشي للقارىء بأسرار قلمها إذ لا يتخطّى طبيعتها الأنثوية : “ما لي وما لهذه التفاصيل؟ّ! أراها تصقلني…”. وهذا يدلّ على أنّها كما تقول كريستفا وسيكسوس: المرأة لا تستطيع أن تفصل نفسها عن جسدها وطبيعتها، وبالتالي هي مقيدة بالعالم السميائي والرمزي على حدّ سواء.

في قصيدتها أخطر النساء تبيّن أنّ دور الشاعرة يضعها بين المهمّشين، فمع أنّ الشاعر أيضًا يعيش بين العالم الرمزي والسميائي إلّا أنّ المجتمع لا ينبذه كما يفعل مع نظيرته، لأنّ العالم الرمزي يعطي الرجل امتيازات يحرم المرأة منها. ورغم ظلم المجتمع لها إلّا أنّها تتمرّد عليه، وتحاول أن تسلّط الضوء على شخصيات مهمّشة في التاريخ، وكأنّها تفتّش عن حقيقة المرأة التي طمرتها سلطة البطريركية من خلال التاريخ. مع أنّ كريستفا تنصح المرأة ألّا تفتّش عن حقيقة المرأة في التاريخ، لأنّه طمس إنجازاتها، ولكن شحاده تفتّش فيه عن المهمّشات، فنراها تتجسّد في شخصية مريم المجدلية ربما لتلمّح لحبيبها بأنّه لن يستطع أن يبني معها علاقة ناضجة إذا لم يكن متمرّدًا وقويًّا مثلها، وتذكّره بأن يخلع أيّ دور بطريركي قدّمه له المجتمع، ويختار دور الألوهة:

لا تقص فؤادي عن هواك

وتدمع روحي في دنياي

أنت النابي وأنت النبي

و الصديق والوفي

فيك خطيئتي وبك توبتي

وإلى منسكك أحجّ وأتعبّد 39

هذه الأسطر تشي بتمزّقها بين العالم الرمزي والسيميائي، وكأنّها تهرب من الجانب المظلم الذي يرثه الرجل من مجتمعه، وفي الوقت نفسه هي تحتاجه بل إنّ الحبّ دينها ” وإلى منسكك أحجّ وأتعبّد”.وفي عالمها على الهامش تعاني من نبذ الجميع لها:

 “أنا مثل يتيمة لا أبَ يحاكيها، ولا أمّ تغطّيها في غسق الألم” .  (41) .

وتسمّي نفسها امرأة من ضباب، وهذا يدلّ على خطورة المرأة التي تأخذ طريقًا مختلفًا عن نظيراتها في المجتمع.

أصبحت فقط  تكلّم كلماتها، وتصف نفسها بامرأة من ضباب،  فيشعر القارىء بأنّها هي نفسها لا تعرف ملامح هويتها…ولربما كباقي الكاتبات تلجأ إلى لغتها لأنّها مثلها قابلة لكلّ الاحتمالات. نراها في قصيدة أخرى تعيش في سراب:

 أنا عنواني أسرابُ الضبابِ

أسافرُ في مآقي الوجودِ في اغترابِ

وأحمل في حقائبي مجدَ الأحقابِ

أحيلُ بهِ السرابَ إلى سحاب53 

هذه الأسطر مشبعة بشعورها بالغرابة وعدم الانتماء حتى إلى السراب، ويبدو أنّ هذا الضياع يسبّب لها الكثير من الأحزان.

تجربة البوهيمية لشحاده تعكس مدى تمزّق المرأة المتمرّدة قي المجتمع الشرقي، فهي لا تستطيع أن تتحرّر من الرجل الذي يزرع فيه المجتمع بذور البطريركية مهما تحضّر، وفي الوقت ذاته لا تستطيع أن تتخلّى عن حلمها بحرّيتها المطلقة، فحتى لو استوطنت المتمرّدة لغة غجرية فإنّه لا مجال لها إلّا أن تعيش بين العالم الرمزي و السميائي لأنّها ،كما ذكرت كريستفا، تنتمي اللغة إلى العالم الرمزي وبالتالي ربما ما يسمّى بالأدب النسوي يكتب بصوت يتمرّد على ذكورية الرجل من جهة، ومن جهة أخرى دعوته إلى ولادة جديدة تغيّر المجتمع الشرقي من جذوره.

***

Cixous, H. (1986). The laugh of the Medusa, in Critical Theory Since 1965 (Eds. Hazard Adams and Leroy Searle), pp. 309-320. Tallahassee: Florida State UP

Kristeva, J. (1982). Powers of horror (Trans.LeonRoudiez). New York: Columbia U (First published in 1941, this edition was published in 1982)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *