النرجسيّة داء العصر الرقميّ

Views: 366

د. خالد صلاح حنفي محمود*

 

يُشير عددٌ من الدراسات إلى أنّ مستويات النرجسيّة (أَدرجتها جمعيّة الطبّ النفسانيّ الأميركيّة بديلاً لجنون العَظَمة في العام 1968) قد تزايدت في الأجيال الجديدة، ولاسيّما جيل الألفيّة الحاليّة، مُقارنةً بالأجيال القديمة كجيلَيْ السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي؛ وأنّ ثمّة علاقة إيجابيّة وثيقة بين ارتفاع مستوى النرجسيّة وبين استخدام وسائل التواصُل الاجتماعيّ، خصوصاً “فيسبوك” و”تويتر” و”إنستغرام”، التي باتت منصّات للترويج الاستعراضي للذّات والتفاخُر الشديد بها و”بخصالها المميّزة”.

ثمّة دراسة للباحثة ساديا مالك وماين خان (2014) توصَّلت خلالها إلى أنّ ” فيسبوك” يعمل على إبراز النرجسيّة وتعزيزها من خلال الخدمات التي يقدّمها للفرد لتجعله محطّ أنظار الجميع وتُشبع حاجاته الاستعراضيّة، وأنّ الإفراط في استخدام المَوقع لدرجة الإدمان عليه يزيد من مستوى نرجسيّة الفرد.

كما جاء في دراسة كاربنتر (Carpenter, Narcissism on Facebook, 2011) أنّ الأشخاص الذين حصلوا على درجاتٍ عالية في مقياس النرجسيّة، هُم أكثر رغبة في استعراض أنفسهم والبحث عن الاهتمام من خلال إضافة عددٍ كبير من الأصدقاء الغرباء وإدراج صورهم، ويركّزون على تحديثات الحالة والاطّلاع على كلّ تعليق أو إعجاب في ما يخصّ مشاركاتهم، كما أنّهم أكثر عدوانيّة تجاه التعليقات السلبيّة ويشعرون بقلقٍ عندما لا يحصلون على الاستحقاق والثناء والإعجاب من طَرف الآخرين، فهُم يرون أنفسهم يستحقّون السند والدعم الاجتماعي من طرف أصدقائهم من دون تقديمه لهم.

النرجسيّة كاضطراب في الشخصيّة

يَصف قاموس كولينز باللّغة الإنكليزيّة النرجسيّة Narcissism بأنّها “اهتمام استثنائيّ بالذّات أو الإعجاب بها، خصوصاً مظهرها الجسدي”، ما يعكس الإفراط في حبّ الذات، والاهتمام بالمظهر الخارجي وتضخيم الفرد لأهميّته وقدراته.

أمّا موسوعة ويكيبيديا فتُعرِّف النرجسيّة على أنّها حُبّ النَّفس أو الأنانيّة، وهو اضطراب في الشخصيّة حيث تتميّز بالغرور والتعالي، والشعور بالأهميّة ومُحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين؛ الأمر الذي لا بدّ أن يُذكّرنا بالأسطورة اليونانيّة، حيث يقع نرسيس أو نرجس في حبّ صورته المُنعكسة على سطح ماء البركة، فينشغل بها وينعزل عمّا حوله. وقد جسَّد عالم النفس المشهور فرويد Freud هذه القصّة واستعرَضها في كِتابه الذي نُشر في العام 1914 بعنوان Introduction on Narcissis، والذي يُعَدّ نقطة تحوُّل في التحليل النفساني وتأكيده أنّ الإنسان النرجسي يتميّز بالغيرة من الآخرين ومُمارسَة العجرفة عليهم.

وتشمل النرجسيّة مجموعة من الصفات الشخصيّة التي ربّما يكون لدى أيٍّ منّا بعضٌ منها، ولكن في الحالات الأكثر تطرُّفاً يتمّ تشخيصها في خانة الصحّة العقليّة بأنّها “اضطراب الشخصيّة النرجسيّة”:

1- السطحيّة في تناول الأمور

2- محاولة استغلال نقاط الضعف

3- حرص دائم على تجميل صورة الذات بشتّى الطرق

4- الشعور بأهميّة الإنجازات والمواهب التي يمتلكها إلى حدّ الاعتقاد بأنّه فريد من نوعه

5- الشعور بالاستحقاق، أي توقُّعات غير معقولة من معاملة خاصّة

6- حبّ استغلال الآخرين والاستفادة منهم لتحقيق أهداف خاصّة

7- الافتقار للتعاطُف مع الآخرين وإنكار احتياجاتهم العديدة والغيرة من نجاحاتهم.

ووفقاً لهذه السمات تُصبح الشخصيّة النرجسيّة شخصيّة معقّدة نفسانيّاً وسلوكيّاً. ولهذا يُشار إلى أنّها من أكثر الشخصيّات التي يصعب إرضاؤها أو التعامُل معها حتّى ولو من خلال الخضوع لها ولطلباتها، لذا ينصح علماء النفس الاجتماعي بتجاهلها وعدم الخضوع لها او لمطالبها الزائدة عن الحدّ الذي يُثير فيها حبّها لذاتها، وذلك كي تتعلّم هذه الشخصيّة العطاء قدر نزعة الأخذ.

كما يُصاحب الشخصيّة شعورٌ غير اعتيادي بالعظمة، وأنّه فرد نادر الوجود بين البشر، لا يُمكن أن يفهمه إلّا خاصّة الناس؛ وأنّه، بالتالي، ينتظر من الآخرين احتراماً استثنائياً لشخصه وأفكاره، وهو استغلالي وابتزازي ووصولي يستفيد من مزايا الآخرين وظروفهم في تحقيق مصالحه الشخصيّة. وهو غيور، مُتمركِز حول ذاته يستميت من أجل الحصول على المناصب، لا لتحقيق ذاته، وإنّما لتحقيق أهدافه الشخصيّة. ويميل النرجسيّون نحو إعطاء قيمة عالية لأفعالهم و”تقديماتهم”، والبحث كذلك عن المثاليّة في آبائهم أو بدائل آبائهم من حيث المركز والعطاء.

فهناك خَيطٌ رفيع بين النرجسيّة وحبّ الذات المَرَضي، وبين الثقة بالذّات التي تُعطي الإنسانَ التوازن الذي يحتاجه في الحياة من دون التأثير سلباً على علاقاته الإنسانيّة.

أنواع النرجسيّة

ثمّة أنواع متباينة من النرجسيّة:

1- نرجسيّة المَهمّة: حيث يأتي إعجاب النرجسي بذاته من قدرات فكريّة أو مهارات مميّزة يمتلكها أو إنجازات متفوّقة، فيتوقَّع جذب متابعيه نتيجة لذلك.

2- نرجسيّة اجتماعيّة: حيث يُعجَب النرجسي بنفسه من خفّة ظلّه وقدرته على سرْد الحكايات المسلّية، وعادةً ما يهتمّ هذا النَّوع من النرجسيّين بعرض الصور والتفاخُر بجوانب سطحيّة في الحياة.

3- نرجسيّة الجسد: حيث يُعجب النرجسي بمظهره ويهتمّ بالجمال بصورة متطرّفة، كمشاهير “هوليوود”، وربّما يُجري البعض، من فئة النرجسيّين هذه، عمليّات تجميل بمئات الآلاف من الدولارات لينالوا مزيداً من الرضا والإعجاب.

ويحرص النرجسيّون على إبراز الوجه الجميل والمثالي لحياتهم بعرض صور وتفاصيل تُبيِّن، على سبيل المثال، نظاماً غذائيّاً صحيّاً، ومُمارَسةً يوميّة للرياضة، وصوراً أخرى للاحتفال بمناسبات اجتماعيّة، تُسهم في إبراز علاقاتٍ متينة ومتميّزة مع أفراد الأسرة والأصدقاء والمُقرَّبين.

ويعرف النرجسي جيّداً أنّه لكي يُصبح مشهوراً وجذّاباً، لا بدّ من أن يجمع أكبر قدر من الأصدقاء والمُعجبين، حتّى ولو كانوا غرباء وسطحيّين. ولتحقيق مثل هذا الهدف فإنّه يكرّس الكثير من الوقت لتعديل صورته وإعدادها قبل نشْرها.

النرجسيّة في عصر التواصُل الاجتماعيّ

وفقاً لدراسات أُجريت عبر عقود، تصل النرجسيّة إلى الذروة في السنوات المبكّرة من البلوغ، حيث يظهر التمركُز حول الذات كمَلمحٍ واضحٍ لهذه المرحلة العمريّة. كما تُسجِّل العشرينيّات من العمر درجاتٍ عالية من النرجسيّة، ولهذا يَستخدم الشباب وسائل التواصل الاجتماعي بصورةٍ أكبر، بوصفها مَصادر لتعزيز الميول النرجسيّة. وفي الوقت الذي يُفضّل النرجسيّون الصغار “تويتر”، يُفضّل النرجسيّون الكبار “فيسبوك”.

وكَشَفَ تحليل لعشرات الدراسات التي تناولَت علاقة تقدير الذات والشعور بالوحدة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وعلاقة ذلك بالنرجسيّة بين مُختلف الأجيال، أنّ أصحاب تقدير الذّات المُنخفض والشاعرين بالوحدة بصورة أعمق يستخدمون وسائل التواصل هذه بشكل أكبر، سواء في شرق العالَم أم في غربه، وإنْ كانت هناك بعض الفروق وفقاً للثقافة الجمعيّة والفرديّة، حيث يختلف النرجسيّون الأميركيّون عن النرجسيّين الآسيويّين، كمثال، في طبيعة الموضوعات التي يطرحونها وعدد الأصدقاء والمُتابعين. كما يتفوّق النرجسيّون الألمان على النرجسيّين الروس بتسجيل قدر أكبر من الإعجاب.

وبيَّنت دراسةٌ أُجريت في جامعة إيلون الأميركيّة موافقةَ غالبيّة مَن استطلَعت آراءهم على أنّ أخْذ صور الـ “سيلفي” ونشْرها على منصّات شبكات التواصل الاجتماعي تؤدّي إلى تعزيز السلوكيّات النرجسيّة والأنانيّة.

أمّا أهمّ دواعي نشْر الصور، فهي أنّ الـ “سيلفي” يسمح لجمهورهم بمعرفة حياتهم الاجتماعيّة “الرائعة”، وتلقّي أكبر قدر من الإعجاب والتعليقات على الصور، أو الرغبة في أن يراهم الناس “رائعين” كما يبدون في الصور.

وهناك مَن رأى أنّ الدّاعي إلى ذلك هو إثارة غيرة بعض الأصدقاء القدامى، بينما اعتقدت مجموعة أنّ الناس يهتمّون بهم وبما يفعلون. وخلُصت الدراسة إلى أنّ جيل الألفيّة الجديدة يَستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، لا لخلْق علاقاتٍ شخصيّة والحفاظ عليها فحسب، بل لتقديم نفسه على نحوٍ مثالي؛ وأنّ كثيرين من هذا الجيل يشعرون بالحاجة إلى تقديم أنفسهم بطُرق لافتة وجاذبة لانتباه الأنداد على وجه الخصوص.

مميّزات وعيوب

أمّا ما يُميّز هؤلاء النرجسيّين، فهو تمتّعهم بسماتٍ شخصيّة إيجابيّة، كالقدرة على القيادة والحشد والإيجابيّة، وصوغ جُمل وشعارات بصورة لافتة للانتباه. ولأنّهم لا يحتملون تجاهُل الآخرين لهم، تكون حاجتهم إلى المُشاركة في الأنشطة كبيرة. كما تَسمح وسائل التواصُل الاجتماعي لأفراد منهم بالمُشاركة في شبكات ومنتديات وأنشطة واسعة المدى. ويسمح “يوتيوب” بتصوير أنفسهم وعرْض ما يصوّرونه ويسجّلونه من فيديوهات وإعلانات في العالَم الافتراضي.

وعلى الجانب السلبي، هناك سمة الاستغلال، وشعور النرجسي باستحقاق الاحترام والاستعداد للتلاعُب والاستيلاء على جهد الآخرين لكسْبِ الأضواء بأنانيّة؛ فلا يَسمح النرجسي، في الغالب، لمَشاعر الآخرين وحاجاتهم بإعاقة تحقيقه أهدافه، ما يفسد علاقاته بالمُقرَّبين منه.

ومن سمات النرجسي أيضاً الاستجابة بعدوانيّة ردّاً على أيّ تعليق يزدريه. ويغلب على كلماته الغضب والمشاعر السلبيّة مُقارَنةً بالتفاعُل الاجتماعي.

ويوجد نرجسي خفيّ يُعبّر عن نفسه بصورةٍ سلبيّة وغير مباشرة، ويكون مُستعدّاً للتنازُل. ويفتقد مثل هذا النرجسي الشعورَ بالأمان، ويتّصف بالعدوانيّة السلبيّة والدفاعيّة والإيذاء؛ ويكون قابلاً للجرح ومنطوياً على نفسه.

علاج النرجسيّة

أَثبتت بعض الدراسات وجودَ دليلٍ على أنّ الإفراط في تقدير الأطفال ومدْحهم من جانب الوالدَين وباقي أفراد الأسرة وغياب العلاقات الدافئة، هي من أسباب الإصابة بالنرجسيّة لدى الصغار. فوفقاً لنظريّة التعلُّم الاجتماعي، غالباً ما يكبر الصغار نرجسيّين مع شعورهم بالتفوُّق على الآخرين إذا بالَغَ الآباءُ والأمّهات في اعتبارهم متميّزين عن غيرهم من الأطفال.

وتحمل نظريّة التحليل النفساني تفسيراً يرى أنّ قصور الدفء الوالدي يُمكن أن يُحوِّل الأطفالَ إلى نرجسيّين يسعون على الدوام وراء استقطاب تقديرٍ من الآخرين لم ينالوا مثله من أسرهم.

ولهذا استُحدثت تدريبات لمُقدِّمي الرعاية للصغار المُصابين بالنرجسيّة كتدخُّلٍ علاجي يَمنع تطوّر الحالات، وذلك عبر جلسات يستطلع خلالها المُعالِج خبرات الطفولة الماضية، ويُصحِّح طُرق التعامُل والعلاقات بين الأطفال وذويهم.

لكنْ على الرّغم من اعتبار تدخُّل التدريب الوالدي فعّالاً لعلاج تطوُّر النرجسيّة في العمر المبكّر، فإنّ هناك دراسات أشارت إلى صعوبة علاج النرجسيّة بعد أن تتطوَّر، وذلك لأنّ النرجسيّين عادةً ما يُقاومون التغيير، ويعتبرون أيّ ملاحظة تُوجَّه إليهم من جانب الآخرين نقداً لاذعاً. ولكنْ ثمّة دليل على إمكان تغيّرهم في نهاية المطاف.

لكن من الناحية النظريّة، يُمكن تغيير النرجسيّين بإكسابهم سمات كالرعاية والدفء، وغرْس المبادئ الأخلاقيّة وتعزيزها في شخصيّاتهم. وما يحمل أمل الشفاء، هو التطوُّر الحاصل على صعيد العلاج الإكلينيكي للنرجسيّة، كالعلاج النفساني المتعلّق بتنظيم الذات والتحكّم فيها. ولا تزال الجهود تُبذَل لوضْع مزيد من الاستراتيجيّات الجديدة للتقليل من آثار النرجسيّة.

***

*أستاذ جامعي من مصر

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *