الذهب.. والحرب الاقتصادية العالَميّة

Views: 418

عدنان كريمة

في الوقت الذي كانت فيه معظم دول العالَم تحاول النهوض من تداعيات انتشار فيروس “كورونا “، واستعادة نشاطها الاقتصاديّ، جاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتفرض واقعاً جديداً، وقد وصفتها مؤسّسةٌ أمميّة بأنّها “مسدَّس موجَّه نحو الاقتصاد العالَميّ”، نظراً للضَرر الكبير الذي تُسبِّبه في مناطق كثيرة من العالَم النامي. ومع استمرار هذه الحرب وتداعياتها في ظلّ حالة عدم اليقين “الجيوسياسيّ”، تزداد عمليّات هروب المُستثمِرين من الأسهم والأصول الخطرة، واندفاعها نحو الديون السياديّة التي يرونها “رهاناً آمناً” على الرّغم من وجود مَخاطر قليلة. ولذلك يَبرز “الذهب” الأكثر أماناً كملاذٍ للمُستثمِرين والمُدّخرين. ومع زيادة الطلب على شرائه، تجاوزَ سعر الأونصة مع بداية الحرب 2020 دولاراً، ثمّ تراجَع إلى أقلّ من 2000 دولار، وسط توقّعات بعودته الى الارتفاع وفق مصرف “غولدمان ساكس” الأميركيّ، ليصل إلى 2500 دولار، ويستقرّ على هذا السعر، قبل نهاية العام الحاليّ.

دَخل الذهب بقوّة في حروبٍ عالَميّة للتجارة والعملات، وتداعياتها على سعر النفط، كونه سلعةً استراتيجيّة على مستوى الاقتصاد العالَمي. وتمّ التركيز على “المعدن الأصفر”، لأنّه “ملاذ آمن” للمُستثمِرين ومدّخراتهم، وكذلك لاحتياطات الدول في مصارفها المركزيّة، في ظلّ توتّراتٍ “جيوسياسيّة” واضْطراباتٍ أمنيّة في مناطق عدّة من العالَم. وإذا كان للذهب بريقه الذي يخطف الأبصار، ويتمّ شراؤه كسلعة فاخرة و”زينة للرفاهيّة الاجتماعيّة”، فإنّ اقتناءه يأتي تلبيةً للغريزة الأكثر عُمقاً وتجذُّراً في النَّفس البشريّة على مدى التاريخ. أمّا جاذبيّته الكبيرة لدى المُستثمِرين، فهي تكمن في النظرة إليه كأصلٍ “استراتيجي”، ومن أكثر الأصول التي تلعب أدواراً أساسيّة في أيّة محفظة استثماريّة.

ويُصادف العام الحالي مرور 78 عاماً على توقيع اتّفاقيّة “بريتن وودز” عام 1944 التي تمّ بموجبها استحداث نظام تسعير العملات للدول المتقدّمة اقتصاديّاً مقابل الدولار وسعر محدَّد من الذهب، وأصبحت العملة الأميركيّة عملة الاحتياط، والتزمَت الولايات المتّحدة بضمان تغيير قيمتها بوزنٍ معيّن من الذهب للدول الحائزة للدولار متى اقتضت الحاجة. لكن يبدو أنّ هذه الاتّفاقيّة لم تُدرك في حينها احتمال عدم قدرة أميركا على تغطية الاحتياطات “الدولاريّة” المُتراكِمة لهذه الدول، وقد حصلَ ذلك عام 1971 عندما قامت ألمانيا الغربيّة وفرنسا باستبدالهما الذهب بإحتياطيّات الدولار، واضطرّت واشنطن إلى التخلّي عن التزاماتها، وحَصل ما سُمّي “صدمة نيكسون”، بإعلان الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلغاءَ التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب.

حرب أوكرانيا

إذا كان شراء الذهب يُمثِّل الخيار المُفضَّل للمُستثمِرين عند حصول خضّاتٍ في أسواق الأسهم والنفط، لتفادي توظيف السيولة في تلك الأسواق، وما يحيط بها من خسائر ومخاطر، كما حدث قبيل الحرب الأميركيّة في العراق عام 2003، وخلال الأزمة الاقتصاديّة العالَميّة عام 2008، وأزمة تفشّي وباء “كورونا” عام 2020، فإنّ كلّ التوقّعات اليوم تبقى رهينة متغيّراتٍ عسكريّة وسياسيّة واقتصاديّة في ضوء مستقبل تداعيات الحرب في أوكرانيا ومدّتها، إضافة إلى مَساراتٍ تتعلّق بالملفّ النووي الإيراني. وأيضاً يرتبط مُستقبل”الذهب”هذا العام بمتغيّراتٍ تفرضها طريقة تعامُل المصارف المركزيّة مع الأزمة، والخيارات المرتبطة بأسعار الفوائد وسياسات التيسير المالي.

وفي سياق الخلاف السياسي والصراع الاقتصادي بين موسكو وواشنطن، سبق أن قرَّرت روسيا الهروب من العملة الأميركيّة في علاقاتها الدوليّة وتعاملها المالي والمصرفي، ووجدت في “الذهب” الذي بلغ سعره عام 2007 نحو 750 دولاراً للأونصة “ملاذاً آمناً” لمُدّخراتها، وكان متّجهاً صعوداً بشكلٍ صاروخي، متأثّراً بتداعيات الأزمة الماليّة العالَميّة. وقد استغلّت هذا الارتفاع، وبدأت مسيرتها ببيع ما في حوزتها من سندات الخزانة الأميركيّة وتشتري بحصيلتها ما تستطيع من المعدن الأصفر، ما أدّى إلى تراجُع حصّتها بهذه السندات من 176 مليار دولار عام 2010 إلى 96 ملياراً عام 2018، ثمّ إلى 2.4 مليار دولار فقط بنهاية العام 2021. ولكن في المقابل ارتفع ما لديها من “الذهب” إلى 2298.5 طنّ، وتحتلّ حاليّاً المرتبة الخامسة في لائحة أعلى الدول (وفق مجلس الذهب العالَمي) وتأتي بعد الولايات المتّحدة (8133.5 طنّ)، ألمانيا (3359.1 طنّ)، إيطاليا (2451.8 طنّ)، فرنسا (2436.4). وبذلك استطاعت تعزيز احتياطي البنك المركزي الروسي، مع العِلم أنّ مخزون احتياطي الذهب لدى البنوك المركزيّة في العالَم بلغ 35571.3 طنّ في كانون الثاني (يناير) الماضي.

ووفق الإحصاءات الرسميّة، تتكوَّن الاحتياطيّات الروسيّة من صناديق العملات الأجنبيّة وحقوق السحب الخاصّة مع صندوق النقد الدولي والذهب النقدي، وقد بلغت في 23 شباط (فبراير) أي قبل الحرب، نحو 643.2 مليار دولار، ولكنّها انخفضت بحلول 25 آذار (مارس) إلى 604.4 مليار دولار.

ومن الطبيعي أن يُستخدم هذا الاحتياطي في تمويل الإنفاق الروسي العامّ، وبخاصّة الإنفاق الدفاعي وما تقتضيه متطلّبات الحرب مع أوكرانيا. وإذا كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدة ودول الاتّحاد الأوروبي وجَّهت ضربةً قويّة للاقتصاد الروسي، وجمَّدت نحو300 مليار دولار من احتياطه النقدي، فإنّها لم تستهدف بشكلٍ مباشر احتياطي “الذهب”، لذلك تسعى مجموعةٌ من أعضاء الكونغرس الأميركي إلى تشديد الخناق المالي على روسيا، وإصدار قانون يمنعها من التصرُّف في السيولة الموجودة في خزائنها، بما فيها استخدام المعدن الأصفر، ويستهدف كذلك حتّى الأطراف التي تُساعد روسيا في تمويل حربها من خلال شراء أو بيع ما سمّي بــ “الذهب الدموي”.

صمود الروبل

مع تراكُم التداعيات السلبيّة للعقوبات وخسائر الحرب، بدأ سعر الروبل يتراجع حتّى وصلَ إلى نحو 150مقابل الدولار الواحد، وفَقَدَ بذلكنصف قيمته، ولكنّ موسكو ردَّت بخطّةٍ دفاعيّة، شملت سلسلة إجراءات وضوابط ماليّة، أهمّها الحدّ من خروج الأموال والاستثمارات الأجنبيّة، إضافة إلى إجراءَيْن مُهمَّيْن:

الأوّل، دفْع ثمن مبيعات النفط والغاز بالروبل، وكذلك دفْع أقساط ديون “اليوروبوند” المُستحقَّة، بعدما تصاعدت المَخاوف من فشل روسيا في سداد ديونها السياديّة، حتّى أنّ وكالة “فيتش” للتصنيف المالي حذَّرتها من خطر التخلُّف عن الدفع. وكانت موسكو قد أصدرت سندات بالعملات الأجنبيّة بقيمة 38.5 مليار دولار، يمتلك مُستثمرون أجانب منها نحو 20 مليار دولار، وفق بيانات جَمَعَتْها “الفيننشال تايمز”، وتستحقّ على الشركات الروسيّة أيضاً 100 مليار دولار أخرى. وبما أنّه يتعذّر عليها دفْع الأقساط المُستحقَّة بالدولار بسبب العقوبات، أعلنت عن استعدادها لدفْعها بالعملة الروسيّة، ولكنّها اصطدمت بأنّ مالكي السندات، بما في ذلك صناديق استثمار غربيّة، سيمنعون من إنشاء حسابٍ مصرفي روسي يتلقّون فيه الروبلات. وعلى الرّغم من هذه المشكلة، أعلنت وزارة المال في موسكو أنّها اضطرّت إلى تسديد مبلغ 649.2 مليون دولار لدائنين أجانب بالروبل، بعدما رَفَضَ مصرفٌ مُراسِل إتمام أوامر الدفع بالعملة الأميركيّة.

الثاني، أعلان بنك روسيا المركزي عن ربط الروبل بالذهب، وقد قام بعمليّات الشراء بسعر 5000 روبل (59 دولاراً) للغرام الواحد، وستستمرّ هذه العمليّات حتّى حزيران (يونيو) المُقبل، بما يعني تثبيت سعر الروبل قياساً للذهب، وهي سابقة لأيّ عملة منذ قيام نظام “بريتون وودز” حينما رُبطت كلُّ العُملات بالدولار.

ولوحظ أنّ كلّ هذه الإجراءات أسهمت في استعادة قيمة صرف الروبل ليسجِّل 76 للدولار، بعد شهر ونصف من بدء الحرب، وتمكَّنت موسكو من تجنُّب انهيار نظامها المالي، ولكنْ على حساب مزيدٍ من عزْلِ روسيا عن التمويل العالَمي، وتراجعها الاقتصادي. وتوقَّع مؤتمرُ الأُمم المتّحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أن تُعاني روسيا من ركودٍ عميق هذا العام بانكماش معدّله 7.3%، وحدوث تباطؤٍ كبير في النموّ في أجزاءٍ من أوروبا الغربيّة ووسط وجنوب شرق آسيا. بينما أَظهر استطلاعٌ للرأي أجرته “بلومبرغ”، أنّ النّاتج المحلّي الإجمالي لروسيا سينكمش بنسبة 9.6 % في العام الحالي، ونحو1.5 % في العام المُقبل. أمّا بالنسبة إلى الاقتصاد العالَمي، فقد خفَّض تقرير “الأونكتاد” نموَّه إلى 2.6%، مقابل توقّعاتٍ بلغت 3.6 % في أيلول (سبتمبر) الماضي، مع الأخذ بالاعتبار الحرب في أوكرانيا، و”تشديد سياسة الاقتصاد الكلّي في الاقتصادات المتقدّمة”.

سيطرة الدولار

هكذا يكون الروبل صمَدَ في مرحلة “الدفاع ” ولو بحدودٍ معيّنة، لكنّ احتمال انتقاله إلى مرحلة “تحدّي الدولار” هو أمرٌ مُستبعَد كلّيّاً لصعوبة تحقيقه، وخصوصاً أنّه وفق إجماع تقارير الخبراء، لا يوجد حاليّاً أيّ عملة قادرة على استبدال الدولار المُسيطِر على النظام المالي العالَمي، وهو سلاح “فتّاك” تمتلكه الولايات المتّحدة بوجه الدول التي تتحدّاها، وهي لا تزال قائدة للاقتصاد العالَمي ومَصدراً رئيساً للسيولة العالَميّة. وربّما يكون البديل تكتُّل قوى اقتصاديّة عالميّة مُتّحدة تُواجِه النظام القائم، فهل يستطيع تكتُّلُ دول “البريكس” الذي يضمّ روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ويُمثّل 24 % من الناتج المحلّي العالمي، أن يقود أحلافاً تجاريّة عدّة إلى إنشاء آليّات دفع خاصّة بها، وأن تكون مستعدّة للقيام بتبادُلاتها التجاريّة بالعُملات المحليّة، وتنزع دوْلَرة النظام العالَمي؟

تُحاوِل مجموعة الـ “بريكس” تحقيقَ هذا الهدف منذ سنواتٍ عدّة ، ووضَعت بعضَ الأُسس التي يُمكن أن تكون بمثابة بنى تحتيّة لنظامٍ مُوازٍ، حيث أَنشأت “بنك التنمية الجديد ” الذي يلعب دوراً شبيهاً بدَور صندوق النقد الدولي في تمويل المشروعات التنمويّة بعُملات دول المجموعة، وتعمل على نظامِ دفْعٍ جديد، يُمكن أن يدمج من خلال إنشاء عملة رقميّة خاصّة بالمجموعة؛ كما تقوم هذه الدول على الصعيد الفردي بمُبادراتٍ لفكّ الارتباط بالدولار، مثل الصين التي أصدرت منذ سنوات قليلة عقوداً آجلة للنفط مقوَّمة باليوان، وأَنشأت نظام تحويلات لليوان عبر الحدود، يوازي نظام “سويفت”، ونظاماً آخر خاصّاً بالروبل. لكنْ يبدو أنّ كلّ هذه الإنجازات غير كافية للخروج العالَمي عن هَيمنة العملة الخضراء، لأنّ معظمها يأتي في سياقٍ فردي، أو اتّفاقات ثنائيّة، إضافة إلى وجود عوائق عدّة ومتنوّعة، بسبب العلاقات المتأرجحة بين بعض دول المجموعة، مثل الهند والصين، حتّى أنّ اقتصادات البرازيل وجنوب إفريقيا مكشوفة بشكلٍ كبير على العقوبات الأميركيّة ، كونها منخرطة في نظام “الدولار العالَمي” أكثر من باقي دول المجموعة، ولكن يرى بعض المُراقبين أنّ الحرب الأوكرانيّة مع تداعيات العقوبات ضدّ روسيا، وتجميد أصول أموالها واستثماراتها، قد يكون حافزاً لهذه الدول كي تسعى إلى تخفيف اعتمادها على نظام الدولار الأميركي.

***

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *